الأربعاء، 15 سبتمبر 2021

ما بدا" لـ أمين حدّاد... وما خفيَ كان أعظم...

  

ما بدا" لـ أمين حدّاد... وما خفيَ كان أعظم...


 

في إهداٍء رقيق كصاحبه كتب الشاعر أمين حداد لأحد أصدقائه على نسخة من أحدث دواوينه" ما بدا لك"؛ يقول: " هذا ما بدا لي وما خفي كان أعظم"!

وعلامة التعجب في نهاية الجُملة لم يضعها أمين حدّاد وإنما هي من عندي، إذ كلما قرأت ما يكتُب هذا الشاعر أجد علامات التعجُّب تُسيطر على الأجواء من حولي بل تدور حول رأسي في فضاء المكان كما في أفلام الكارتون! ولعجبي هذا أكثر من سبب، منها عجبي من قُدرة هذا الشاعر أولًا على الاحتفاظ بكُل هذا القدر من " دهشة الطفولة" التي نولد بها جميعا وتنمو معنا في سنوات الاستكشاف والتساؤل الأولى ثم تذوي شيئًا فشيئًا مع تقدم العمر والاصطدام بحقائق الحياة، أما أمين حدّاد، ديوان بعد آخر، فيحتفظ بكُل تلك الدهشة فنراه يقول:

الضفدعة ما بتستغربش طعم الحشرات

والزهرة ما بتستغربش عطرها

وانا باستغرب كُل حاجة حواليا

كما يُصرح أو يعترف في نفس القصيدة:

بارتوي بالاندهاش

كما يُفصح أيضًا في قصيدة أُخرى من الديوان:

" والمتعة إنك تندهش

وكل دهشة اكتشاف

وكل رعشة اتصال

واكتمال بالتاني"

 

 ولا يكف عن التساؤل ومحاولة طرح إجابات أيضًا، مُتحريًا في محاولاته للإجابة خبرات الحياة التي عاشها وثقافته الواسعة وتأملاته العميقة، لكن كل ذلك تقوده بوصلة من المشاعر والحس الإنساني العميق. وهو اليوم إذ يخطو برضا واتساق نحو العام الرابع من عقده السابع يتكئ على سبيكة نفيسة من موهبة عميقة وعقل مسكون بالتأمل والفلسفة ومخزون لا ينضب من التفاصيل الصغيرة التي لا ترصدها سوى عين كعين أمين حدّاد ولا تختزنها سوى ذاكرة  ووجدان كذاكرته ووجدانه، فضلًا عن حب عميق للبشر والشجر والوطن والناس الذين هُم حقًا " ناس“ فهو القائل من قبل: " من أحب الناس عاش" وتكتمل سبيكة أمين حدّاد النفيسة بالجمع بين الانسجام التام مع حقائق الحياة ومرور الزمن ورحيل الأحبة وحتي الموت، وبين الثورة التي لا تعرف مهادنة ضد الظُلم والقُبح والعدوان علي جمال الحياة وبساطتها، كل ذلك دون أن يحيد عن القيمة الجمالية للشِعر كشعِر ولا عن موسيقاه الداخلية، والذي يقرأ أشعار أمين حدّاد يدرك ما أعني.

**

إذا أردتُ أن أحصي ما قرأت للشاعر أمين حدّاد من كُتب مستندًا إلى عدد" العناوين" يكون ديوان " ما بدا لك" هو الديوان الشعري الثامن بالإضافة إلى كتابه البديع" جزيرة الأحياء" والذي يجمع بين الشعر والنثر" وقصة للأطفال بعنوان" الجو جميل" عامرة بالشعر والغناء والدهشة اللامحدودة، فضلًا عن مسرحية بديعة بعنوان" إيزيس وأوزوريس".

