الجمعة، 17 يوليو 2020

ريحانة ... الحب الأول .

ريحانة ... الحب الأول .

من قلب كل هذا الهم العام والخاص أنتزع ذاتي وأجلس إلى ذكرى غالية من سني الطفولة فأضع شريطا بعينه في جهاز الفيديو ( نعم مازلت أتعامل مع جهاز فيديو VHS ) لأشاهد للمرة التي تتجاوز الألف بالتأكيد أبدع ماقدم مسرح القاهرة للعرائس منذ نشأته من عروض ... " حمار شهاب الدين " ، ودون أدنى مبالغة يكاد ينخلع قلبي مع كل ظهور للعروس " ريحانة " بعينيها الواسعتين الكحيلتين وأنفها الدقيق وعودها الناحل وثوبها الرث ... ريحانة - التي ليست من لحم ودم - كانت دائما وستبقى حبي الأول فهي أول من خفق لها قلبي الطفل ، ومازال يفعل كلما لاح طيف ريحانة ... حتى أنني أعلق صورتها على أحد حوائط بيت الزوجية هكذا علانية وعلى مرأى من زوجتي ...وأضع على حائط آخر - علانية أيضا - قول أبي تمام : " نقل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول " ...
رحم الله بكر الشرقاوي صاحب فكرة " حمار شهاب الدين " والذي أغفل إسمه لسبب لاأعرفه ، ورحم الله صلاح جاهين وسيد مكاوي وكتيبة الرعيل الأول من مسرح القاهرة للعرائس وبارك فيمن بقي منهم ، فهم جميعا صناع هذا العرض البديع ... ورحم الله المبدع ناجي شاكر فهو من أبدع "ريحانة" ومنحها هذا الوجه الخاطف للقلوب وهذا العود الرقيق وتلك الأقدام الدقيقة الحافية التي تترك آثارها على خلايا الوجدان ... ظل ناجي شاكر حتى رحيله ينازعني في حب ريحانة ويحاججني بكونه مبدعها ، وأحاججه بأنني كنت ذلك الطفل الذي خلقت من أجله ريحانة وصنع العرض كله من أجله ، نعم أنا طفل الستينيات الذي شيد من أجله مسرح القاهرة للعرائس وبنيت من أجله المدارس والمصانع والحدائق ...
وآخرا ، بل أولا ، رحم الله أمي التي كانت من مؤسسي مسرح القاهرة للعرائس فكانت سببا في لقائي بريحانة وعم شهاب الدين وحمارهما المسحور ، فوقع حب ريحانة في قلبي الصغير على ذلك النحو الهائل وباركت أمي هذا الحب طيلة العمر حتى أنها هي من أهدتني هذا البرواز الذي تطل منه ريحانتي لأزين به جداري .
طارق فهمي حسين
فبراير ٢٠١٩

الجمعة، 10 يوليو 2020

محمود رضا... عصرٌ يرحل...

محمود رضا... عصرٌ يرحل...

برحيل الفنان العظيم محمود رضا سقط حجر كريم آخر من جدارية زمن مصر الذهبي…
شاهدت  اليوم على إحدى الفضائيات فيلم غرام في الكرنك، وقد أذاعته بالتأكيد بمناسبة الخبر المحزين والمؤلم برحيل فنان مصر العظيم ، وحين بدأت  فقرة ختام الفيلم والتي هي عبارة عن عرض كامل لعدد من رقصات فرقة رضا البديعة والتي يتقدمها الثنائي المبهر فريدة فهمي ومحمود رضا، وجدتني أشاهد الاستعراضات المتتالية بعيون الأجانب من مختلف دول العالم التي كانت تجوبها فرقة رضا لترقص على مسارحها وتحصد الجوائز والميداليات وشهادات التقدير، فتخيلت مدى انبهار المشاهدين في ذلك الزمن ومن  كل الجنسيات، بكل عناصر الرقصات، موسيقى علي اسماعيل العبقرية، والأزياء والخطوات التي أمسكت بتلابيب جُل أنواع الرقص الشعبي والبيئات المختلفة في شتى ربوع مصر ، ثم التناسق الجسدي والحركي  لكل الراقصين والراقصات، ثم التتويج الأعلى لكل ذلك عبر الأداء المعجز للثنائي الموهوب بلا حساب فريدة فهمي ومحمود رضا… كل ذلك، على ما يفترض أن يجلبه على النفس من بهجة ، ولطالما فعل، إلا أنه اليوم جلب لعيني الدموع، ليس فقط بسبب رحيل البديع محمود رضا، وإنما للصور التي تداعت أمامي وأنا أتابع كل خطوة راقصة على الشاشة ،… تداعت صور قد يستغرب الكثيرين تداعيها، ويظن ان لا علاقة لها بالأمر… رأيت صور المصانع التي كنت أزورها في رحلات مدرستي الابتدائية في الستينيات، وصور سيارات وأتوبيسات نصر تجوب الشوارع، ولقطات من جريدة مصر السينمائية، وإعلان تلفزيوني يقول: أضف إلى مكتبتك هذا الكتاب الجديد!
 نعم رأيت نضارة ورشاقة الثنائي محمود رضا وفريدة فهمي، لكن أيضا طالعتني وجوه ثروت عكاشة ووجيه أباظة وعزيز صدقي وجمال عبد الناصر، رأيت عبد الحليم وفريد وأم كلثوم وفؤاد المهندس ود. النبوي المهندس ، رأيت صلاح چاهين وسيد مكاوي وصلاح السقا وراجي عنايت وزكريا الحجاوي  وفكري الجزار ومحمد مهدي شومان وكمال رفعت وسعاد حسني وعبد الرحمن الخميسي ، رأيت اسكندرية الستينيات بشواطئها الجميلة النظيفة المجانية، ومذاق الفريسكا والكلو كلو ، وبائع الفريسكا ومصور الشاطئ مُتأنقين  بالبرنيطة والشورت ، ووسط القاهرة وسينما مترو في مواجهة ثقافية مع سينما أوديون، وثُلاثية كورنيش العجوزة الثقافية الشعبية: مسرح البالون والسيرك القومي والسامر ... رأيت محال القطاع العام تتلألأ بالأضواء والنظافة والبضائع المكتوب عليها: صنع في مصر، ورأيت زيا مدرسيا تشتريه لي أمي من عمر افندي وحذاء للألعاب من باتا!
كل هذا وغيره كثير مر أمامي وحالت بيني وبينه دموعي على وقع خطوات الراحل العظيم محمود رضا وصحبه الأسطوريين…
رحم الله محمود رضا ورحم زمن لم يعش حقا من لم يعشه في هذا البلد…           
                                                                                             طارق فهمي حسين
                                                                                       ١٠ يوليو ٢٠٢٠