الخميس، 5 نوفمبر 2020

نينه نعمات.

 

نينه نعمات

 

كانت الجدة " نعمات"، أو" نينه" نعمات كما كنا ندعوها زوجة أحد أعمام أبي، لكنه لم يكُن مُجرد واحدًا من الأعمام الكثيرين لأبي، فقد كان د. عبد العظيم هو ذلك العم الذي انتقل أبي للإقامة ببيته بالقاهرة للالتحاق بالتعليم الثانوي بعد حصوله على الشهادة الابتدائية من مدرسة القرية المجاورة لقريته " بمُديرية" الشرقية.  بمُجرد وصول الصبي " محمد فهمي" إلى بيت عمه بحي المنيل الساحر تلقفته يد زوجة عمه الحانية فذاب فورًا بين أبنائها الخمس فلم يعاني – حسب رواياته لنا على مدار العُمر- لحظة اغتراب واحدة، أو افتقاد لحنين الأُم رغم ستون كيلو مترًا تفصل بينه وبين " البيت الكبير " حيثُ تُقيم أمه وتنتظره في الإجازات لتُغدق عليها من حنانها.

حين تنظُر إلى الصور العائلية لأُسرة د. عبد العظيم في فترة الأربعينيات؛ سواء تلك الصور التقليدية للأب واقفًا ببذلته وطربوشه وإلى جواره الأُم ومن حولهما الأبناء والبنات، أو الصور الأُخرى التلقائية في المصيف أو سطح البيت أو في أحد المتنزهات، إذا نظرت إلى أي من تلك الصور لن تستطيع أن تُميز وجود صبي ليس من أبناء هذين الوالدين لا من حيثُ ترتيب الوقوف ولا من درجة الحميمية ولا من أي مؤشر كان، فقط يُفصح عن ذلك الفارق في الملامح ، حيثُ كان " جدي عبد العظيم" و"نينه نعمات"، وبالتالي كُل أبنائهم يتمتعون ببشرة وملامح وعيون وحتى شعور توحي بأن الصورة لأُسرة أوروبية ما ، في حين كان الصبي محمد فهمي يتميز ببشرته القمحية التي لوحتها شمس القرية وتشربت بطمي مياه " الرشاح" الذي تعّلم فيه السباحة، فضلًا عن شعره الأسود المجعد كعموم المصريين. كان هذا الفارق في الشكل هو الفارق الوحيد، وإذا كان ثمة تمييز ما في المُعاملة فقد كان دائمًا لصالح ذلك الصبي الضيف يتيم الأب.

كانت نينه نعمات ابنة لعائلة " زاهر " العريقة وكانت تتمتع بملامح يظن الرائي أن صاحبتها تنتمي إلى إحدى الدول الإسكندنافية! بشرة بيضاء مُشربة بحُمرة خفيفة أو فلنقُل وردية، وشعر ناعم كثيف بلون الذهب وعيون صافية الزرقة وفم دقيق كأفواه الأطفال.. لم تنجح السنون والعقود التي وصلت بحياتها إلى مشارف المائة عام في أن تنزع عنها ولو القليل من ذلك الجمال الآسر، غير أن تاجها الذهبي تحول إلى تاج بلاتيني، فضلًا عن تجاعيد الزمن وتضائل البدن، لكن كُل ذلك لم يكُن كافيًا لينزع عنها اللقب الذي أجمع عليه الجميع من الأبناء والأحفاد والأقارب حتى يومها الأخير... كُنا جميعًا نُشير إليها: " الجميل".

-       إيه اللي أخرك على ميعادك؟

-       كُنت بازور" الجميل".

-       وصحتها عاملة إيه؟

-        الحمد لله ماشية، أصرّت تغديني وعملت لي بإيديها غدوة ملوكي.

مثل هذا الحوار كنت تسمعه كثيرًا في أوساط العائلة حتى بعد أن جاوزت نينه نعمات التسعين!

ظل أبي طيلة حياته يتغنى بمآثر "جدي عبد العظيم" و" نينه نعمات" وأفضالهما عليه، وكذا نوادر حياته في بيتهما السعيد.

يذكر مثلًا أنه في إحدى المرات "أخذته الجلالة" وصفع ابنة عمه على وجهها لوقوفها في الشباك، بكُل ما كانت تتمتع به من جمال، في ظل وجود شباب من أبناء الجيران في البيوت المُقابلة! هرعت الصغيرة الجميلة " ليلى" إلى أبيها تشكو له ما فعله " محمد "، والذي وقف بدوره مذهولًا مما جنت كفه! كيف يضرب ابنة عمه وهو ضيف في بيت أبيها؟ وماذا سيكون رد فعل العم؟ فوجئ " محمد" بصوت عمه يرُد على ابنته بهدوء: " أخوكي وبـ “يربيكي" ولازم تسمعي كلامه"! ثُم نادى على أبي وقال له – بعد أن انصرفت ليلى إلى غُرفتها باكية-  وبنفس الهدوء الذي أجاب به على ابنته الوحيدة:

-       ضربتها ليه؟

-       كانت واقفة في الشباك وابن الجيران طالع في بلكونتهم، دمي فار.

-       طيب التصرف ده ما يتكررش، ما ينفعش تضرب بنت عمك، أنا نفسي ما بضربهاش، لما يكون فيه حاجة زي كده تيجي تقول لي.

كان هذا هو كُل رد الفعل، وواقع الأمر أن الصبي " محمد فهمي " كان يتمتع في بيت عمه بمكانة ورعاية من العم وزوجته، تفوق عنايتهم بأبنائهم أنفسهم، فهو الضيف يتيم الأب والذي تكفل به جده لأبيه، والذي هو عم د. عبد العظيم، وهذا الجد أيضًا هو الذي حدد بيت د. عبد العظيم لإقامة حفيده من بين جميع الأعمام الآخرين، فقد كان يعرف جيدًا بين أيدي من يضع حفيده مُطمئنًا، ليس فقط ثقًة بابن أخيه، لكن- وهذا هو الأهم- بزوجته " نعمات هانم" تلك السيدة ذات الأصل الطيب والقلب الحنون.

كان من السهل عليَّ شخصيًا أن ألمس صدق الأساطير التي يرويها أبي عن " نينه نعمات، وجدي عبد العظيم" فمن حُسن حظي أن التاريخ أعاد نفسه معي بشكل مُدهش، فأنا أيضًا، ولظروف عمل أُمي انتقلتُ في اليوم السابع لولادتي للإقامة في بيت عمتي، وحتى التحقت بالمدرسة الابتدائية الموجودة في نفس الشارع، مدرسة النيل القومية، وكان هو ذات البيت الذي عاش فيه أبي مع عمه وزوجته!

ذلك أن عمتي التي عشتُ ببيتها كانت زوجة الابن الأكبر لعمها د. عبد العظيم، فكانت – وكُنت معها ومع أُسرتها- تُقيم في الشقة التي تعلو شقة جدي عبد العظيم ونينه نعمات في بيته الخاص في ٨ شارع الدكتور حلمي حسين بالمنيل.