أما إذا استندت في الإحصاء إلى عدد مرات تكرار قراءة كُل تلك الدواوين والكُتب فأكون قد قرأتُ مئات الدواوين للشاعر أمين حدّاد، ولا أكون في هذا مُبالغًا، فكُل من يقرأ أشعاره سيفهم ما أقصد؛ إذ أن إعادة قراءة نفس الديوان لهذا الشاعر لمرة ثانية تُعادل قراءة ديوانين من الشعر، والقراءة الثالثة تُشبه قراءة ديوان جديد، وهكذا... أما تفسير ذلك عندي فهو المستويات والجماليات المُتعددة التي تتجاذب القارئ في أشعار أمين حدّاد، فقد تأخُذك القراءة الأولى مثلًا في اتجاه اللُغة والمُفردات التي يكتب بها أشعاره، فتجد نفسك مسحوبًا معها مسحورًا ببساطتها وبلاغتها معًا، وبمزجه أحيانًا للعامية والفُصحى في عبارة واحدة على نحو يزيد كلاهما- العامية والفصحى- جمالًا وألقًا! كما يتنقل بين المذاق الكلاسيكي للشعر بأوزانه وقوافيه، وبين التجريب ومُمارسة" الألعاب" الشعرية ويصرح هو نفسه بذلك في قصيدة " تمرين" حين يقول:

".. وأغراضي في الشعر معروفة، بس باحاول أغيّر في الأشكال المألوفة، وباغرف من الأسرار"

 بل ويعمد أحيانًا إلى كسر القوافي مُحذرًا نفسه، في قصيدة أخرى من قصائد الديوان، من الجري واراء القوافي والأوزان على حساب المعنى (وهو ما لا يسمح به أمين حدّاد لنفسه في كل أشعاره) فيقول:

"لأ.. كده فيه قافية بتتسرسب

والوزن بيكدب

ويشدك من أصل الحالة"

  وهكذا قد تكتفي بالاستمتاع بهذه اللُغة الشاعرة التي ينفرد بها أمين حدّاد. ثُم حين تقرأ نفس الديوان لمرة ثانية وبعد أن تآلفت مع اللغة وبساطتها وجمالها، تلتفت إلى الصور والمشاهد التي يرصدها بدقة وجمال، وإلى تفاصيل الحياة اليومية التي لا تفوته – وقد تفوت معظمنا-  ويرى فيها جمالًا لا يراه سواه، بل يرى في بعض ما نراه نحن عاديًا، يرى هو فيه "مُعجزة حقيقية" فهو، وكما يقول في إحدى قصائد هذا الديوان:

" ما باتنظرش المُعجزات

العادي هو المُعجزة"

 

ثُم يجوز أن تقرأ ذات الديوان لمرة ثالثة فتنتبه للفخاخ الفلسفية والأسئلة الوجودية التي لا يكُف أمين حدّاد عن أن " يُلغّم" بها أشعاره:

" الدنيا بتتحسّن وتسوء

والعالم سكران فايق

مبسوط متضايق

وكمان مخنوق

واحنا

ح نعيش في الدنيا دقايق

يتغير حوالينا المشهد

مليون مرة

ونموت"

ولا تفوتنا في كُل القراءات السابقة، أو إن شئتم في قراءة رابعة، متعة السباحة في عوالم الفانتازيا والخيال التي تسري في كثير من الصور داخل قصائده:

فمثلًا نجده يسأل في قصيدة" دوامات الحسن":

" لو انت ماشي على طرف عين حبيبتك، وشربت دموعها المالحة، وشرقت، يبقى الحل إيه لو ما بتعرفش تعوم"

 

 ويقول في قصيدة" غريب":

"قال لزراير الأسانسير: مساء الخير، عايز أروح السطوح

قالت له: حنزّلك على السحاب وابقى انزل دورين

قال لجرس الباب: إمتى بقيت عصفورة؟

قال للحيطة: مين العجوز اللي في الصورة؟

قالت له: دي مراية"...

ولعلي جانبت الصواب أو جانبني، حين وصفت هذه الأبيات- ومثلها كثير- بالفانتازيا، لكني قصدت ذلك على مستوى الصورة الخارجية، لكن الواقعية والعمق فيها لا يخطئهما وجدان.

**

في مُقدمة الديوان، والتي كتبها الشاعر بنفسه، وخيرًا فعل، يبدأ بطرح واحد من تساؤلاته الفلسفية التي لا تنتهي عبر كُل ما نشر من دواوين:

" أقدم لكم نفسي ولمن يهمه الأمر لعلكم تجيبون معي على سؤالي: لماذا أنا هنا وأنتم هنا؟"

ويختم مقدمته البديعة بإجابة السؤال الذي طرحه:

"أنا مثلكم. أنتم هنا لأنكم تعلمون أني أريد أن أكون معكم. وأنا هنا لأني جئت إليكم.

