إبن جمال عبد الناصر…
===========
في طفولتي في تلك الستينيات الناصرية المجيدة كنت كثيرا ما أبيت أياما وليالي في بيت جدي لأمي الحاج محمد الحكيم تاجر الجلود ذو الاصول المغربية، بعطفة شمس في حارة الروم بحي الغورية العريق العظيم، كان لجدي وجدتي في ذلك الوقت أكثر من حفيد، لكني كنت ذلك الحفيد الذي يأتي من"وسط البلد" من شارع تعبره السيارات في كلا الاتجاهين فضلا عن خط الترام الذي يخترق الشارع بطوله، وبالتالي ففي شارع رشدي بوسط البلد لا يوجد اطفال ولا صبية ولا حتى شباب يلعبون بالشارع أو يقفون عند النواصي، والتزاما من جدي وجدتي ،وأخوالي أيضا، "بظروفي البيئية " كنت الحفيد الذي لا يسمح له بالنزول ليلعب في الحارة وسط جميع أطفالها، لكن كان يسمح لي بالجلوس إلى جوار جدتي الصعيدية الجميلة زينب مصطفى حسن ،والتي تمت بصلة قرابة قوية إلى عميد الأدب العربي د.طه حسين ( ابن عمتها حسبما أتذكر) ، كان يسمح لي بالجلوس إلى جوارها في البلكونة لأراقب أطفال الحارة وهم يلعبون، كان بيت جدي، وما زال يقع في نهاية الحارة ويسدها، نعم، كانت "عطفة شمس" ومازالت حارة سد، يسدها بيت الحاج محمد الحكيم.
البيت إذن، والبلكونة، متعامد على الحارة، ولما كانت شقة جدي تقع في الدور الأول بعد الأرضي( فوق شقة خالي هاشم) فكان ذلك يتيح لي مشاهدة بانورامية للعطفة بكاملها، وكذا سمعا واضحا لكل ما يدور بين الأطفال اللاهين على بلاط العطفة الفاطمي القديم النظيف دائما بفضل جهود أهل الحارة في تلك الأيام.
تعلمت بالمشاهدة الكثير من ألعاب زمن طفولتي: تريك تراك والسبع طوبات، ولمس الحمام، وكيكه ع العالي واللعب بالبلي وغيرها، لكن بقيت في ذاكرتي عبارة عظيمة الدلالة لا أظن أن لها مثيلا في ثقافات أطفال شعوب أخرى، كان أطفال الحارة يتحدون بعضهم البعض في أداء حركة صعبة ما، او في تحقيق هدف ما في لعبة البلي مثلا او غيرها، وكانت العبارة الوحيدة الشهيرة لإعلان التحدي بينهم هي : "تبقى ابن جمال عبد الناصر لو عرفت تعمل الحركة دي"
نعم، هكذا!
كان أطفال الحارة الشعبية المصرية يرددون هذه العبارة دائما، وكأن جائزة التفوق على الآخرين أو إنجاز ما لا يقدر عليه أحد تتمثل في استحقاق أبوة جمال عبد الناصر!
كانت هذه العبارة تقال على مسمع من الآباء والأمهات ، ولم أر او أسمع يوما أب أو أم من أهل الحارة ينهون أولادهم عن قولها، أو يتململون من سماع أطفالهم يستبدلونهم بجمال عبد الناصر!
هل كان الانتماء لهذا الرجل بالبنوة منتهى الأمل لأطفال حارتنا لأنه يحبهم كما يحبونه؟ أم لأنهم -في زمنه- يجلسون في الفصول في المدارس كتفا بكتف إلى جوار أبناء جميع فئات وطبقات المجتمع؟ يرتدون نفس الملابس من نفس القماش وتتاح لهم الفرصة الكاملة والعادلة للتعليم والتفوق على أبناء الزمالك ومصر الجديدة وجاردن سيتي مثلا، هل كان اطفال حارتنا يعون ذلك حقا؟ ، أم كانوا يشاهدون صور أبنائه فلا يجدون فارقا كبيرا بينهم وبين انفسهم ؟ هل هي فطرة الاطفال وفراستهم التي يولدون بها مثلا؟
لا أدري، ولا املك إجابة، ربما كان كل ذلك معا، ربما كانوا يرون مجتمعا يشبون فيه فيرون آباءهم العمال والحرفيين يمشون في الحياة مرفوعي الرؤوس موفوري الكرامة، يتعاملون بندية واحترام متبادل مع الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة، ربما.