كان من حُسن طالعي أن عاصرتُ جدي عبد العظيم ونينه نعمات شخصيًا، وكأنني سافرتُ في الزمن لأشهد بنفسي كيف كان أبي يعيش بينهما وبين أبنائهما، وكيف كان الصبي الذي يتمتع بكُل التمييز والعناية، وكأنما انتقلت إليَّ مكانة أبي عند هذه الأُسرة، بالطبع تمتعت عند عمتي وزوجها، أو " ماما كوثر" و" بابا أحمد " بتمييز فائق بصفتي " آخر العنقود في البيت بعد أبنائهما الأربعة، والذين كان أصغرهم يكبرني بنحو الخمس سنوات، فكانوا يتسابقون علي رعايتي والاهتمام بي . حين أصبت بالحصبة رضيعًا كانت ماما كوثر ترقد في فراشها وتضعني على صدرها أملًا في أن تنتقل بعض حرارتي العالية إليها فتُخفف عني إلى جانب علاج الطبيب، وحين صرتُ طفلًا في الابتدائي كانت أبله ناهد وأبله كاميليا و" أخويا ظيمة" ( عبد العظيم) واخويا عاصم يتسابقون على مساعدتي في استذكار دروسي وتعليمي رسم الخرائط وما إلى ذلك، رقصت التويست مع أبلة كاميليا الجميلة في صالة المنزل، وذهبت مع أبلة ناهد – أكبر البنات- إلى السينما والنادي وأعياد ميلاد صديقاتها ، رقيبًا سريًا شديد القِصَر وبتكليف سري من  ماما كوثر، وواصلت مهمتي السرية حين تمت خطبتها وبدأت في الخروج مع خطيبها! أما " أخويا عاصم" أصغر الأبناء، فقد كنا لا نتوقف عن لعب الكرة بجوارب المدرسة الملفوفة داخل بعضها بصالة المنزل الواسعة وقت العصاري والذي كان وقت قيلولة منتصف اليوم المُقدسة في هذا البيت صارم النظام بحُكم كون رب البيت (بابا أحمد) ضابطًا بالجيش، فضلًا عن صرامة ماما كوثر الفطرية الموروثة. وحين كنا نحقق من الإزعاج ما يكفي لإيقاظ ربة البيت قبل موعدها المُحدد كانت تُعاقبنا بالاحتجاز في غُرفة نومها حتى تستيقظ، وتفرض علينا النوم فرضًا: أنا إلى جوارها، وابنها فلذة كبدها تضع له مخدة على أرضية الغرفة!!!

هكذا إذن عشتُ تلك السنوات أرفل في موجات الرعاية الفائقة وتردداتها الآتية من زمن صبا أبي، ليس فقط في شقة عمتي، ولكن أيضًا في الدور الأسفل أي في شقة جدي عبد العظيم ونينه نعمات، بل وربما بشكل أوسع، أي المزيد من التدليل غير المصحوب بدرجة الصرامة الموجودة بالدور العلوي، كشيم الأجداد والجدات عادة.

عند نينه نعمات لا شيء سوى اللهو واللعب والجري في أرجاء الشقة الفسيحة مع أحفادها من أقراني: الثُلاثي الجميل سناء وسحر وحماده، وأبني عمتهما (وعمتي وعمي في ذات الوقت) قدري وهشام، ومن يستجد من زوار من أطفال العائلة. ظلت نينه نعمات تضاحكنا وتروي لنا حكايات ونوادر آبائنا في طفولتهم وصباهم، وتصنع لنا الأطباق الشهية، وتُضفر بأصابعها الشفافة الرقيقة شعر سناء أو" سن سن" الناعم الطويل الغزير، وتغزل التريكو والكروشيه مُنذ طفولتنا في الستينيات، وحتى مطلع الشباب في الثمانينيات في دأب وسعادة استكمالًا لمشوار عمرها مع آبائنا.

في حديقة بيت جدي عبد العظيم الفسيحة بالإسكندرية في ٣٩ شارع ابن مُصلح (الأرمن سابقًا) كان يجلس أحيانًا على أحد كراسي الحديقة، وأحيانًا على كُرسي مُتحرك حسب حالته الصحية في نهايات الستينيات، بينما نلهو ونجري من حوله أنا وحفيدته سحر، ولا يخلو الأمر من أن أقوم بمُمارسة بعض من "غلاستي" الفطرية التي رافقتني مُنذ الطفولة، والتي لم ارثها عن أحد وإنما صنعتها على عيني وعشتُ أُباهي بها وأُغدق منها على أهلي وأصحابي على مدار عُمري، ثُم صارت كلها من نصيب زوجتي الصابرة المحتسبة! فأقوم مثلًا بالتقاط فرع صغير من فروع أشجار الحديقة وألوح به أمام وجه سحر بل أقربه حتى يكاد يدخل في عينها، ولا تحاول هي الابتعاد حتى " تُثبت حالة" أمام جدها، فلما يطول تجاهُل الجد للأمر تهرول نحوه وتشكو له:

-       شايف يا جدي طارق بيعمل إيه؟ الخشبة كانت ح تدخل في عيني.

-       دخلت في عينك؟ لمستك حتى؟

-       لأ.

-       خلاص، هو حُر ابعدي انتي وشك عنها.

ثُم ينظُر نحوي خلسة بعينيه الجميلتين مُعاتبًا وناهيًا... نفس التحيُز القديم المُراعي لظروف الضيافة الذي كان يسلكه مع أبي.

في أحد أيام عام ١٩٦٩ ونحن في انتظار أبي في مطار القاهرة عائدًا من الأُردن أطللنا عليه من شُرفة المطار وهو في صالة الجُمرك وأخبرته أُمي من خلف الزُجاج بحركة شفتيها: " بابا عبده تعيش انت" فانهمرت دموعه بلا حساب كطفل تيتم فقط في تلك اللحظة، وكان أبيه قد غادر الدُنيا وهو في سن التاسعة، وبرحيل جدي عبد العظيم، وجدتي أُم أبي قبله بسنوات قليلة بقيت " نينه نعمات" أُمًا وجدة وحيدة للجميع، وظل بيتها المركز الذي ننطلق منه ونعود إليه، والملاذ العامر بالخير والحنان والذكريات الجميلة الذي نحتمي به وبقاطنته الغالية من هجير الزمن ومتغيراته المُفزعة.

كنا في المصيف جميعًا في بيت جدي عبد العظيم في الإسكندرية في نهاية السبعينيات، وجاءت مُناسبة زفاف في أوساط العائلة في القاهرة فسافر الجميع لحضور الزفاف ورفضت أنا وحمادة وحدنا السفر وقطع مصيفنا بوصفنا شبابًا جامعيين مُستقلي الإرادة. انزعج الآباء والأمهات متسائلين: " ح تاكلوا ازاي وح تتصرفوا ازاي في البيت والهدوم.. إلخ؟"

أسكتت نينه نعمات اعتراضات الجميع بصوتها الرقيق الواهن: " اقفلوا انتو الشُقق وهما ح يجيبوا هدومهم وينزلوا يقعدوا معايا في الڤيلا لغاية لما ترجعوا".

فكانا يومين من الأحلام.. حُرية مُطلقة وطعام شهي وحكايا وذكريات في نهاية اليوم من أجمل ما يكون، كانت معها خادمة صغيرة لا يجاوز دورها تنظيف البيت، بينما كانت نينه نعمات تطبخ لنا بنفسها وتغزل لنا حكاياها السحرية، بل وترتق جواربنا بأصابعها الرقيقة التي صارت شديدة الضعف والتي كانت أحيانًا تلتف علي بعضها البعض وتجد صعوبة في فكّها.

كانت تحرص على أن تُزين يدها بساعة رقيقة وتحرص على النظر فيها من وقتٍ لآخر، وكانت بعض نساء العائلة يتندرن ويتعجبن فيم يشغلها الوقت في هذه السن! وحين تعطلت الساعة سلمتها لحفيدها قدري وكلفته بإصلاحها عند محل معين بالقاهرة، وحين عاد إلى الإسكندرية سألته عن الساعة بمُجرد دخوله، وكان قد نسيها في القاهرة. بان الحرج الشديد على وجه قدري العاشق لجدته، ثُم تفتق ذهنه عن فكرة فأخد يُماطلها بحكاية لا مغزي لها عن عادة تعودها بمُجرد نزوله من القطار بأن يذهب إلى محطة الرمل ليشرب أقداحًا مُتتالية من الخروب عند محل" خروب آمال"  الشهير بجوار سينما مترو، وأن خروب آمال لا يُعلى عليه، وهي تُقاطعه سائلةً عن الساعة وهو يُكرر الحكاية: "أصل انا متعود أول ما انزل اسكندرية لازم أول حاجة أعدي على خروب آمال...." ، حتى أدركت أنه نسيها في القاهرة فبدأت تضحك وتُجاريه وتسأله عن تفاصيل أكثر بشأن خروب آمال وانخرطنا جميعا في الضحك لطرافة الموقف من جانب، ولسعادتنا بكُل هذه السماحة التي تفيض بها نينه نعمات من جانب آخر.