 فاقبلوني بينكم."

وما بين طرح السؤال وإجابته يمضي أمين حدّاد في التعريف بنفسه بالفعل بدءًا من تاريخ الميلاد ومكان الولادة والاسم بالكامل وأين نشأ وإلى أين وأين تنقل والمؤهل الدراسي... لكنه لا يعرض هذه" المعلومات" على النحو الذي يمكن أن يوضع على الغلاف الخلفي لأي كتاب، لكنه يُحملّها بما هي مُحملة به بالفعل من أعماق وخلفيات ساهمت في تكوين هذا الإنسان والشاعر الماثل بيننا عبر ديوانه الجديد “ما بدا لك" طالبًا – في تواضع عهدناه منه- أن نقبله بيننا! فنراه يذكر تاريخ ميلاده إيماءا إلى الجيل الذي ينتمي له ويمثله، وأي زمن نشأ فيه وتأثر به وبتحولاته، وأي ناس قابل وعاشر وعاش بينهم من أهل وأصدقاء وجيران وسواهم ممن قابل في حياته وتأثر بهم بل وممن قرأ عنهم أو لهم فتركوا في نفسه وفي شعره أثرًا ما، ونجده يحرص في هذه المقدمة علي ذكر العديد من أسماء هؤلاء ، وكثيرًا ما يفعل ذلك أيضًا في الكثير من قصائده في هذا الديوان وما سبقه من دواوين ، فـ أمين حدّاد – فيما يبدو- يملك إدراكًا عميقًا للمكونات التي صنعت منه هذا الشاعر ولا يحيل كل هذا الإبداع الذي يقدمه إلى موهبته الكبيرة وحدها، وهذا أيضًا يندرج تحت بند محبته وعرفانه العميقين للناس والأرض والحياة كلها، وهنيئًا لكل من يمر في حياة هذا الشاعر مرورًا حقيقيًا يترك أثرًا في وجدانه، فلسوف يذكره أمين حدّاد عند قُرّاء أشعاره.

**

في هذا الديوان، وسابقيه، يواصل أمين حدّاد، وبشكل متصاعد دائمًا، الإفصاح عن موهبته الكبيرة كشاعر وكإنسان، نعم " فالإنسانية" أيضًا موهبة كبرى لا يملكها كُل" البشر"، كما يواصل مسيرته كشاعر مسكون بكُل تراث الشعر في العالم وبأرواح كُل الشُعراء، وكباحث مجدد دومًا على مستوى الشكل والمضمون، ولا يحكمه في ذلك- كما أسلفت- سوى الموسيقى الداخلية (دون غنائية مفتعلة)، وكذا الصدق التام المُصفى:

بتمانية وعشرين حرف اعمل ما بدا لك

وافهم إنّ ما حدش ينفع يكتب شعرك في الدنيا بدالك

 

وبمناسبة الـ " تمانية وعشرين حرف" فمن ملامح هذا الديوان أيضًا أن الشاعر شاء أن يقسم ديوانه الجديد" ما بدا لك" إلى جزئين. أولهما بعنوان" سيبك من اللي فات" ويضّم قصائد بالعامية المصرية، وثانيهما بعنوان" سرٌّ في العَلَن" ويضّم قصائد بالفصحى، ولولا هذا التقسيم الذي عمد إليه الشاعر، ربما للمرة الأولى، لما تنبه القارئ أو – للدقة – العائش مع قصائد الديوان للحظة الانتقال بين العامية والفصحى إذ أن عامية أمين حدّاد لا تقل رقيًا وجمالًا عن فصحاه، كما أن فصحاه لا تقل سلاسة وبساطة عن عاميته، ولعل هذا الديوان يأتي كجسر مفروش بأجمل الورود بين لغتنا العربية الجميلة و" لهجتنا" العامية المحببة، رادًا ببساطة على تلك المعركة المفتعلة والمستمرة منذ عقود طويلة بين العامية والفصحى.

**

لعلّي أطلتُ كثيرًا ولم أنجح في التعبير عن القيم الجمالية والشعرية والإنسانية في هذا الديوان وفي أشعار أمين حدّاد بشكل عام، لكنى أخيرًا اهتديتُ لخاتمة لهذا المقال يستطيع من يقرأها أن يستغني عن المقال كله (فيما عدا المقاطع التي استشهدت بها من الديوان)، ألا وهي- الخاتمة المرجوة- هذه الأبيات التي يختم بها الشاعر قصيدة من قصائد الديوان بعنوان" روحي تهجرني ليلًا"

إذ تلخص هذه الأبيات بكل جمال وبساطة ما ظللتُ أحاول على " مدار" كل السطور السابقة أن أعبر عنه حول هذا الديوان وهذا الشاعر، وهذا هو بالتحديد أحد الفروق الجوهرية بين شاعر كـ أمين حدّاد وبين أي " كتابة أخرى"

يقول أمين حدّاد:

 

من أين جئت بالشاعر يا أمين؟

أرسله لي فؤادي

ليُسمعني اللغة والإيقاع

ويُريني الصدق لا سواه فيما أراه

وأعطاني سنارة الشعر

فاصطدتُ دهشة الحياة وتفاصيلها

أنا أزيدُ إنسانٍا كلّما عرفتُ إنسانًا

أنقسمُ كلّما كتبتُ قصيدًة تعيش

أنادي القصيدة كما ناديتُ أمّي في الظلام

والصدقُ فقط يجعلها تقول " نعم"

ما اجتمع أمينٌ ونفسُه إلا وثالثهما شاعر

رابعهما مسكين

خامسهما ثائر

عاشرهما خائفٌ على عتبة الستين

من حكايات الستّين

أنني لا أحلم ولكني أزور أحلام الآخرين

من رآني في الحلم فليخبرني

من رآني في الحلم فليتبعني

من رآني في الحلم فليقترب ويخبرني باسمه

وباسمي.

***

هكذا! وبكُل بساطة ووضوح! 

 

وأخيرًا فإن كان هذا " ما بدا” لـ أمين حدّاد، وما خفي – وفقًا لإهدائه الرقيق- كان أعظم، فأنا أيضًا أقول أن هذا " ما بدا لنا" حتى الآن ، وعبر كل دواوين أمين حدّاد السابقة، من موهبته العظيمة وشاعريته الساحرة ، وما خفي منهما - بعد- بالتأكيد أعظم ونحن في انتظار المزيد والمزيد.

 

طارق فهمي حسين

١٦ سبتمبر ٢٠٢١

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء، 22 يونيو 2021

خالد الخميسي

 خالد الخميسي

إذن فيسبوك يُسجل عُمر صداقتنا، خالد الخميسي وأنا، بخمس سنوات فقط ! وللفيسبوك عُذره فهو حبيس الفضاء الإلكتروني والعالم الافتراضي، كما أنه محكوم بتاريخ تسجيل طلب أحدنا صداقة الآخرعلي صفحاته، وقبول الطلب من أحدنا الآخر!!
أما واقع الحياة والتاريخ فيضيف رقم خمسة آخر علي يسار تلك السنوات الخمس التي يسجلها فيسبوك. نعم فربما هي بالفعل نحو خمس وخمسون عامًا جمعتني بخالد الخميسي منذ كنا طفلين تجمعنا عمارة سكنية واحدة نلعب في ممرها الطويل في أيام الآحاد فقط حيث تكون جميع محلات الممر مُغلقة والممر خال تمامًا والحركة فيه مسموح بها للسكان فقط وأطفالهم الذين كنا، خالد وأنا، منهم والممر طويل وكبير، وكان يزيده اتساعًا ضآلة أجسامنا الصغيرة فكانت مساحته بالنسبة لنا تسمح بجميع أنواع اللهو البريء من ركض ولعب الكرة وركوب الدراجات، وكان القانون الوحيد الذي يحكمنا- طبقًا لتعليمات الأهل- هو عدم الخروج من نطاق ممر العمارة إلى رصيف الشارع، وهو القانون الذي كان يلقى التزامًا فطريًا منا جميعًا، فلم يكن أي من سكان " ٣ شارع رشدي" من تلك الأسر التي يلعب أبناؤها في الشارع، فضلًا عن أن شارع رشدي كان دائمًا يعج بالسيارات في كلا الإتجاهين، وكان يمر به خط للترام، نعم:" شارعنا زمان كان فيه تروماي".
كنا عدد كبير من " الصبيان والبنات" نملأ الممر لعبًا ومرحًا، وكنت أنزل بدراجتي الحمراء ذات العجلات الثلاث والكنبة الخلفية حيث تجلس شقيقتي الصغرى- والوحيدة- أمل وأقود بها الدراجة ذهابًا وأيابًا ومن حين لآخر أتوقف لنتجاذب أطراف أحاديث ساذجة وألعاب مرحة مع أقراننا وأصدقائنا چورچ ( بدراجته العجيبة ذات العجلتين في الأمام والعجلة الواحدة الخلفية والمنخفضة إلى الأرض كسيارات السباق!) وشقيقتيه الجميلتين ميري وإيليني، أو مع كِندا الطفلة الوحيدة والجميلة وقرينتها إيڤيت دائمة الابتسام أما " صني( Sunny) وسوزي" جميلتي الطابق الثامن عشر، وجارتي خالد الخميسي في ذات الطابق، فلا أتذكر إن كانتا تنزلان لللعب معنا في الممر في أيام الآحاد أم لا، لكني أتذكر عنهما الكثير والجميل في قادم السنوات، لكن هذه قصةٌ أُخرى...
كان هناك أيضًا الشقيقين حسين وبكر، والطفل الجميل عادل، ووجدي وناهد، وإن كنت لا أتذكر هل كانا هما أيضًا ممن ينزلون للممر أم لا ، فلطالما كان وجدي تلميذًا جادًا وطفلًا فصبيًا ثم شابًا شديد الجدية والالتزام حتى أنه تخرج من كلية الطب طبيبًا نابهًا، ثم سلك فيما بعد السلك اللاهوتي وصار قسيسًا وقورًا.... وأسماء ووجوه أخرى كثيرة لأطفال كثيرين ملأوا العمارة ( ٣ شارع رشدي) مرحًا وجمالًا ثم كبروا فملأوها حُبًا وأحلامًا ، كان عددنا كبيرًا إذ أن العمارة تحتوي على ستين شقة تقطنها ستٌ وأربعون أُسرة مصرية من الطبقة المتوسطة العاملة الهادئة.
بين كُل هؤلاء الأطفال كان خالد الخميسي وشقيقته الصغيرة شديدة الجمال هند، كانا ربما الأكثر وداعة وعذوبة بيننا جميعًا .. طفلان خرجا من قلب مأساة الرحيل المبكر للأم في ريعان الشباب إثر حادث أليم، ورغم ذلك فالنشأة السوية الهادئة والعناية الفائقة التي حرصت عليها عائلة الشوباشي للحفيدين الصغيرين صنعت منهما هذين الكائنين البديعين أطفالًا فصبي وصبية فشابًا وشابة وحتي يومنا هذا.
