#أهلاً_بكين.
#محمود_الشنواني.
إعتدتُ مُنذ سنوات ألا أخرُج في الأعياد سوى إلى زيارة عائلية أو أخرى في اليوم الأول للعيد ،ثُم ألوذ بجدران البيت طيلة العيد ، لكني هذا العيد قُمت بشيء مُختلف تماماً ، إذ سافرتُ إلى الصين ، نزلتُ في أحد فنادق بكين و تنقلتُ بين معالمها التاريخية و السياحية، زرت المعابد و المتاحف و الحدائق ، دخلتُ المدينة المُحرّمة ، و تجولتُ في الشوارع الواسعة و الميادين الكبيرة ، و كذا الأزقة الضيقة و الأسواق و الأحياء الفقيرة ، راقبتُ أحوالها و أحوال أهلها ، كما ركبتُ القطار " الطلقة " إلى مدينة تيانجين حيثُ قضيت يوماً بين معالمها ،و سبحت في تاريخ الصين و حضارتها و تساؤلات مُستقبلها و مُستقبل العالم معها ، كانت بحق أجازةُ عيد مُمتعة و مُفيدة روحياً و ثقافياً و على جميع المستويات .
الرحلة من المفروض أنها استغرقت إسبوعين ، لكنني عشتها في نحو الساعتين كما أنني لم أُفارق خلالها مقعدي في بيتي ، ذلك أنني عشتها بين دفتي الكتاب الرائع " أهلاً بكين " الذي سجل فيه الصديق الرائع د. محمود الشنواني وقائع و انطباعات رحلته هو الشخصية إلى الصين في عام ٢٠١٤ .
هذا هو الكتاب الثاني الذي أقرأه للدكتور محمود الشنواني بعد كتابه الرائع أيضاً " ثلاثون عاماً في صُحبة نجيب محفوظ " ، و بذلك أكون قد قرأت " كُل " ماصدر للكاتب حتي الآن من كُتب ، و إن كان بعكس الترتيب الزمني للصدور !
و على غلافي كلا الكتابين لاحظتُ حرص د. محمود الشنواني على إغفال وضع ( د. ) التي تُشير إلى صفته كطبيب أو كحامل للدكتوراة كما يحرص أغلب من يملكون إحدى الصفتين أو كلتاهما ( كما في حالة الدكتور محمود ) ، و هذا الإغفال العمدي يتسق تماماً مع شخصية محمود الشنواني الإنسان المتواضع ، و المتواري في خجل يليقُ بالحُكماء الذين أحسبه واحداً منهم بكُل تأكيد ، كما أن هذا الإغفال لحرف الدال المتبوع بالنقطة يُشير أيضاً إلى أن الكاتب حريصٌ على أن يُقدم لنا مايكتب بأكثر من حرصه على أن يُقدم لنا نفسه ، و لو أوكل الأمر لي شخصياً لوضعت قبل إسم " محمود الشنواني " حرف " الألف . " ليس بمعنى الأُستاذ ، و إنما بمعنى " الإنسان ".
الكتاب كما يبدو من عنوانه و موضوعه ينتمي لما يُعرف بـ " أدب الرحلات " ، لكننا حين نقرأه نكتشف أن في هذا الوصف تحجيم لايليق بالكتاب و مضمونه ، فأدب الرحلات بالفعل موجود بين صفحات الكتاب ، لكنه ليس بالتأكيد كُل ما في الأمر ، و لا حتي " جُله " ، إذ نلمس بوضوح في تناول الكاتب لكُل ما يراه بُعداً إنسانياً و فلسفياً لاتُخطئه العين ، و نلمس بوضوح معنى أن يكون الإنسان حتى و هو في حالة السائح الذي يقضي أجازته ، معنى أن يكون مُثقفاً واعياً ، وقارئاً فاهماً للحياة و البشر و التاريخ ، فالرحلة عبر صفحات هذا الكتاب المُمتع بحق ، و المُفيد بحق ، لم تكُن إلى الصين فقط ، و إنما كانت أيضاً إلى التاريخ و الفلسفات الشرقية ، و مع ذلك كُله و قبله و بعده : رحلة مع الإنسان إبن حضارته و بيئته ، و المُسلح بثقافته الشخصية و مواقفه الواضحة من قضايا الكون ، حين يتصل مع الإنسان و تاريخه و حضارته في بلد آخر و ثقافة أخرى على بُعد آلاف الأميال .
