نينه نعمات
كانت الجدة " نعمات"، أو" نينه" نعمات كما كنا ندعوها زوجة أحد أعمام أبي، لكنه لم يكُن مُجرد واحدًا من الأعمام الكثيرين لأبي، فقد كان د. عبد العظيم هو ذلك العم الذي انتقل أبي للإقامة ببيته بالقاهرة للالتحاق بالتعليم الثانوي بعد حصوله على الشهادة الابتدائية من مدرسة القرية المجاورة لقريته " بمُديرية" الشرقية. بمُجرد وصول الصبي " محمد فهمي" إلى بيت عمه بحي المنيل الساحر تلقفته يد زوجة عمه الحانية فذاب فورًا بين أبنائها الخمس فلم يعاني – حسب رواياته لنا على مدار العُمر- لحظة اغتراب واحدة، أو افتقاد لحنين الأُم رغم ستون كيلو مترًا تفصل بينه وبين " البيت الكبير " حيثُ تُقيم أمه وتنتظره في الإجازات لتُغدق عليها من حنانها.
حين تنظُر إلى الصور العائلية لأُسرة د. عبد العظيم في فترة الأربعينيات؛ سواء تلك الصور التقليدية للأب واقفًا ببذلته وطربوشه وإلى جواره الأُم ومن حولهما الأبناء والبنات، أو الصور الأُخرى التلقائية في المصيف أو سطح البيت أو في أحد المتنزهات، إذا نظرت إلى أي من تلك الصور لن تستطيع أن تُميز وجود صبي ليس من أبناء هذين الوالدين لا من حيثُ ترتيب الوقوف ولا من درجة الحميمية ولا من أي مؤشر كان، فقط يُفصح عن ذلك الفارق في الملامح ، حيثُ كان " جدي عبد العظيم" و"نينه نعمات"، وبالتالي كُل أبنائهم يتمتعون ببشرة وملامح وعيون وحتى شعور توحي بأن الصورة لأُسرة أوروبية ما ، في حين كان الصبي محمد فهمي يتميز ببشرته القمحية التي لوحتها شمس القرية وتشربت بطمي مياه " الرشاح" الذي تعّلم فيه السباحة، فضلًا عن شعره الأسود المجعد كعموم المصريين. كان هذا الفارق في الشكل هو الفارق الوحيد، وإذا كان ثمة تمييز ما في المُعاملة فقد كان دائمًا لصالح ذلك الصبي الضيف يتيم الأب.
كانت نينه نعمات ابنة لعائلة " زاهر " العريقة وكانت تتمتع بملامح يظن الرائي أن صاحبتها تنتمي إلى إحدى الدول الإسكندنافية! بشرة بيضاء مُشربة بحُمرة خفيفة أو فلنقُل وردية، وشعر ناعم كثيف بلون الذهب وعيون صافية الزرقة وفم دقيق كأفواه الأطفال.. لم تنجح السنون والعقود التي وصلت بحياتها إلى مشارف المائة عام في أن تنزع عنها ولو القليل من ذلك الجمال الآسر، غير أن تاجها الذهبي تحول إلى تاج بلاتيني، فضلًا عن تجاعيد الزمن وتضائل البدن، لكن كُل ذلك لم يكُن كافيًا لينزع عنها اللقب الذي أجمع عليه الجميع من الأبناء والأحفاد والأقارب حتى يومها الأخير... كُنا جميعًا نُشير إليها: " الجميل".
- إيه اللي أخرك على ميعادك؟
- كُنت بازور" الجميل".
- وصحتها عاملة إيه؟
- الحمد لله ماشية، أصرّت تغديني وعملت لي بإيديها غدوة ملوكي.
مثل هذا الحوار كنت تسمعه كثيرًا في أوساط العائلة حتى بعد أن جاوزت نينه نعمات التسعين!
ظل أبي طيلة حياته يتغنى بمآثر "جدي عبد العظيم" و" نينه نعمات" وأفضالهما عليه، وكذا نوادر حياته في بيتهما السعيد.