لم تجمعني بخالد الخميسي الجيرة وسنوات لعب الطفولة فقط، وإنما هي صداقة موروثة، فوالده الشاعر والكاتب والسينمائي الكبير متعدد المواهب " القديس" عبد الرحمن الخميسي كان صديقًا لأبي منذ بداية الخمسينيات وحتى نهاية العُمر، وكان أيضًا من أوائل أساتذة أبي في الصحافة في جريدة المصري، من أوائل من شجعوه على نشر قصصه القصيرة، ثم تزاملا في الكفاح علي مدار العُمر سواء في الحركة الوطنية المصرية أو في الثورة الفلسطينية وحركة الثورة العربية عمومًا، وفي بيروت أقام القديس معنا أحيانًا في شقتنا الصغيرة ، وكتب قصيدته الرائعة في حُب ورثاء زوجته الراحلة فاتن الشوباشي، كتبها في شرفة شقتنا هذه...
أتذكر يوم أن انحرفت بي دراجتي الصغيرة في ممر العمارة فاصطدمت بخالد وسببت له جرحًا في ساقه ( وكنا بالطبع نرتدي الشورتات في تلك السن)، أما أنا وشقيقتي فانقلبت بنا الدراجة علي أحد جانبيها، وصعدنا جميعًا إلى شققنا متألمين. وفي المساء نزلت إلينا " طنط هُدى الشوباشي" خالة خالد وهو بصحبتها بعد أن ضمدت جرح ساقه، واستقبلتها أُمي، وكطبع آل الشوباشي الذي كنت دائمًا أتعجب للرقة الشديدة والتهذيب الخيالي الذي يتمتعون به؛ بدأت طنط هُدى - على استحياء- تشكو لأمي عاتبة علي إيذائي لخالد علي هذا النحو، وكان خالد وقتها أصغر من أن ينجح في شرح ما حدث بالضبط لخالته، لذا فحين صعد إليها بهذا الجرح النازف ظنت أن اشتباكًا ما قد وقع بيننا وأنني ربما تعمدت إيذاءه! ولأني كنت أكبر قليلًا من خالد فقد فهمت الموقف وقلت لطنط هدى ببراءة: "لأ يا طنط أنا ما قصدتش. دي العجلة وقعت بيا أنا وأمل وخبطت في خالد واتعور" ففوجئت بها، وقد كانت تتحدث بمنتهي الرقة من البداية، فوجئت بها تزداد رقة وتربت على كتفي بحنو وتبدأ في " الاعتذار" عن سوء فهمها للموقف!!!
أي كائنات من نور كان هؤلاء" الشوباشية" الذين نشأ بينهم خالد الخميسي؟!
مرت السنوات والعقود وحملتنا الحياة أنا تارة إلى بيروت، وتارة إلى بودابست، فالإسكندرية، وحملت خالد إلى باريس وسواها، وغادر كلانا العمارة إلى حياة جديدة وبيوت جديدة، وبقي الأهل جيرانًا وأصدقاء، ثم جمعتني صدفة بخالد منذ نحو ربع قرن في مكان عملي واتصل ما انقطع- ولو علي فترات، ثم بدأت أقرأ لخالد الخميسي مقالات هامة تنطوي علي أفكار ومواقف من الحياة والسياسة واللغة والمجتمع جديرة بالإعجاب والفحص والتدبر، ثم فاجئني وأمتعني - وكُل القُراء- برائعته: " تاكسي" ثم استمر في خوض تجارب الكتابة المتنوعة كما في روايته " سفينة نوح" ثمُ في كتابه المُتفرد " ٢٠١١ نُقطة ومن أول السطر" ثم أحدث رواياته: " الشمندر" التي ناقشته في بعض ملاحظات يسمح لي بها تاريخنا هذا المُشترك، بل وتُمثل حقه عليّ أيضًا، ومازلنا ننتظر ونتوقع منه الكثير والجديد.
عزيزي خالد الخميسي: كُل سنة واحنا طيبين يُراقبنا الآباء من عليين وينتظرون منا المزيد من التواصل والتآخي ما بقي في العمر من سنين.
 
======
 
طارق فهمي حسين
٥ يونيو ٢٠٢١

الأربعاء، 24 مارس 2021

١١٠٠

 

١١٠٠


 

في الفترة الناصرية

كان عندنا عربية

ماركة نصر ألف ومية

كان لونها رمادي مع إن المرحلة

كانت غير رمادية!

كُنا ف شقة إيجار.. شبابيكها بحرية

وبنت جيراننا جميلة وعيونها عسلية

التعليم مجانًا.. والمريلة بُنّية

وف إعدادي كاروه والمدرسة..

كان إسمها " فتحية"

كانت جنب البيت وكان جنبها جمعية

في الجمعية دواجن وزيوت وصابون

كل حاجات الستر..

كانت في الجمعية

والمدرسة.. كانت قومية

والأحلام.. وردية

في الفترة الناصرية

كان عندنا عربية

ماركة نصر.. ألف ومية

وبنت جيراني جميلة

والأحلام.. كانت وردية.

في الفترة .. الناصرية..

   طارق فهمي حسين

١٠ مارس ٢٠٢١