الرحلة مكتوبة بوعي و إنسانية ، و بعذوبة مُمتعة ، و أيضاً بحضور موهبة روائية لا تخفى علي القاريء ، و تدفعنا لتوقع و ترقُب الإنتاج الأدبي و الفكري المنتظر للكاتب محمود الشنواني ، و الذي يمتلك إسلوباً سلساَ و حميماً يحسده عليه كتاب كبار محترفون ، كما يمتلك قُدرة مُدهشة على " التكثيف " إن جاز التعبير حيثُ استطاع أن يصحبنا في رحلته المُمتعة بتفاصيلها و يصف لنا مازار من أماكن و ما شاهد من نماذج بشرية ، و كذا يبثنا إنطباعاته و تأملاته الهامة و العميقة بالفعل، و ربما أيضاً بعض آراءه السياسية و انحيازاته الاجتماعية ، كُل ذلك بين دفتي ١٣٨ صفحة فقط دون أي اختزال أو بتر ، و بالتأكيد دون أي "مط " أو تباطؤ ، و هو نفس ما استطاع أن ينجزه أيضاً في كتابه الثاني " ثلاثون عاماً في صُحبة نجيب محفوظ " و الذي لم يكد يُتم صفحته رقم ١٤١ .
قد يلاحظ البعض أنني لم أناقش تفاصيل مضمون الكتاب بقدر ماتحدثت عن الكاتب و إسلوبه و ثقافته المُنعكسة بوضوح إيجابي علي كتابته ، ذلك أنني لم أرد أن أفسد عليكم متعة قراءة الكتاب ، و الذي لن يستغرق من أكثر القُراء تململاً و عدم صبر على القراءة أكثر من جلسة واحدة ( ليس عن خفة تعتري الكتاب و إنما لشدة سلاسته و استرساله )يخرج منها وقد سيطر عليه نهم القراءة و البحث عن المزيد من كتابات محمود الشنواني و صُحبته المُمتعة عبر السطور و الورق المطبوع.
الكتاب صادر عن دار " صفصافة " عام ٢٠١٥ ، و التي أصدرت كتابه الثاني أيضاً
و يقع في ١٣٨ صفحة كما أسلفت ، أتبعها المؤلف بمُلحق في خمس صفحات يعرض فيه نُبذة عن بعض الكُتب التي ساعدته قراءتها قبل و أثناء رحلته إلى الصين ، و التي يرشحها لأي زائر للصين ، و هي لفتة من المؤلف تؤكد على إحترامه لعقل قارئه من ناحية ، و على حرصه علي نشر المزيد من المعرفة و الثقافة من ناحية أُخرى.
تبقى مُشكلةٍ واحدة هي كيفية العثور علي الكتاب ، و الذي ظللتُ أبحث عنه في عدد من المكتبات و أترك رقم تليفوني بها لإبلاغي حين يتم توفير نُسخة منه دون جدوى حتى أهداني الصيق الغالي محمود الشنواني نفسه هذه النُسخة الغالية بعد أن زادها جمالاً و قيمة فوق قيمتها بأن وضع عليها إهداءاً رقيقاً بخط يده لشخصي المتواضع .
و هذا يُحيلنا إلى دار النشر التي أظُن أنه قد آن الأوان لتُصدر طبعةً ثانية من هذا الكتاب الذي أعلم أن الكثير من القُراء يتلهفون لقراءته .
طارق فهمي حسين
أغسطس ٢٠١٩