يذكر مثلًا أنه في إحدى المرات "أخذته الجلالة" وصفع ابنة عمه على وجهها لوقوفها في الشباك، بكُل ما كانت تتمتع به من جمال، في ظل وجود شباب من أبناء الجيران في البيوت المُقابلة! هرعت الصغيرة الجميلة " ليلى" إلى أبيها تشكو له ما فعله " محمد "، والذي وقف بدوره مذهولًا مما جنت كفه! كيف يضرب ابنة عمه وهو ضيف في بيت أبيها؟ وماذا سيكون رد فعل العم؟ فوجئ " محمد" بصوت عمه يرُد على ابنته بهدوء: " أخوكي وبـ “يربيكي" ولازم تسمعي كلامه"! ثُم نادى على أبي وقال له – بعد أن انصرفت ليلى إلى غُرفتها باكية- وبنفس الهدوء الذي أجاب به على ابنته الوحيدة:
- ضربتها ليه؟
- كانت واقفة في الشباك وابن الجيران طالع في بلكونتهم، دمي فار.
- طيب التصرف ده ما يتكررش، ما ينفعش تضرب بنت عمك، أنا نفسي ما بضربهاش، لما يكون فيه حاجة زي كده تيجي تقول لي.
كان هذا هو كُل رد الفعل، وواقع الأمر أن الصبي " محمد فهمي " كان يتمتع في بيت عمه بمكانة ورعاية من العم وزوجته، تفوق عنايتهم بأبنائهم أنفسهم، فهو الضيف يتيم الأب والذي تكفل به جده لأبيه، والذي هو عم د. عبد العظيم، وهذا الجد أيضًا هو الذي حدد بيت د. عبد العظيم لإقامة حفيده من بين جميع الأعمام الآخرين، فقد كان يعرف جيدًا بين أيدي من يضع حفيده مُطمئنًا، ليس فقط ثقًة بابن أخيه، لكن- وهذا هو الأهم- بزوجته " نعمات هانم" تلك السيدة ذات الأصل الطيب والقلب الحنون.
كان من السهل عليَّ شخصيًا أن ألمس صدق الأساطير التي يرويها أبي عن " نينه نعمات، وجدي عبد العظيم" فمن حُسن حظي أن التاريخ أعاد نفسه معي بشكل مُدهش، فأنا أيضًا، ولظروف عمل أُمي انتقلتُ في اليوم السابع لولادتي للإقامة في بيت عمتي، وحتى التحقت بالمدرسة الابتدائية الموجودة في نفس الشارع، مدرسة النيل القومية، وكان هو ذات البيت الذي عاش فيه أبي مع عمه وزوجته!
ذلك أن عمتي التي عشتُ ببيتها كانت زوجة الابن الأكبر لعمها د. عبد العظيم، فكانت – وكُنت معها ومع أُسرتها- تُقيم في الشقة التي تعلو شقة جدي عبد العظيم ونينه نعمات في بيته الخاص في ٨ شارع الدكتور حلمي حسين بالمنيل.
كان من حُسن طالعي أن عاصرتُ جدي عبد العظيم ونينه نعمات شخصيًا، وكأنني سافرتُ في الزمن لأشهد بنفسي كيف كان أبي يعيش بينهما وبين أبنائهما، وكيف كان الصبي الذي يتمتع بكُل التمييز والعناية، وكأنما انتقلت إليَّ مكانة أبي عند هذه الأُسرة، بالطبع تمتعت عند عمتي وزوجها، أو " ماما كوثر" و" بابا أحمد " بتمييز فائق بصفتي " آخر العنقود في البيت بعد أبنائهما الأربعة، والذين كان أصغرهم يكبرني بنحو الخمس سنوات، فكانوا يتسابقون علي رعايتي والاهتمام بي . حين أصبت بالحصبة رضيعًا كانت ماما كوثر ترقد في فراشها وتضعني على صدرها أملًا في أن تنتقل بعض حرارتي العالية إليها فتُخفف عني إلى جانب علاج الطبيب، وحين صرتُ طفلًا في الابتدائي كانت أبله ناهد وأبله كاميليا و" أخويا ظيمة" ( عبد العظيم) واخويا عاصم يتسابقون على مساعدتي في استذكار دروسي وتعليمي رسم الخرائط وما إلى ذلك، رقصت التويست مع أبلة كاميليا الجميلة في صالة المنزل، وذهبت مع أبلة ناهد – أكبر البنات- إلى السينما والنادي وأعياد ميلاد صديقاتها ، رقيبًا سريًا شديد القِصَر وبتكليف سري من ماما كوثر، وواصلت مهمتي السرية حين تمت خطبتها وبدأت في الخروج مع خطيبها! أما " أخويا عاصم" أصغر الأبناء، فقد كنا لا نتوقف عن لعب الكرة بجوارب المدرسة الملفوفة داخل بعضها بصالة المنزل الواسعة وقت العصاري والذي كان وقت قيلولة منتصف اليوم المُقدسة في هذا البيت صارم النظام بحُكم كون رب البيت (بابا أحمد) ضابطًا بالجيش، فضلًا عن صرامة ماما كوثر الفطرية الموروثة. وحين كنا نحقق من الإزعاج ما يكفي لإيقاظ ربة البيت قبل موعدها المُحدد كانت تُعاقبنا بالاحتجاز في غُرفة نومها حتى تستيقظ، وتفرض علينا النوم فرضًا: أنا إلى جوارها، وابنها فلذة كبدها تضع له مخدة على أرضية الغرفة!!!