في سنوات عُمرها الأخيرة حولها الكَبر إلى ما يُشبه كُرة من السحاب الأبيض الذي لا مكان له سوى في السماء، وكُنتُ أراها تجلس في مجالس العزاء العائلية بمناسبة رحيل قريب أو آخر من أجيال تالية لها وأسمعها تُتمتم في حرج:" العيال الصغيرة بتموت وانا قاعدة، الواحد مكسوف زمان الناس بتبص لي وتقول قاعدة تعمل إيه دي؟" كم تألمت لكلماتها تلك وهممتُ بأن أقول لها بل نرحل جميعًا وتبقين فأنت لا تعرفين قدرك ومقامك في النفوس... لكني امتنعت حتى لا يؤلمها استماعي لتمتماتها.

في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين صعدت سحابة العائلة ناصعة البياض إلى سمائها، رُبما عادت من حيثُ أتت أصلًا... رحلت نينه نعمات، والتي لم يكُن هذا اسمها الحقيقي، فكما كان شائعًا في زمانها مُنحت اسما في شهادة الميلاد، لم يعد يتذكره أحد، ونوديت باسم" نعمات" ولعله كان الاسم الأنسب لها والأصدق في وصفها فقد كانت نهرًا من النِعم سبحنا فيه جميعنا أطفلًا وصبية وشبابًا...

جلست إلى جانب أبي في سُرادق العزاء: طفلٌ من الأربعينيات وطفلٌ من الستينيات يتجرعان يُتم رحيل " نينه نعمات".

طارق فهمي حسين

نوفمبر ٢٠٢٠

 -----------------------------

* الصورة في الهرم ١٩٤٩

 

 

الجمعة، 7 أغسطس 2020

موله.

موله

===

اليوم هو السابع من أغُسطس وهذا أمرٌ بالنسبة لي- لو تعلمون- عظيم، ذلك أنه في مثل هذا اليوم أرسل لي الله سبحانه أول ورُبما أهم طلب أطلبه منه في بدايات حياتي، وإن كُنت وقتها لا أدرك بعد إلى من يجب علّي أن أتوجه بأُمنياتي، ذلك أنني كُنت أتحسس خُطاي نحو إتمام عامي الثالث على هذه الأرض، لذا فقد توجهت بطلبي لمن اتسعت مداركي المحدودة في تلك السن لإدراك وجودهما: أُمي وأبي... كان الطلب أو الأُمنية العزيزة الأولى ببساطة: "أنا عايز أُخت" واسميها "أمل" أو " رندا"، كان هذين الاسمين تحديدًا لعروستين صغيرتين اشترتهما لي ابنة عمتي الكبيرة من مكتبة الأمل الشهيرة بشارع المنيل، وكُنت أصحبهما إلى حيثُ أذهب، نعم كُنتُ صبيًا أقتني العرائس الجميلة، بالتأكيد كُنتُ ألعب بالمُسدسات وغيرها من ألعاب الصبيان، لكني كُنتُ أيضًا أحب العرائس الجميلة، وكانت العروسة" رندا" شقراء في حين كانت العروسة " أمل" ذات شعر أسود جميل.

هكذا، طلبتُ تحديدًا أُخت ولم أطلُب أخ، كما حددتُ لأُمي وأبي اسمين ليختارا بينهما ولا يحيدان عن أحدهما!

وبالفعل، وقبل أن أُتم عامي الرابع أرسل لنا الله: " أمل" أو" موله" كما اعتدنا أن نُناديها دائمًا...

شرعتُ، كطفل يتعجل الأمور، في اللعب مع شقيقتي حتى قبل أن تولد، فكُنت أضع كفي الصغيرة على بطن أُمي مُتحسسًا وجود" أمل" التي كانت- فيما يبدو- تشعُر بيدي فتهرب إلى جانب آخر من جوانب بطن أُمي فأعاود البحث عنها بكفي.. وهكذا!

كُنا نسكُن في ٥ شارع معروف بوسط القاهرة حيثُ ولدتُ أنا، لكن في إطار الاستعدادات لوصول " أمل" ظهر الاحتياج لغُرفة إضافية فانتقلنا إلى شقة أكبر في ٣ شارع رُشدي على بُعد شارعين أو ثلاثة من العنوان السابق. لم أحضر وقائع الانتقال للشقة الجديدة، كما لم أحضر لحظة ميلاد أمل، والتي حضرت للدُنيا فور اطمئنانها لانتقال الأُسرة إلى شقة جديدة تتسع وتليق باستقبالها، فولدت بالفعل في هذه الشقة، وعرفتُ بعدما كبرنا أن أبي قد سقط مغشيًا عليه حين حاول الطبيب المولد الاستعانة به لمناولته بعض الأدوات، وهو مشهد يبدو غير منطقي لمن يعلم أن هذا الرجل؛ أبي حمل السلاح على خطوط النار قبل ذلك اليوم وبعده مرات ومرات على مدار حياته! لكن من عرف " فهمي حسين" عن قُرب، وبحق، يُدرك بداهة هذه الواقعة إذ نتحدث عن رجُل يحمل أرق المشاعر وأكثرها شاعرية تجاه كُل ما هو ضعيف، وينقلب أسدًا هصورًا في مواجهة أعداء الوطن والحياة، لكن هذه قصةٌ أُخرى.

أقول لم أحضر وقائع الانتقال للشقة الجديدة، ولا لحظة ميلاد "أمل" وسقوط أبي مغشيًا عليه في شرف استقبالها، ذلك أنني كُنت في الإسكندرية في صُحبة عمتي الكبيرة (ماما كوثر) والتي كانت إقامتي الأساسية معها ومع أُسرتها الجميلة مُذ كان عُمري سبعة أيام فقط لظروف كون أُمي سيدة عاملة يتوزع مُعظم وقتها بين عملها بمسرح العرائس وبين الاتحاد الاشتراكي ونشاطاته المُختلفة في ذلك الزمان.

حين وصلنا في الإسكندرية " ترنك" يفيد بميلاد أمل قام" بابا أحمد" زوج عمتي العظيم الجميل، والذي هو ابن عم أبي أيضًا، بقطع أجازة المصيف لعدة ساعات واصطحبني بالقطار إلى القاهرة حيثُ استقبلنا في محطة رمسيس شقيق أبي (عمي عبد الرحمن) ليتسلمني من بابا أحمد الذي قفل عائدًا إلى الإسكندرية في القطار التالي!

ذهب بي عمي إلى بيتنا الجديد في ٣ شارع رُشدي للمرة الأولى وأفهمني في الطريق أننا انتقلنا لشقة أكبر وأجمل، وأن أُمي أنجبت " أمل" كما طلبت بالضبط! وما أن وصلنا حتي فتح لنا أبي باب الشقة فاندفعتُ أولًا أركُض في جنبات المكان مُستكشفًا مُستغربًا حتى وصلتُ إلى غُرفة رأيتُ فيها مهد طفولتي المعدني ماركة إيديال  ذو اللون اللبني والرسوم الجذابة والعدّادات الكروية الملونة على جانبي أسيجته فشعرتُ بالأُلفة والانتماء للمكان وغمرتني فرحة شديدة وعدت راكضًا إلى الصالون لأجد أُمي جالسة بوجه مُضيء على أحد الكراسي وعلى الكُرسي المجاور تجلس " طنط كريمان" صديقة أُمي وزميلتها في مسرح العرائس حاملةً طفلة جميلة مُستديرة الوجه وديعة العينين، نسيتُ ما أخبرني به عمي في الطريق، وبسذاجة سني سألت: بنتك دي يا طنط؟ دي جميلة أوي، فأجابتني ومعها أُمي في نفس واحد: دي أُختك أمل.

