خالد الخميسي
إذن فيسبوك يُسجل عُمر صداقتنا، خالد الخميسي وأنا، بخمس سنوات فقط ! وللفيسبوك عُذره فهو حبيس الفضاء الإلكتروني والعالم الافتراضي، كما أنه محكوم بتاريخ تسجيل طلب أحدنا صداقة الآخرعلي صفحاته، وقبول الطلب من أحدنا الآخر!!
أما واقع الحياة والتاريخ فيضيف رقم خمسة آخر علي يسار تلك السنوات الخمس التي يسجلها فيسبوك. نعم فربما هي بالفعل نحو خمس وخمسون عامًا جمعتني بخالد الخميسي منذ كنا طفلين تجمعنا عمارة سكنية واحدة نلعب في ممرها الطويل في أيام الآحاد فقط حيث تكون جميع محلات الممر مُغلقة والممر خال تمامًا والحركة فيه مسموح بها للسكان فقط وأطفالهم الذين كنا، خالد وأنا، منهم والممر طويل وكبير، وكان يزيده اتساعًا ضآلة أجسامنا الصغيرة فكانت مساحته بالنسبة لنا تسمح بجميع أنواع اللهو البريء من ركض ولعب الكرة وركوب الدراجات، وكان القانون الوحيد الذي يحكمنا- طبقًا لتعليمات الأهل- هو عدم الخروج من نطاق ممر العمارة إلى رصيف الشارع، وهو القانون الذي كان يلقى التزامًا فطريًا منا جميعًا، فلم يكن أي من سكان " ٣ شارع رشدي" من تلك الأسر التي يلعب أبناؤها في الشارع، فضلًا عن أن شارع رشدي كان دائمًا يعج بالسيارات في كلا الإتجاهين، وكان يمر به خط للترام، نعم:" شارعنا زمان كان فيه تروماي".
كنا عدد كبير من " الصبيان والبنات" نملأ الممر لعبًا ومرحًا، وكنت أنزل بدراجتي الحمراء ذات العجلات الثلاث والكنبة الخلفية حيث تجلس شقيقتي الصغرى- والوحيدة- أمل وأقود بها الدراجة ذهابًا وأيابًا ومن حين لآخر أتوقف لنتجاذب أطراف أحاديث ساذجة وألعاب مرحة مع أقراننا وأصدقائنا چورچ ( بدراجته العجيبة ذات العجلتين في الأمام والعجلة الواحدة الخلفية والمنخفضة إلى الأرض كسيارات السباق!) وشقيقتيه الجميلتين ميري وإيليني، أو مع كِندا الطفلة الوحيدة والجميلة وقرينتها إيڤيت دائمة الابتسام أما " صني( Sunny) وسوزي" جميلتي الطابق الثامن عشر، وجارتي خالد الخميسي في ذات الطابق، فلا أتذكر إن كانتا تنزلان لللعب معنا في الممر في أيام الآحاد أم لا، لكني أتذكر عنهما الكثير والجميل في قادم السنوات، لكن هذه قصةٌ أُخرى...
كان هناك أيضًا الشقيقين حسين وبكر، والطفل الجميل عادل، ووجدي وناهد، وإن كنت لا أتذكر هل كانا هما أيضًا ممن ينزلون للممر أم لا ، فلطالما كان وجدي تلميذًا جادًا وطفلًا فصبيًا ثم شابًا شديد الجدية والالتزام حتى أنه تخرج من كلية الطب طبيبًا نابهًا، ثم سلك فيما بعد السلك اللاهوتي وصار قسيسًا وقورًا.... وأسماء ووجوه أخرى كثيرة لأطفال كثيرين ملأوا العمارة ( ٣ شارع رشدي) مرحًا وجمالًا ثم كبروا فملأوها حُبًا وأحلامًا ، كان عددنا كبيرًا إذ أن العمارة تحتوي على ستين شقة تقطنها ستٌ وأربعون أُسرة مصرية من الطبقة المتوسطة العاملة الهادئة.
بين كُل هؤلاء الأطفال كان خالد الخميسي وشقيقته الصغيرة شديدة الجمال هند، كانا ربما الأكثر وداعة وعذوبة بيننا جميعًا .. طفلان خرجا من قلب مأساة الرحيل المبكر للأم في ريعان الشباب إثر حادث أليم، ورغم ذلك فالنشأة السوية الهادئة والعناية الفائقة التي حرصت عليها عائلة الشوباشي للحفيدين الصغيرين صنعت منهما هذين الكائنين البديعين أطفالًا فصبي وصبية فشابًا وشابة وحتي يومنا هذا.
لم تجمعني بخالد الخميسي الجيرة وسنوات لعب الطفولة فقط، وإنما هي صداقة موروثة، فوالده الشاعر والكاتب والسينمائي الكبير متعدد المواهب " القديس" عبد الرحمن الخميسي كان صديقًا لأبي منذ بداية الخمسينيات وحتى نهاية العُمر، وكان أيضًا من أوائل أساتذة أبي في الصحافة في جريدة المصري، من أوائل من شجعوه على نشر قصصه القصيرة، ثم تزاملا في الكفاح علي مدار العُمر سواء في الحركة الوطنية المصرية أو في الثورة الفلسطينية وحركة الثورة العربية عمومًا، وفي بيروت أقام القديس معنا أحيانًا في شقتنا الصغيرة ، وكتب قصيدته الرائعة في حُب ورثاء زوجته الراحلة فاتن الشوباشي، كتبها في شرفة شقتنا هذه...
أتذكر يوم أن انحرفت بي دراجتي الصغيرة في ممر العمارة فاصطدمت بخالد وسببت له جرحًا في ساقه ( وكنا بالطبع نرتدي الشورتات في تلك السن)، أما أنا وشقيقتي فانقلبت بنا الدراجة علي أحد جانبيها، وصعدنا جميعًا إلى شققنا متألمين. وفي المساء نزلت إلينا " طنط هُدى الشوباشي" خالة خالد وهو بصحبتها بعد أن ضمدت جرح ساقه، واستقبلتها أُمي، وكطبع آل الشوباشي الذي كنت دائمًا أتعجب للرقة الشديدة والتهذيب الخيالي الذي يتمتعون به؛ بدأت طنط هُدى - على استحياء- تشكو لأمي عاتبة علي إيذائي لخالد علي هذا النحو، وكان خالد وقتها أصغر من أن ينجح في شرح ما حدث بالضبط لخالته، لذا فحين صعد إليها بهذا الجرح النازف ظنت أن اشتباكًا ما قد وقع بيننا وأنني ربما تعمدت إيذاءه! ولأني كنت أكبر قليلًا من خالد فقد فهمت الموقف وقلت لطنط هدى ببراءة: "لأ يا طنط أنا ما قصدتش. دي العجلة وقعت بيا أنا وأمل وخبطت في خالد واتعور" ففوجئت بها، وقد كانت تتحدث بمنتهي الرقة من البداية، فوجئت بها تزداد رقة وتربت على كتفي بحنو وتبدأ في " الاعتذار" عن سوء فهمها للموقف!!!
أي كائنات من نور كان هؤلاء" الشوباشية" الذين نشأ بينهم خالد الخميسي؟!
مرت السنوات والعقود وحملتنا الحياة أنا تارة إلى بيروت، وتارة إلى بودابست، فالإسكندرية، وحملت خالد إلى باريس وسواها، وغادر كلانا العمارة إلى حياة جديدة وبيوت جديدة، وبقي الأهل جيرانًا وأصدقاء، ثم جمعتني صدفة بخالد منذ نحو ربع قرن في مكان عملي واتصل ما انقطع- ولو علي فترات، ثم بدأت أقرأ لخالد الخميسي مقالات هامة تنطوي علي أفكار ومواقف من الحياة والسياسة واللغة والمجتمع جديرة بالإعجاب والفحص والتدبر، ثم فاجئني وأمتعني - وكُل القُراء- برائعته: " تاكسي" ثم استمر في خوض تجارب الكتابة المتنوعة كما في روايته " سفينة نوح" ثمُ في كتابه المُتفرد " ٢٠١١ نُقطة ومن أول السطر" ثم أحدث رواياته: " الشمندر" التي ناقشته في بعض ملاحظات يسمح لي بها تاريخنا هذا المُشترك، بل وتُمثل حقه عليّ أيضًا، ومازلنا ننتظر ونتوقع منه الكثير والجديد.
عزيزي خالد الخميسي: كُل سنة واحنا طيبين يُراقبنا الآباء من عليين وينتظرون منا المزيد من التواصل والتآخي ما بقي في العمر من سنين.
======
طارق فهمي حسين
٥ يونيو ٢٠٢١