حضرت في الإسبوع الماضي العرض المسرحي الرائع والمُختلف " أوبرا العتبة"، ذهبت، وزوجتي، إلى مسرح الطليعة تدفعنا تجربة سابقة ناجحة، بل عظيمة النجاح، مع الأداء التمثيلي لفنانة المسرح الشابة الراسخة دعاء حمزة حين شاهدناها منذ بضع سنوات- ولأكثر من ليلة عرض- في العرض المسرحي " مفتاح شهرة" والذي كان من تأليفها وإخراجها أيضًا، فضلا عن التمثيل أمام الفنان ،عظيم الموهبة، عماد اسماعيل.
إذًا فقد ذهبنا إلى هذا العرض بوصفنا من " مُريدي" الأداء التمثيلي لدعاء حمزة، والتي لم تخذلنا بل واصلت إبهارنا بقوة وبساطة الأداء الفاهم الواعي للشخصية وأزمتها ومكانها في العرض بل والمجتمع.
لكن لم يكن هذا كل ما في الأمر، إذ توالت الهدايا متمثلة في كل عناصر العرض من نص رائع ، وأتردد في استخدام تعبير " نص" فهو- إن حاولت تحري الدقة- رؤية نافذة ذات بعد فلسفي لا يخلو من مرارة ممزوجة بالسخرية لما آل إليه حال المجتمع المصري في وقتنا الراهن. حيث استطاع المخرج- العبقري بالمناسبة- هاني عفيفي، والذي هو ذاته صاحب النص/ الرؤية أن يمسك بتلابيب هذا المجتمع المأزوم ويطرحه بقوة على خشبة مسرح الطليعة، وممسكًا باليد الأخرى بتلابيب جمهور العرض واضعًا كلا منهما- العرض والمتلقي - في مواجهة الآخر كما المرآة التي تكشف ولا تجامل!
لو افترضنا أن هيئة المسرح أتت بأعظم كتاب ومخرجي العالم لزيارة ميدانية لمنطقة العتبة، والتي تحاصر فيها جحافل بائعي الفرشات العشوائية السيارات والمارة ومسارح الطليعة والعرائس والقومي، وطلبت منهم أن يصنعوا عملًا مسرحيًا يعبر عن هذه الحالة السريالية؛ لما استطاعوا مجتمعين أن يأتوا بما أتى به هاني عفيفي ومجموعة المبدعين الذين صنعوا معًا هذا العرض الجميل المرير الضاحك! بل أن هذا العرض اتخذ من هذه الحالة المحيطة بالمسرح بوابة رحبة للنفاذ إلى أزمة المجتمع المصري ككل بمثقفيه وفقراءه وطبقته المتوسطة ومغتربيها سعيًا وراء الرزق، بل ودجاليه أيَضا من تجار الفن الرديء. ولم يسقط العرض في خطيئة التعامل مع حالة الفوضى السوقية بسطحية وإدانة متعالية، وإنما كشف لنا عبر جمل قصيرة وسريعة على لسان هذه الشخصية أو تلك عن المآسي المعيشية التي تكمن خلف كل واحد منهم وتدفعه ليكون جزءا من هذه الحالة العبثية.
على مستوى " فن المسرح" فإن العرض المسرحي " أوبرا العتبة" جدير بأن يتم تدريسه في أرقى معاهد وأكاديميات المسرح كنموذج شديد التميز لأمور عدة منها على سبيل المثال الوصول إلى أقصى حالات الإبهار والإمساك بتركيز المشاهد على مدار العرض عبر تسخير كل ما هو معروف ومصطلح عليه من عناصر العرض المسرحي من إضاءة وموسيقى وديكور وحركة ممثلين في ظل أقل إمكانيات متاحة، فهذا عمل مسرحي أنفق عليه بسخاء من جهد وأعصاب وإبداع إنساني بما يفوق بكثير جدًا ما أتيح له من " ميزانية" مالية، وأقول هذا- ليس من واقع معلومة ما- وإنما بخبرة عين تشاهد كل أنواع المسرح على مدى ستة عقود من الزمان وربما أكثر قليلًا.
منها أيضًا أن هذا العرض نموذج وترجمة ناجحة جدًا لمقولة " سقوط الحائط الرابع" المعروفة لدى المسرحيين، فهاني عفيفي وكتيبة الموهوبين الذين معه لم يسقطوا الحائط الرابع فحسب، بل أسقطوا - ومنذ اللحظة الأولى - كل الحوائط والحواجز بينهم، وما يبدعون، وبين جمهور الصالة حتى لا يكاد المشاهد أن يتيقن من أن جاره في الكرسي المجاور مشاهد مثله أم أحد ممثلي العرض؟! بل أن العرض أسقط حتى الأسوار الخارجية للمسرح وفتح تيارًا من التفاعل والتفهم للحالة التي تبدو جنونية خارج المسرح، ولم يأت هذا على سبيل استعراض عضلات المخرج أو حتى مجرد الاختلاف، بل جاء في خدمة العمل تمامًا ولو تم إخراج هذا العرض بشكل آخر لما أوصل رسالته المنشودة ولا جمالياته الفنية.
أما عن التمثيل، فحدث ولا حرج، وإن كنت -للأسف- لا أملك من أسماء الممثلين سوى الرائعة دعاء حمزة التي أدت دورها ببساطة واقتدار وعميق فهم للشخصية وأزمتها وأحلامها المأزومة والمؤجلة ، والفنان الجميل صاحب الحضور المسرحي اللافت محمد عبد الفتّاح( كالابالا) وإن كنت أهمس في أذنه بحب وإعجاب أن " يراجع قليلًا قراءته العربية الفصحى، وإن كان ذلك لم يعطل كثيرًا حضوره المسرحي ونجاحه في تجسيد شخصية المثقف المأزوم والمحاصر.
أما باقي الممثلين، والذين أبدعوا جميعًا وإلى أقصى مدى، فقد شاءت سياسة إلغاء بند الدعاية في مسارح الدولة أن أظل جاهلًا بأسمائهم، وإن كنت- وكل من يشاهد العرض- لا أجهل ولا أتجاهل أبدًا مواهبهم المتقدة وجهدهم الرائع على خشبة مسرح الطليعة وبين أروقته وحتى ساحته الخارجية، بما في ذلك مطرب ومطربة الأوبرا الرائعين والذين يسبقا بداية العرض بأداء غنائي أوبرالي مبهر في ساحة المسرح الخارجية، وكان هذا أيًَضا جزءًا عبقريًا من براعة الإخراج لهذا العرض الذي يتسق تمامًا مع إسم ورسالة مسرح" الطليعة".
أخيرًا مشهد الختام جاء بمثابة تتويج وتكثيف بديع لكل التصاعد الدرامي الذي نسجه العرض فجاء بمثابة لوحة تشكيلية مرسومة بالممثلين والديكور والإكسسوارات جديرة بأن تعلق في أعظم متاحف العالم.
====
كنت، وزوجتي، قد خضنا أهوالًا في الوصول إلى مسرح الطليعة عبر خضم بحر الباعة العشوائي المحاصر للمنطقة، وبعد العرض خضنا ذات الطريق وسط ذات الباعة، لكن الأمر اختلف في طريق العودة حيث سادتنا حالة من التصالح والتفهم لدوافع وخلفيات هؤلاء المئات المدفوعين دفعًا لهذه الحالة السريالية المريرة، لكننا لم نتخلص بالتأكيد- ولا يجب- من السخط على من دفعوا بالوضع كله إلى هذا التردي وبقلب القاهرة إلى هذا القُبح، هذا التصالح والتفهم الذي عدنا به ، مختلفين عما جئنا به، هو التغيير الذي صنعه عرض مسرحي نبيل كأوبرا العتبة في نفوس مشاهديه حين نجح في رصد الحالة وتفسيرها وكشف ما ورائها من أزمات.
طارق فهمي حسين
يوليو ٢٠٢٤
==========