في ظني، بل في يقيني أن تلك كانت واحدة من أجمل وأسعد وأنبل لحظات العُمر، اقتربتُ وقد غمرتني سعادة عظيمة مُستكشفًا هذه الأُخت التي طلبتها فحضرت دون تردد، أخذت ألمسها بحذر وأمد إصبعًا إلى باطن كفها شديد الصِغر فتلف كامل أصابعها حول إصبعي الصغير أيضًا!

**

حين وُلدتُ أنا كنت المولود الأول للأُسرة، فكان أبي يملأ بيانات شهادة ميلاد للمرة الأولى في حياته، فوضع في خانة اسم المولود: طارق فهمي حسين وكان يتعين أن يكتب" طارق" فقط، وفي خانة اسم الأب كتب اسمه كاملًا: محمد فهمي حسين، أما حين ولدت أمل تنبه أبي فكتب في خانة اسم المولود: أمل فقط. صرنا إذن شقيقين يحملان لقبين مختلفين على مدار العمر وحتى يومنا هذا. فأنا طارق فهمي حسين وشقيقتي أمل محمد فهمي حسين!

**

 ظلت واقعة سقوط أبي مغشيًا عليه لحظة ميلاد أمل، والتي ظللنا نتندر بها عندما كبرنا، ظلت مؤشرًا حاكمًا لعلاقة أبي بابنته الوحيدة، ظلت " موله" على مدار العُمر طفلته المُدللة ونقُطة ضعفه المُحببة، لم يرفع أبي يومًا كفًا أو غيرها في وجه موله، حتى حين كان يحاول أن ينهرها لأمر أو آخر في مُختلف مراحل العُمر كانت تنظُر إليه بدهشة وعتاب قائلة: " جرى إيه يا سي بابا؟!" فكان ينفجرُ ضاحكًا حتى تتساقط الدموع من عينيه وتفشل تمامًا أية محاولات لإسباغ جدية على الموقف! كانت نظرية أبي في تربية البنات تحديدًا هي أنه لا يجب أن يتعرضن أبدًا للإساءة حتى من الأب أو الأُم وبالتأكيد لا سبيل إلى " الضرب" في أي سن وتحت أي ظروف؛ إذ كان يرى، ويقول لي حين كُنت أُحاول مُمارسة دور" الأب" مع أمل: البنت اللي تتعود على الإهانة تنشأ ضعيفة الشخصية وتكبر على ذلك فيسهل التغرير بها عند أي بادرة حنان زائف، فضلًا عن أنها إذا أُهينت في بيت أهلها ستتعود على الإهانة في بيت زوجها. صدقت نظرية أبي تمامًا (التي كانت أُمي تحاول أن توازنها ببعض الشباشب الطائرة باتجاه أمل واتجاهي على السواء من آنٍ لآخر). ونشأت" موله" وشبت قوية الشخصية شديدة الاعتزاز بنفسها مُدركًة دائمًا لقدرها ولجذورها ولمكانها في الحياة ويحفظ كُل من يعرفونها عن ظهر قلب عبارتها الشهيرة التي تحسم بها أي موقف: " أنا أمل فهمي" ولا تُضيف كلمة بعد ذلك، ولا يملك غيرها أن يُضيف!

**

لظروف عمل أمي كما أسلفت كانت إقامتي الأساسية في بيت عمتي بالمنيل تحديدًا في ٨ شارع الدكتور حلمي حسين وهو ذات البيت الذي أقام فيه أبي عند عمه د. عبد العظيم أثناء دراسته الثانوية بمدرسة الابراهيمية، وكانت إقامة موله الأساسية في بيت جدي لأُمي (الحاج محمد محمود صالح الحكيم- تاجر الجلود مغربي الأصل) بحي الغورية وتحديدًا في عطفة شمس بحارة الروم، لكن أُمي وأبي كانا يتحينان كُل الفُرص ليستردا أحدنا أو كلانا في الإجازات والمصايف والأعياد ليُغدقا علينا من فرط حنانهما، ولم يخل الأمر أيضًا من ليال كثيرة قضيتها قبل وبعد ميلاد أمل في بيت جدي بالغورية...

كُنا نتلاقى أمل وأنا إذن في بيتنا الأصلي في وسط البلد، ولكم كان اجتماعنا معًا طريفًا في تلك الفترة، حيثُ كان أشبه " بحوار الحضارات" إذ كنت أُجسد شخصية الطفل القادم من حي المنيل شديد الهدوء إلى حد كبير في ذلك الزمان، فضلًا عن النُظم والمواعيد الصارمة التي كانت تحكم بيت " بابا أحمد" ضابط الجيش شديد الكفاءة والانضباط وزوجته التي هي عمتي" ماما كوثر أو " كوثر هانم فهمي" وما أدراكم ماذا يعني هذا الاسم وما تُمثله هذه الشخصية!

بينما تأتي “موله" من الغورية بكُل ما فيها من حيوية وحياة وصخب، أيضًا كُنت أنا في المنيل في موقع الابن وسط الأبناء فأخضع لما يخضع له أبناء عمتي الأربعة الأكبر مني من نظم وضوابط وإن كان دائمًا ما يتم تمييزي في المُعاملة لكن دون إخلال بالنظم المعمول بها! في حين كانت أمل في الغورية في موقع الحفيدة التي يتسابق على تدليلها الجد والجدة والأخوال والخالات، وهذا ما خبرته بنفسي أنا أيضًا في أيام وليالي مبيتي بالغورية.

هذه كانت بعض أسباب " حوار الحضارات" الذي كان يدور بيني وبين موله وقت أن كُنت في بدايات دراستي الابتدائية في حين كانت هي دون سن المدرسة بعد، كان كلانا مثارًا لدهشة الآخر في كثير من الأمور، إسلوب الكلام، التصرفات، حتى طبيعة الأكل فبينما كنت أنا أشكو من الجبن الرومي وأرفض الخُبز البلدي لخشونته ولأنه " بيجرّح سقف بُقي" كانت أمل – دون سن الخامسة- تتساءل: "معندكوش خيار مخلل؟"

**

حق تقرير المصير

كان المُخطط، كالمُعتاد في مثل هذه الأحوال، أن تعود إقامتنا الدائمة إلى بيت أبي وأُمي ببلوغ كلا منا سن المدرسة تباعًا، لكن ماما كوثر( عمتي) ، ولفرط ما كانت تملك من أمومة تفيض حتى عن أربعة أبناء وبنات، وبحركة استباقية ألحقتني بمدرسة النيل القومية المُشتركة بالمنيل، والتي تقع في نفس شارع البيت، والتي حصل علي الشهادة الابتدائية منها العشرات من أبناء العائلة من مُختلف الأجيال، فأسقط في يد أبي وأمي، فالمدرسة مُمتازة بالفعل، فضلًا عن أن محاولة رد كلمة " ماما كوثر" هي ضرب من ضروب الخيال في ذلك الزمان، امتدت إقامتي إذن في المنيل حتي حان وقت التحاق " موله بالمرحلة الابتدائية وعادت إقامتها الأساسية لبيت أبي وأمي، كنت أنا قد وصلت للصف الثالث الابتدائي، وبدأت أتململ من كوني دخلت في مرحلة" الطفل الوحيد " ببيت عمتي بعد أن قطع عاصم أصغر أبنائها شوطًا في المرحلة الإعدادية وفارق الطفولة وتقلصت فترات لعبنا معًا، وعلي الجانب الآخر كنت أستمتع بصحبة شقيقتي الوحيدة في الإجازات واللعب معها وممارسة شعور" الأخ الأكبر"، وبدأت تظهر عليّ علامات التمرد! تُخبرني اليوم " أبله ناهد " كُبرى بنات عمتي بأنني كنت أجاهر بالقول: " أنا مش عايز اقعد في البيت الغريب اللي فيه اثنين تلفزيون ده”! كما أنها وإخوتها كانوا يتواطؤون علي في مواجهة حقيقة أنني كُنت طفلًا " رغايًا" لا أكاد أتوقف عن الكلام فيتفقون على أن يبدأ أحدهم بالحديث كلما شرعتُ أنا في الكلام، وبالفعل نجحوا في ذلك حتى اضطررت أن أقف فوق أحد المقاعد وأصرخ محتجًا:" إدوني فُرصة أتكلم يا ولاد الـ...." . تقول أبله ناهد: " والـ... نفسه قاعد سامع مُندهشًا مُغالبًا ضحكه حفظًا للوقار".