عن نفسي، كنت طفلا لا يفوت خطابا لجمال عبد الناصر، أسمعه من أول "أيها الإخوة المواطنون… إلى:" والسلام عليكم ورحمة الله"
كنت أسمعه وأراقبه، وأستوعب كل حرف ينطقه، ثم أناقش ابي وأستفسر منه عن كل ما استغلق علي فهمه وأنا طفل دون العاشرة ببضع سنوات، وحتى رحيل عبد الناصر وأنا تلميذ بالإعدادي.
كنت اعرف أسماء أبنائه وبناته جميعا، وأعرف شكل كل منهم، بل وأميل بعواطفي البريئة نحو طفلته منى بشعرها الناعم وابتسامتها المضيئة وعيناها الكحيلتين كعيني أبيها!
كنت أغبط خالد الذي يظهر في الصور وهو يمشي إلى جوار أبيه مرتديا بذلة وربطة عنق صنعت في المحلة الكبرى كحال بذلة وربطة عنق أبيه، يسير إلى جواره، ويحمل بعض ملامحه وذات وقاره، يراه يوميا ويعيش معه ويتحدث إليه باستمرار، كنت أنا، بالمناسبة، طفلا أكثر تأنقا بوضوح من أبناء عبد الناصر !
كنت - على خلاف أطفال حارة جدي- لا أصل بحبي لعبد الناصر إلى التمني بان اكون "إبن جمال عبد الناصر" إذ تصادف أن لي أب لا أقايضه بكل آباء العالم، لكني بالتأكيد كنت أتمنى أن أرى جمال عبد الناصر، وكنت أختزن الكثير من الكلام والآراء، بل وأحيانا الاعتراضات التي كنت أود ان أفضي بها إليه!
**
صورة في جيبي
====
في كثير من أيام الجمعة كان جمال عبد الناصر يذهب لأداء الصلاة في الجامع الأزهر الشريف، وكثيرا ما تصادف ذلك مع ذهابي مع أمي إلى بيت جدي بحارة الروم، كان الريس يمر بسيارته المكشوفة عبر شارع الأزهر، وكان الناس يتزاحمون على جانبي الطريق ليروه ويبادلونه التحية، وكنت طفلا صغيرا قصير القامة، فكانت أمي تحملني فوق أكتافها في محاولة لتمكيني من مشاهدة عبد الناصر، ولما كانت أمي لا تتمتع بالطول الفارع، كما انها لا تملك مزاحمة الجموع وتقدم الصفوف، فلم أتمكن يوما من مشاهدة الرجل خارج شاشة التلفزيون وصوره المنشورة بالصحف، كنت عند كل محاولة فاشلة لرؤيته أبكي بالدموع وأصيح وسط الناس :كنت عايز أشوفه، كنت عايز أوريله صورته! فينظر نحوي أحد الواقفين متعاطفا ويخاطب امي: ما توديه يا ست رياسة الجمهورية، ح يخلوه يقابل الريس اكيد.
نعم، كنت أحمل في جيبي كلما خرجنا من البيت صورة لجمال عبد الناصر، ولا أدري اليوم ماذا كانت أهمية أن يرى عبد الناصر صورته التي أحملها في جيبي؟! لكنها سذاجة الطفولة، وحب جارف لرجل استحقه بكل تاكيد من طفل مثلي، ومن أطفال حارة الروم، ومن الفلاحين في قريتنا الصغيرة، والعمال في الورش والمصانع، وحتى من أصحاب المقاهي وباعة العصير الذين مازال الكثيرين منهم يزينون حوائط مقاهيهم ومحلاتهم وبيوتهم بصور جمال عبد الناصر ، وحين غادر عبد الناصر دنيانا كان واحدا من اسباب بكائي بحرقة على رحيله أن باب احتمالات لقائي به قد تم إغلاقه، في الدنيا على الأقل.
**
إلحق يا بابا…
========
كنا نسكن في ٣ شارع رشدي بوسط القاهرة، الشارع يتقاطع مع شارع محمد فريد الذي يمر بمحاذاة ميدان وقصر عابدين، بلكونة غرفة الصالون القبلية تتيح رؤية بعض من أجزاء شارع محمد فريد في الجزء القادم من ميدان الازهار حتى شارعنا، لكن بعض البيوت تحجب رؤية ميدان وقصر عابدين وبعض من أجزاء الشارع.