هكذا إذن عشتُ تلك السنوات أرفل في موجات الرعاية الفائقة وتردداتها الآتية من زمن صبا أبي، ليس فقط في شقة عمتي، ولكن أيضًا في الدور الأسفل أي في شقة جدي عبد العظيم ونينه نعمات، بل وربما بشكل أوسع، أي المزيد من التدليل غير المصحوب بدرجة الصرامة الموجودة بالدور العلوي، كشيم الأجداد والجدات عادة.
عند نينه نعمات لا شيء سوى اللهو واللعب والجري في أرجاء الشقة الفسيحة مع أحفادها من أقراني: الثُلاثي الجميل سناء وسحر وحماده، وأبني عمتهما (وعمتي وعمي في ذات الوقت) قدري وهشام، ومن يستجد من زوار من أطفال العائلة. ظلت نينه نعمات تضاحكنا وتروي لنا حكايات ونوادر آبائنا في طفولتهم وصباهم، وتصنع لنا الأطباق الشهية، وتُضفر بأصابعها الشفافة الرقيقة شعر سناء أو" سن سن" الناعم الطويل الغزير، وتغزل التريكو والكروشيه مُنذ طفولتنا في الستينيات، وحتى مطلع الشباب في الثمانينيات في دأب وسعادة استكمالًا لمشوار عمرها مع آبائنا.
في حديقة بيت جدي عبد العظيم الفسيحة بالإسكندرية في ٣٩ شارع ابن مُصلح (الأرمن سابقًا) كان يجلس أحيانًا على أحد كراسي الحديقة، وأحيانًا على كُرسي مُتحرك حسب حالته الصحية في نهايات الستينيات، بينما نلهو ونجري من حوله أنا وحفيدته سحر، ولا يخلو الأمر من أن أقوم بمُمارسة بعض من "غلاستي" الفطرية التي رافقتني مُنذ الطفولة، والتي لم ارثها عن أحد وإنما صنعتها على عيني وعشتُ أُباهي بها وأُغدق منها على أهلي وأصحابي على مدار عُمري، ثُم صارت كلها من نصيب زوجتي الصابرة المحتسبة! فأقوم مثلًا بالتقاط فرع صغير من فروع أشجار الحديقة وألوح به أمام وجه سحر بل أقربه حتى يكاد يدخل في عينها، ولا تحاول هي الابتعاد حتى " تُثبت حالة" أمام جدها، فلما يطول تجاهُل الجد للأمر تهرول نحوه وتشكو له:
- شايف يا جدي طارق بيعمل إيه؟ الخشبة كانت ح تدخل في عيني.
- دخلت في عينك؟ لمستك حتى؟
- لأ.
- خلاص، هو حُر ابعدي انتي وشك عنها.
ثُم ينظُر نحوي خلسة بعينيه الجميلتين مُعاتبًا وناهيًا... نفس التحيُز القديم المُراعي لظروف الضيافة الذي كان يسلكه مع أبي.
في أحد أيام عام ١٩٦٩ ونحن في انتظار أبي في مطار القاهرة عائدًا من الأُردن أطللنا عليه من شُرفة المطار وهو في صالة الجُمرك وأخبرته أُمي من خلف الزُجاج بحركة شفتيها: " بابا عبده تعيش انت" فانهمرت دموعه بلا حساب كطفل تيتم فقط في تلك اللحظة، وكان أبيه قد غادر الدُنيا وهو في سن التاسعة، وبرحيل جدي عبد العظيم، وجدتي أُم أبي قبله بسنوات قليلة بقيت " نينه نعمات" أُمًا وجدة وحيدة للجميع، وظل بيتها المركز الذي ننطلق منه ونعود إليه، والملاذ العامر بالخير والحنان والذكريات الجميلة الذي نحتمي به وبقاطنته الغالية من هجير الزمن ومتغيراته المُفزعة.
كنا في المصيف جميعًا في بيت جدي عبد العظيم في الإسكندرية في نهاية السبعينيات، وجاءت مُناسبة زفاف في أوساط العائلة في القاهرة فسافر الجميع لحضور الزفاف ورفضت أنا وحمادة وحدنا السفر وقطع مصيفنا بوصفنا شبابًا جامعيين مُستقلي الإرادة. انزعج الآباء والأمهات متسائلين: " ح تاكلوا ازاي وح تتصرفوا ازاي في البيت والهدوم.. إلخ؟"
أسكتت نينه نعمات اعتراضات الجميع بصوتها الرقيق الواهن: " اقفلوا انتو الشُقق وهما ح يجيبوا هدومهم وينزلوا يقعدوا معايا في الڤيلا لغاية لما ترجعوا".
فكانا يومين من الأحلام.. حُرية مُطلقة وطعام شهي وحكايا وذكريات في نهاية اليوم من أجمل ما يكون، كانت معها خادمة صغيرة لا يجاوز دورها تنظيف البيت، بينما كانت نينه نعمات تطبخ لنا بنفسها وتغزل لنا حكاياها السحرية، بل وترتق جواربنا بأصابعها الرقيقة التي صارت شديدة الضعف والتي كانت أحيانًا تلتف علي بعضها البعض وتجد صعوبة في فكّها.
كانت تحرص على أن تُزين يدها بساعة رقيقة وتحرص على النظر فيها من وقتٍ لآخر، وكانت بعض نساء العائلة يتندرن ويتعجبن فيم يشغلها الوقت في هذه السن! وحين تعطلت الساعة سلمتها لحفيدها قدري وكلفته بإصلاحها عند محل معين بالقاهرة، وحين عاد إلى الإسكندرية سألته عن الساعة بمُجرد دخوله، وكان قد نسيها في القاهرة. بان الحرج الشديد على وجه قدري العاشق لجدته، ثُم تفتق ذهنه عن فكرة فأخد يُماطلها بحكاية لا مغزي لها عن عادة تعودها بمُجرد نزوله من القطار بأن يذهب إلى محطة الرمل ليشرب أقداحًا مُتتالية من الخروب عند محل" خروب آمال" الشهير بجوار سينما مترو، وأن خروب آمال لا يُعلى عليه، وهي تُقاطعه سائلةً عن الساعة وهو يُكرر الحكاية: "أصل انا متعود أول ما انزل اسكندرية لازم أول حاجة أعدي على خروب آمال...." ، حتى أدركت أنه نسيها في القاهرة فبدأت تضحك وتُجاريه وتسأله عن تفاصيل أكثر بشأن خروب آمال وانخرطنا جميعا في الضحك لطرافة الموقف من جانب، ولسعادتنا بكُل هذه السماحة التي تفيض بها نينه نعمات من جانب آخر.
في سنوات عُمرها الأخيرة حولها الكَبر إلى ما يُشبه كُرة من السحاب الأبيض الذي لا مكان له سوى في السماء، وكُنتُ أراها تجلس في مجالس العزاء العائلية بمناسبة رحيل قريب أو آخر من أجيال تالية لها وأسمعها تُتمتم في حرج:" العيال الصغيرة بتموت وانا قاعدة، الواحد مكسوف زمان الناس بتبص لي وتقول قاعدة تعمل إيه دي؟" كم تألمت لكلماتها تلك وهممتُ بأن أقول لها بل نرحل جميعًا وتبقين فأنت لا تعرفين قدرك ومقامك في النفوس... لكني امتنعت حتى لا يؤلمها استماعي لتمتماتها.
في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين صعدت سحابة العائلة ناصعة البياض إلى سمائها، رُبما عادت من حيثُ أتت أصلًا... رحلت نينه نعمات، والتي لم يكُن هذا اسمها الحقيقي، فكما كان شائعًا في زمانها مُنحت اسما في شهادة الميلاد، لم يعد يتذكره أحد، ونوديت باسم" نعمات" ولعله كان الاسم الأنسب لها والأصدق في وصفها فقد كانت نهرًا من النِعم سبحنا فيه جميعنا أطفلًا وصبية وشبابًا...
جلست إلى جانب أبي في سُرادق العزاء: طفلٌ من الأربعينيات وطفلٌ من الستينيات يتجرعان يُتم رحيل " نينه نعمات".
طارق فهمي حسين
نوفمبر ٢٠٢٠
-----------------------------
* الصورة في الهرم ١٩٤٩