كان مبعث تمردي هذا الحقيقي والوحيد أنني أريد أن ألحق بـ " موله" في بيتنا لنلعب سويًا طيلة الوقت إن أمكن، وتزامن هذا مع رغبة أمي وأبي في جمع شمل أربعتنا خاصًة مع التحاق أمل بالمدرسة، وهو الأمر الذي كانا ينويان أن يشرعا فيه عند التحاقي أنا بالتعليم لولا " ضربة ماما كوثر الاستباقية".

جاء أبي وأمي ومعهما" موله" لزيارتنا بالمنيل، واسترابت " ماما كوثر" في نظرات هذه الطفلة المُريبة إليها وإلى البيت وساكنيه، عمومًا رحبت ماما كوثر" بالضيوف" ونادت عليّ لأحييهم وأعود إلى غرفتي!

بدأ أبي يمهد للكلام متحسسًا حروفه حريصًا على عدم إغضاب أخته الكبيرة الغالية جدًا إلى نفسه، طال التمهيد، فاندفعت أُمي ذات الخُلق الضيق كونها وليدة سبع شهور كما كان أبي دائمًا يذكر لنا- فيما بعد-  محذرًا إيانا من إغضابها، اندفعت أمي: يا أبله كوثر إحنا عايزين ناخد طارق يعيش معانا ومع أخته، والنبي ما تكسفينا، وح نبقى نجيبه لك كتير طبعًا" فأجبتها ماما كوثر بهدوء وثقة: إحنا نجيب طارق ونسأله يحب يعيش فين؟

"مثُلت" أمام الحضور، وسألتني عمتي بكُل ثقة: ماما وبابا عايزين ياخدوك تقعد عندهم، إنت إيه رأيك؟

كُنت دون الثامنة من عُمري، ورغم ذلك أجبتُ بفصاحة اشتهرت بها في تلك السن (ولا أدري أين ومتى فقدتها فيما تلا من سنوات وعقود؟):

- والله يا ماما كوثر أنا شايف إن كُل واحد يلزم بيت أهله أحسن.

صاحت بي وقد فاجأتها إجابتي:

- خلاص مبروكين عليك، أنا أصلي ما عرفتش أربى.

 ضحك أبي وأمي، وحاولت عمتي إخفاء شبح ابتسامة داهشة في حين رمقت" موله" الصغيرة بنظرة تعجب ُمحملًة إياها- فيما يبدو- مسئولية هذا التطور الخطير غير المتوقع!

وفي محاولة أخيرة للتأكيد على نفوذها (الذي لم ينكره عليها أو ينازعها فيه أحد) سألت:

-       وطارق ح يروح المدرسة ازاي؟ دي هنا في آخر الشارع.

-       ح نشترك له في أتوبيس المدرسة، وأمل كمان، ما احنا ح ندخلها نفس المدرسة مع اخوها.

عاودت" ماما كوثر" النظر نحو هذه الطفلة الصغيرة مستديرة الوجه، لكن نظرتها هذه المرة كانت تحمل المزيد من الاستغراب والتأمل! وكأن لسان حالها يقول: "أجاءت هذه التي لا تكاد تبين لتخمش جدار مملكتي؟!"

**

فلتسقط طنط مايسة!

في ٣ شارع رشدي وبعد استخدامي الجسور " لحق تقرير المصير" في إطار" لم الشمل" بدأت حقبة جديدة من عمر طفولتنا أنا وشقيقتي الصغيرة أمل، وانقلب بيت الكاتب الأديب إلى جنة للأطفال فقط يسكن في إحدى غرفها كاتب كبير وزوجته!

كُنا نتفنن أنا وأمل في مُمارسة كُل ما هو معروف من شقاوة الأطفال، بل وتجاوزنا ذلك كله إلى اختراع ألعاب ومصطلحات جديدة خاصة بنا وحدنا، فمن مألوف القفز من فوق ظهر دولاب الملابس إلى السرير العريض ذو " المُلّة ذات السوست" حتى أسقطنا قلبه تمامًا واضطر أبي وأمي إلى استبداله بسرير جديد إلى ملئ البانيو بالماء والسباحة فيه بكامل ملابسنا، ولا أستطيع أن أتخيل الآن كيف كنا نقف على حافة البانيو ذو الـ ١٧٠ سم طولًا فقط ونقفز تباعًا، لنسبح حتى " آخر البانيو" ونعود! من الواضح أننا كنا ضئيلي الحجم بشكل عجيب! كنا نفعل ذلك بالطبع في غياب والدينا في العمل، ورغم وجود خالتي مايسه (أظنها كانت طالبة بالثانوي في ذلك الوقت) إذ كانت تحضر لتجلس بنا في غياب أبي وأمي، لكنها كانت مفرطة في الرقة والطيبة على نحو لا يمكنها من التحكم في زوج من الشياطين الصغيرة مثلنا، كانت خالتي مايسه حين تحاول الدخول إلى الحمام لانتشالنا من " مسبحنا المبتكر" تواجه بخرطوم من الماء أوجهه نحو باب الحمام المفتوح  لمنعها من الدخول في حين تواصل" موله" البلبطة"  بكامل ثيابها، وحين كانت خالتي تجازف بنفسها وتتحمل ابتلال ثيابها هي الأخرى لتدخل وتمسك بي فتجففنا وتغير لنا ملابسنا لا تجد وسيلة لإيقاف كل هذه الشيطنة سوى بالفصل بيننا فتحبسني في إحدى الغرف وتجلس مع أمل لتحاول " استئناسها" لكني كنت أواجه ذلك بالطرق بكلتا قبضتي الصغيرتين علي باب الغرفة من الداخل وأتصايح بأن: الشعوب بتكافح عشان حريتها وانتي جايه تحبسي حريتي؟ فلتسقط طنط مايسه.. فلتسقط طنط مايسه...

فلا تجد خالتي المسكينة بدًا من أن تطلق سراحي وتأخذنا معها إلى المطبخ لتصنع لنا كعكًا أوبسكويتًا أو ما شابه وتُشركنا في تشكيل العجين لتشغلنا عن أفكارنا الجهنمية.

**

"الشيخوخة" ومساخر أُخرى!

ابتكرنا- أمل وأنا- ألعابنا الخاصة، أو ربما كانت ألعاب موجودة أصلًا لكننا لم نتعلمها من أحد وإنما أعدنا ابتكارها ومنحناها أسماءًا عجيبة من عندنا، فمن منكم سمع عن لعبة: عو، أو لعبة" ريو وأولدلعبة" عربيتي" وكذا لعبة" الشيخوخة”؟!

أما " ريو وأولد" فهي ببساطة منقولة من واقع مشاهدتنا للبرنامج التلفزيوني: المصارعة الحرة الذي كان يقدمه بجاذبية شديدة الراحل" فريد حسن" حتى جذبت انتباه طفلين مثلنا، فكنا نصنع حلبة على سجادة الصالون عن طريق إحاطتها بعدد من" البوفّات" وندخل إليها لنتصارع، وأقوم بدور المعلق أثناء النزال، والذي كان صوريًا بالطبع، أما الاسم المختار لهذه اللعبة فكان مصدره أسمي طرفي إحدى مباريات البرنامج، وإن كانت هذه ليست أسمائهما الدقيقة، وإنما ما وصل إلى سمعنا وفهمنا منها!

أما " عو" فكانت ببساطة أن يدخل أحدنا تحت السرير ويقبع الآخر فوق السرير، يحاول الموجود بأسفل أن يخرج متدحرجًا من تحت السرير، ويمنعه من الخروج أن يطل الموجود بأعلى برأسه صائحًا: " عو" فيحاول الموجود بأسفل الخروج من الجانب الآخر فيلاحقه الآخر:" عو" وهكذا حتى ينجح الأول في التمويه والخروج حرًا ليفوز ونتبادل المواقع!

أما لعبة" عربيتي" فجاءت بعد أن كبرنا قليلًا وأصبح من المأمون السماح لنا بالجلوس في البلكونة والتطلع إلى الشارع دون تخوف من احتمالات أن تراود أحدنا أو كلانا أحلام الطيران على غرار" فرافيرو" أحد نجوم الكارتون في زمن طفولتنا، وتتمثل اللعبة في الجلوس في البلكونة ناظرين إلى شارع رُشدي العامر بالسيارات في كلا الاتجاهين، مترقبين ومتحفزين لأنواع وألوان السيارات المارة، والذي تعجبه منا سيارة بعينها يسارع ليسبق الآخر مُشيرًا إلى السيارة المُختارة هاتفًا: " عربيتي" فتصبح السيارة ملكًا( معنويًا) لمن سبق، وفي نهاية اللعبة نُحصي عدد السيارات التي استحوذ عليها كلانا ويفوز صاحب الحصيلة الأكبر.. ومتى تنتهي اللعبة؟ حين نمّل أو نتعب بالطبع.

وأخيرًا لعبة" الشيخوخة" وأطرف ملابسات للتسمية:

كان أحدنا يقف فوق الكنبة مواجهًا الحائط، ويمسك الآخر بغطاء إحدى علب البسكويت أو البون بون المصنوعة من الصفيح متلاعبًا بانعكاس الضوء من السطح الداخلي اللامع للغطاء المعدني على الحائط، ويحاول الواقف على الكنبة ملاحقة الضوء ووضع كفه عليه ليفوز بالجولة، ربما كانت لعبة شائعة بين أطفال زمننا البسيط، لكننا انفردنا بهذه التسمية العجيبة، فمن أين أتينا بها؟ : تصادف أثناء ممارستنا لهذه اللعبة أن كان هناك برنامج تلفزيوني أو نشرة للأخبار، وأثناء لعبنا سمعنا المتحدث يذكر كلمة" الشيخوخة" فتوقفنا تمامًا عن اللعب وغرقنا في الضحك للوقع الغريب للكلمة التي تصادف أن نسمعها للمرة الأولى سألتني أمل: يعني إيه شيخوخة؟ فأجبتها: معرفش، لسه ما خدنهاش في المدرسة، كرر المتحدث التلفزيوني الكلمة أكثر من مرة وكلما سمعناها كنا نضحك من قلبينا! كلمة غريبة مضحكة، وتشبه كلمة أخري نعرفها مُقرفة ولا نتوقع سماعها في التلفزيون- في ذلك الزمان-  لذا تأكدنا أنه لا يوجد رابط بين الكلمتين وأنه لا حرج في استخدام كلمة" الشيخوخة" المضحكة هذه، فقررنا أن نطلق على لعبتنا اسم: الشيخوخة. وصار عاديًا ومفهومًا- لنا وحدنا- أن يقترح أحدنا على الآخر: تلعب (أو تلعبي) شيخوخة؟ 

**

موله في حرب الاستنزاف!

في صيف إحدى سنوات حرب الاستنزاف في نهايات الستينيات قام أبي وأُمي بإلحاقنا، ومعنا أبناء الصحفي المناضل يوسف صبري الثلاثة، بأحد مُعسكرات التدريب التي كان يُقيمها الاتحاد الاشتراكي في تلك الفترة، كان مقر المُعسكر بكُلية التربية الرياضية للبنات بالجزيرة أمام بُرج القاهرة، كانت الأُمهات يصحبننا إلى المُعسكر في الصباح الباكر، أظن نحو السابعة صباحًا، ويأتون لاصطحابنا إلى منازلنا في نهاية اليوم قبل المغرب بقليل، كان معسكرًا جميلًا ومنظمًا تلقينا فيه محاضرات عن الحرب والعدو الصهيوني و تدربنا فيه علي إجراءات الدفاع المدني والإسعافات الأولية وكيفية مواجهة الإصابة بالنابالم، كما تلقينا دروسًا نظرية عن كيفية إعداد زجاجات المولوتوف، كان اليوم يبدأ بطابور الصباح والتدريبات البدنية العنيفة نسبيًا بالنسبة لأطفال في أعمارنا، وتدريبات سباحة وچودو ورياضات أخرى يتخللها تلك المحاضرات ووجبة للغداء، كان المدربون من الشباب مفتولي العضلات وكانوا شديدي الوعي واللطف في التعامل معنا، استمر المعسكر بضعة أسابيع كانت هي أمتع فترات تلك الإجازة الصيفية من ذلك العام البعيد، وما زالت هناك صورة فوتوغرافية موجودة تحت بنورة " تسريحة " غرفة أبي وأمي تظهر فيها أمل وهي في نحو السابعة من عمرها تقف متحفزة مشدودة الكتفين مادة ذراعيها للأمام شاخصة ببصرها نحو الأرض حيث ينطرح طفل في مثل عمرها إثر إحدى الحركات التي استخدمتها أمل معه في هذا التدريب وقد وقف بينهما مراقبًا راضيًا " كابتن حمدي" مُدرب الچودو بالمعسكر!

**

البحث عن موله!

في واقعة لا أنساها حتى اليوم، وفي نهاية اليوم الدراسي حيث كنا نتجمع عند باب المدرسة من الداخل- نحن التلاميذ المشتركون في أتوبيس المدرسة فتقوم المُشرفة بعدّنا ومراجعة أسماءنا ثم نصعد للأتوبيس الذي ينقلنا إلى بيوتنا، في ذلك اليوم الذي لا أنساه لم تحضر أمل  عند الباب (وكنا قد حضرنا للمدرسة سويًا في الصباح بأتوبيس المدرسة نفسه) وجرى البحث عنها في أنحاء المدرسة فلم يتم العثور عليها وتم النداء على اسمها في ميكروفون المدرسة فلم تظهر، بعد بعض انتظار أصدرت مشرفة الأتوبيس تعليماتها للسائق ليتحرك بنا حتى لا يتأخر باقي التلاميذ علي بيوتهم! ألجمتني الدهشة والذعر وأنا في هذه السن الصغيرة، كيف سنمضي دون أُختي الوحيدة؟ حضرنا سويًا في الصباح وفي كُل صباح.. فكيف أعود وحدي؟! حاولت الاحتجاج لدى المُشرفة التي أخذت في طمأنتي بما لا معني له من كلمات في حين تحرك بنا أتوبيس المدرسة وتحركت معه دموعي منهمرة على وجهي طوال الطريق.

حين نزلت من الأتوبيس أمام البيت كانت أُمي، كعادتها اليومية، تقف في البلكونة في انتظار وصولنا، فما أن رأتني وقد نزلت وحدي وتحرك الأتوبيس حتى تعالي صياحها إلى الشارع: فين اختك؟ فين اختك؟

بمجرد وصول المصعد بي مع البواب إلى الدور الخامس حتى جذبت يد أبي القوية باب المصعد وارتفع صوت أمي أختك فين؟ حاولت شرح ما حدث فنظر لي أبي نظرة لا أنساها وبهدوء شديد، إن كانت الكلمات تخرج من بين أسنانه، سألني:" إزاي يا طارق تروح وتسيب أختك؟ كنت أصغر من أن أستوعب وأضعف من أن أحتمل فانفجرت في البكاء.

ارتدى أبي ثيابه مسرعًا واتصل بالشرطة شاكيًا ناظرة المدرسة ومشرفة الأتوبيس والسائق بالإسم ثم نزل مسرعًا متجهًا إلى المدرسة، بينما رفعت أمي سماعة التليفون ولم تضعها لساعات متصلة بكل من يمكن أن تسأله أو يعينها في البحث.. بعد ساعات عاد أبي مكفهرًا وفي لحظة دخوله دق جرس التليفون:

- مساء الخير، أنا فايق رشيد والد حنان زميلة أمل في الفصل، أمل عندنا وبخير، هي كانت في حمام المدرسة وسمعت اسمها في الميكروفون ما لحقتش تخرج وفاتها الباص، هي كويسة اتغدت ونامت شوية وقاعده بتلعب مع حنان واخواتها، إحنا في المنيل قرب المدرسة وعنواننا...

- طيب يا أستاذ فايق ربنا يطمنك بس مش كنت تتصل أول ما وصلت البيت ومعاك أمل؟ دي أمها ح تموت من ساعة ما أخوها رجع من غيرها.

- أنا من ساعتها باتصل بيكم التليفون مشغول على طول.

 - آه صحيح فعلًا، عمومًا كتر خيرك، أنا جاي حالًا آخدها.

**

القاصر ولي أمر التلميذة!

ظلت هذه الواقعة - بكل ما تحمله من ألم وفزع- محفورة في نفسي حتى اليوم، وصرت من وقتها شديد الحساسية تجاه كل ما يتعلق بشقيقتي الوحيدة التي جاءت للدنيا بطلب شخصي مني، واخترتُ وحدي اسمها، وربما كان لهذا الشعور على مدار السنين، ومع " اختلاف الحضارات والثقافات" بيننا!  كان له آثارًا سلبية، فصرتُ في سنوات الصبا والشباب المُبكر أمارس حماية مغالى فيها تجاه" موله" حتى تحول الأمر في بعض المراحل، ومنذ كنت طالبًا بالمرحلة الثانوية وهي بالإعدادي، إلى أنني صرت أنازع أبي وأمي في دور " ولي الأمر" لأمل رغم أن فارق السن بيننا لا يزيد عن الثلاث سنوات إلا قليلا!، بل أنني توليت فعليًا دور ولي أمرها في أحد الأيام حين عدت من مدرستي الثانوية فوجدت أُمي تتأهب للنزول إلى مدرسة شقيقتي الإعدادية( مدرسة فتحية بهيج الإعدادية بنات)، والتي تقع خلف البيت مباشرة ونطل عليها من بلكونة الصالون حيث أشارت أمل لأمي من "حوش المدرسة" بأن إحدى المدرسات ضربتها، فما أن علمت بذلك حتى سبقت أمي إلى المدرسة( وكان أبي خارج مصر) وطلبت مقابلة الناظرة وقدمت لها نفسي بصفتي: ولي أمر التلميذة أمل محمد فهمي حسين ومضيت "أترافع" موضحًا أن الضرب ممنوع بالمدارس وفقًا لتعليمات الوزارة وطلبت استدعاء المدرسة، وتحت تأثير المفاجأة طلبت الناظرة حضور المدرسة التي استشاطت غضبًا حين رأت صبيًا في نحو الرابعة عشر من العمر يعطيها محاضرة- وبمنتهى الأدب- في ضوابط عملها وصلاحياتها كمدرسة، كاد الموقف أن يشتعل لولا وصول أمي ونظراتها لي بأن أصمت وأنصِرف!

**

الشيخ" العجمي لا يُحب البنات"

هذه مقولة شائعة معروفة لأهل الإسكندرية وأهل العجمي بالذات، وهي مقولة يحاولون بها تفسير ارتفاع نسبة الإناث بين الغرقى في بحر العجمي!

كنا- أمل وأنا- قد تعلمنا السباحة في النادي عام ١٩٧٠ وأجدناها تمامًا بل وحصلنا على شهادات من مدرسة السباحة بالنادي تفيد بذلك وبتقدير" جيد جدًا”، لكن ذلك لم يحل دون ما كاد أن يحدث ونحن في المصيف عام ١٩٨٣.

كنا وأُسرة أُستاذ الكمان الكبير الفنان نبيل كمال نجلس تحت الشماسي على شاطئ" سيدي كرير" بمنطقة العجمي بالإسكندرية، ونزلنا أمل وأنا وأصدقاء طفولتنا وعمرنا كله إيهاب وأخته نانيس لنسبح في البحر، وتلك المنطقة معروفة بتياراتها الشديدة أو ما يُسمى بـ “السحب".. كانت نانيس أو" بوسي" وهي أصغرنا سنًا قد اكتفت من السباحة وسبقتنا للخروج من الماء، وبعد برهة وحين بدأنا أنا وأمل وإيهاب أو" هابي" في محاولة العودة للشاطئ بدأنا نعاني صعوبة في مقاومة التيار لنقترب إلى حيث نستطيع أن نضع أقدامنا على القاع ثم نكمل الخروج سائرين في الماء، كان الفارق بيننا وبين ملامسة القاع بأقدامنا خطوات قليلة جدًا ، لكن " موله" بحكم كونها أقصرنا طولًا كانت بحاجة للسباحة لمسافة أطول قليلًا لتضع قدميها على القاع، ظللنا إيهاب وأنا نحاول جذبها والخروج بها فلم نتمكن، كنت أنا وإيهاب نتمكن من السباحة مقاومين التيار حتى نضع أقدامنا علي القاع لكن منفردين، فكان الواحد منا حين يغلبه الإجهاد يسبح تلك المسافة الصغيرة ليقف على قدميه ويستريح قليلًا ثُم يعاود المحاول للعودة إلى أمل والخروج بها.. استغرق الأمر طويلًا وتمكن الإجهاد من ثلاثتنا.. كنا بحاجة فقط لفرد رابع أطول منا قليلًا ليثبت قدميه على القاع ويمسك بيد أحدنا لنصنع سلسلة بشرية تكون في نهايتها أمل، وكنا بالفعل نصادف سابح أو آخر ونطلب منه الاقتراب فكانوا جميعًا يخافون ويبتعدون.. نظرت إلينا موله نظرة يائسة وقالت ببساطة: خلاص معلش.. اخرجوا أنتم..

هذه - بحق – كانت واحدة من أكثر لحظات عمري سوادًا ولا يضاهيها سوى لحظات رحيل أبي وأمي نظرت إليها مذهولًا، ماذا تقول هذه الساذجة؟ وكيف مر بخيالها مجرد مرور أنني ناجٍ بنفسي دونها؟ دون موله؟! كنت قد غادرتُ منذ سنوات طويلة سذاجة وغفلة يوم واقعة أتوبيس المدرسة، وهي سذاجة وغفلة لم ولن أغفرها لنفسي أبدًا... تملكتني طاقة غضب شديدة وظللت أحاول رغم الإجهاد الشديد حتى انشق البحر أمامنا فجأة عن شاب طويل مد يده نحونا ببساطة قائلًا: أنا رجليا ثابتة على القاع هاتوا إيديكم.

حين وصلنا للشاطئ وجدنا أغلب الناس واقفين مبهورين الأنفاس وتوالدت الصيحات: حمد الله ع السلامة! وحتى هذه اللحظة لم يكن أهلنا تحت الشمسية مدركين لما كان يحدث في البحر علي مدار الساعة السابقة... ارتميت على الرمال وغرقت في نومٍ عميق لمدة لا أعرف مداها... كان يومًا آخر من أيام" موله".

**

ورثت أمل عن أُمي الكثير من فطنتها وإدراكها لما يدور من حولها وهي صامتة تتظاهر بعكس ذلك، لذا ففي سنوات مراهقتي وشبابي المُبكر المندفع كانت" موله" كاتمة أسراري المتطوعة دون طلب أو حتي علم مني! كانت فقط تظهر باقتراح أو مبادرة مباشرة عندما يتأزم معي موقف أو آخر ثم.. تعود لصمتها وغفلتها المُدعاة!

**

" طارق اخويا"

في سنوات فتوتي اشتهرت في النادي – لأكثر من سبب- بلقب" الخواجة" حتى أن البعض كان يظن أنه لقب عائلتي بالفعل، بل أن البعض لم يكن يعرف اسم" طارق". كنت في تلك الفترة أتمتع بقدر لا بأس به من العنف والاندفاع. كنت سريع الاشتعال أشتبك بالأيدي والأرجل والكراسي إذا لزم الأمر فكنت في نطاق أقراني بل ومن يكبرونني قليلًا " مهاب الجانب" كما يقولون، وكانت "موله" تسعد بذلك كثيرًا وتظن- ربما حتى اليوم- أن أخاها على كُل شيء قدير!!! وكانت تجد من مفردات الواقع في تلك الفترة ما يرسخ هذه الصورة لديها، فلا أحد يجرؤ مثلًا على مضايقتها بالنادي أو بالعمارة أو حتى في نطاق العائلة والأقارب، في النادي مثلًا كانت تكفي ملاحظة مخلصة من أحد الشباب لصديقه محذرًا: خلي بالك دي اخت الخواجة. فتنصرف عن ذلك الفتى أية أوهام تراود خياله!

لهذه الصورة ولسواها ظلت أمل طيلة العُمر تروي عني في كل المجالس كما يفعل شعراء السيرة الهلالية، ولا تذكر اسمي إلا ملحوقً بكلمة " أخويا”. طارق اخويا عمل كذا، طارق اخويا قال كذا، ده طارق اخويا لو عرف... إلخ

وكنت كنت دائمًا اتندر على مسألة" طارق اخويا" هذه إلى أن اكتشفت أنني أنا الآخر لا أتحدث عنها إلا واصفًا إياها بـ " أمل اختي”!!

وواقع الأمر أن هذه الهالة التي حاكتها "موله" حول شخصي الضعيف ليس لها سند كبير من الواقع ( فيما خلا حادث هنا وحماقة هناك في سني الشباب) سوى حبها العميق لي والرابط المقدس الذي يجمع بيننا والذي زاد عمقًا وقوة بعد رحيل أبوينا فلم يعد هناك بيننا حكم ولا مترجم ليحل طلاسم" حوار الحضارات"  الممتد بيننا علي مدار العُمر، فلم يعد هناك حل أمام كلينا سوى أن يتحدث كلا منا بلغته ومع ذلك يفهم كلانا الآخر جيدًا!

قد لا تعرف موله أنه على الجانب الآخر فإنني كنت على مدار العمر أباهي بها وبالكثير مما تختلف به عني، فهي – مثلًا- كانت دائمًا شديدة الأناقة فكنت" أتمنظر" بها على بنات النادي، كما أنها كائن اجتماعي "بفظاعة" في حين أنني: " مستحمل روحي بالعافية، ح استحمل غيري كمان؟!" على حد تعبير رشدي أباظة في فيلم ملاك وشيطان.  كما أنها تتمتع بخفة ظل موروثة يصعب مجاراتها فيها تمامًا حتى أنني عندما تزاملتُ لفترة مع الفنانة عبلة كامل في مسرح محمد صبحي ولينين الرملي وعرفت هي بالمصادفة أنني شقيق أمل فهمي صاحت مندهشة:

- معقولة؟! طب ده انت هادي جدًا غير أمل خالص، ده كل إيفيه بتقوله أمل بنترمي كلنا في الأرض من الضحك!

أيضًا تجيد" مولة" عدة لُغات، ففضلًا عن تخرجها من قسم اللغات الشرقية بكلية الآداب حيث تخصصت في الفارسية فإجادتها تامة للإنجليزية وإلى حد ما الفرنسية فضلًا عن بعض العبري والتركي واليوناني، نعم هكذا! في حين أمتلك أنا بعض الإلمام بالعربية على استحياء!

**

كبرت أمل وتزوجت وغنى في حفل زفافها عمنا الجميل بل الرائع سيد مكاوي فشدا: يا صلاة الزين على فهمي حسين، وشدا أيضًا: حلوين من يومنا والله وأمل كويسة!

 تزوجت موله إذن وأنجبت " موله “أخرى وإن كانت أطول قامة و" أكثر بياضًا" كما أنها أسمتها" رحمة" فمنحتني بذلك لقب "خال" وهو ثاني أكثر لقب أعتز به بعد لقب: إبن فهمي حسين.. ثُم كبرت رحمة وتزوجت وأنجبت الجميل" حمزة" فمنحتني – ولو بشكل غير مباشر- لقب: جدو. وكلا اللقبين: الخال والجد وسام على صدري لم أكن لأحوزه لولا أنني طلبت- في ذلك الماضي البعيد- أن تكون لي أُخت، فيبدو لي الآن أنه كان -من حيثُ لم أكن أدري في طفولتي تلك المبكرة-  طلبٌ جلل عظيمُ النتائج والحمد لله.

أخيرًا عادت أمل لتُقيم في ٣ شارع رُشدي في تلك الشقة التي انتقلنا إليها خصيصًا من أجل استقبال: موله

عيد ميلاد سعيد يا موله، وعقبال ١٠٠ سنة صحة وسعادة وحيوية وإذا كنا في طفولتا قد لعبنا سويًا لعبة" الشيخوخة" فها أنا ذا اليوم أستحث الخطى لألعبها منفردًا هذه المرة، أما أنتِ فستظلين في نظري، ومهما امتد بنا العمر، وكما يقول الشاعر: طفلة لم تزد عن الأمس إلا إصبعا.

 

                                                                                  طارق فهمي حسين

                                                                                   ٧ أغسطس ٢٠٢٠

 

 

 

 

 

 

 

الجمعة، 17 يوليو 2020

ريحانة ... الحب الأول .

ريحانة ... الحب الأول .

من قلب كل هذا الهم العام والخاص أنتزع ذاتي وأجلس إلى ذكرى غالية من سني الطفولة فأضع شريطا بعينه في جهاز الفيديو ( نعم مازلت أتعامل مع جهاز فيديو VHS ) لأشاهد للمرة التي تتجاوز الألف بالتأكيد أبدع ماقدم مسرح القاهرة للعرائس منذ نشأته من عروض ... " حمار شهاب الدين " ، ودون أدنى مبالغة يكاد ينخلع قلبي مع كل ظهور للعروس " ريحانة " بعينيها الواسعتين الكحيلتين وأنفها الدقيق وعودها الناحل وثوبها الرث ... ريحانة - التي ليست من لحم ودم - كانت دائما وستبقى حبي الأول فهي أول من خفق لها قلبي الطفل ، ومازال يفعل كلما لاح طيف ريحانة ... حتى أنني أعلق صورتها على أحد حوائط بيت الزوجية هكذا علانية وعلى مرأى من زوجتي ...وأضع على حائط آخر - علانية أيضا - قول أبي تمام : " نقل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول " ...
رحم الله بكر الشرقاوي صاحب فكرة " حمار شهاب الدين " والذي أغفل إسمه لسبب لاأعرفه ، ورحم الله صلاح جاهين وسيد مكاوي وكتيبة الرعيل الأول من مسرح القاهرة للعرائس وبارك فيمن بقي منهم ، فهم جميعا صناع هذا العرض البديع ... ورحم الله المبدع ناجي شاكر فهو من أبدع "ريحانة" ومنحها هذا الوجه الخاطف للقلوب وهذا العود الرقيق وتلك الأقدام الدقيقة الحافية التي تترك آثارها على خلايا الوجدان ... ظل ناجي شاكر حتى رحيله ينازعني في حب ريحانة ويحاججني بكونه مبدعها ، وأحاججه بأنني كنت ذلك الطفل الذي خلقت من أجله ريحانة وصنع العرض كله من أجله ، نعم أنا طفل الستينيات الذي شيد من أجله مسرح القاهرة للعرائس وبنيت من أجله المدارس والمصانع والحدائق ...
وآخرا ، بل أولا ، رحم الله أمي التي كانت من مؤسسي مسرح القاهرة للعرائس فكانت سببا في لقائي بريحانة وعم شهاب الدين وحمارهما المسحور ، فوقع حب ريحانة في قلبي الصغير على ذلك النحو الهائل وباركت أمي هذا الحب طيلة العمر حتى أنها هي من أهدتني هذا البرواز الذي تطل منه ريحانتي لأزين به جداري .
طارق فهمي حسين
فبراير ٢٠١٩