أما البلكونة البحرية، والتي تقع في غرفة نوم والداي فتطل على واجهة العمارة في شارع رشدي لكن العمارة المجاورة لنا تحجب تماما رؤية امتداد شارع محمد فريد من تقاطعه مع شارعنا وحتى ميدان مصطفى كامل وما بعده.
تكرر كثيرا مرور عبد الناصر بسيارته المكشوفة أيضا مخترقا شارع محمد فريد، ودائما ما كان أبي يذكرني ضاحكا بمشهد متكرر يمثل إحدى أطرف نوادر طفولتي:
أبي نائم في غرفته، تتعالى أصوات تجمهر وهتافات آتية من شارع محمد فريد، أنتبه إليها، أركض إلى بلكونة الصالون، أسمع جارتنا في البلكونة فوقنا:عبد الناصر معدي في الشارع، تتضاعف سرعة دورتي الدموية وأحاول رؤية بابا جمال من بلكونة الصالون فلا أتمكن، أركض إلى بلكونة غرفة أبي فلا أرى عبد الناصر، هنا وهناك أرى جموع الناس وأرى انعكاس مرور عبد الناصر على وجوههم المتهلله وأذرعهم الملوحة، ولا أرى الزعيم، أواصل الركض بطول الشقة مراوحا بين الشرفتين دون كلل ، وتعلوا عقيرتي الصغيرة الحادة :
" إلحق يا بابا…فلتحيا جمال عبد الناصر"، هكذا بالنص"فلتحيا"
لا يبدو لركضي ولا لهتافي من نهاية، "إلحق يا بابا، فلتحيا جمال عبد الناصر"
يستيقظ أبي غارقا في الضحك، مستفهما:"ألحق "اعمل ايه بس؟!
لا تنتهي كل تلك الجلبة التي أحدثها حتى ينتهي مرور عبد الناصر وأتحقق من ذلك برؤيتي لتفرق الجموع وعودة الهدوء إلى الشارع…
هكذا كان عبد الناصر لدى طفل من زمن عبد الناصر، أطفال ذلك الزمان كانوا غير أطفال اليوم، كانوا أطفال عبد الناصر وزمن عبد الناصر، كنا اطفالا يستطيع التاريخ ان يعول على فطرتنا وعلى بوصلتنا.
**
بابا جمال.
=====
في سبعينيات الردة، وقفت خطيبا في أحد المحافل في عاصمة النضال بيروت الأبية وقت كانت تحتضن النضال الفلسطيني، وقفت خطيبا بصفتي ممثلا لاتحاد الشباب الديموقراطي المصري في لبنان، وكانت المناسبة ذكرى ميلاد عبد الناصر، كنت في التاسعة عشر من عمري، إي أنني غادرت الطفولة وغادرتني منذ سنوات، وكان في مقدمة الحضور قيادات فلسطينية ولبنانية كبيرة، مازلت أتذكر الاخ أبو إياد المناضل الأسطوري وعيناه المحدقتين بي وهو جالس في الصف الأول، وأنا -على تواضع شأني- أعتلي المنصة ممسكا بالميكروفون لأتحدث عن جمال عبد الناصر في ذكرى ميلاده، فلم أجد ما أبدأ به حديثي أصدق وأهم من أن أقول أنني أنتمي إلى جيل عرف جمال عبد الناصر، أول ما عرفه، بصفته: "بابا جمال"…عاش جمال عبد الناصر ومات أبا للفقراء والكادحين، ولأطفال الحواري والقرى والنجوع، ولأطفال فلسطين في المخيمات والمنافي وتحت الاحتلال، عاش ومات أبا للثورة في العالم الثالث كله، عاش ومات أبا لاطفال عطفة شمس الذين كانوا يتسابقون حول من منهم يستحق الجدارة بأن يكون "إبن جمال عبد الناصر"
طارق فهمي حسين
١٥ يناير ٢٠٢٠
-------------------------------
تم نشر هذا الموضوع بمجلة الوعي العربي:
----------------------
http://elw3yalarabi.org/elw3y/2020/01/15/%D8%A5%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق