أكثر من أربعة عقود من الشعر الصادق الجميل؛ ومثلها من الإخراج المسرحي المتمكن تُطِل علينا من خلف هذا العنوان" مش روميو وچولييت"، وأعني بذلك الكبيرين الشاعر أمين حدّاد والمخرج المسرحي عصام السيد، واللذان أرى أن التعاون بينهما في هذا العمل المسرحي الكبير هو أهم حدث مسرحي، ورُبما أهم حدث ثقافي بالمعنى الأوسع خلال السنوات الأخيرة.
" مش روميو وچولييت" هي - ببساطة - عودة عِملاقة، دون أدنى مُبالغة للمسرح الغنائي في مصر، وأقصد هنا " المسرح الغنائي " بمفهومه وتعريفه، وليس مجرد عمل مسرحي تتخلله أغاني. لذا، ودون أدنى مُبالغة أيضًا، فأعتقد أن هذا العرض هو نقلة مفصلية في تاريخ المسرح الغنائي، وسوف يتم التأريخ به للفصل بين مراحل تطور فن المسرح- الغنائي بالتحديد- في مصر، فيكون الحديث عن " ما قبل" و" ما بعد" مسرحية " مش روميو وچولييت".
بأمانه لا أستطيع أن أُحدد من أين أبدأ؟ الموضوع أم صياغته الشعرية والغنائية أم الاستعراضات أم أداء الممثلين، أم المايسترو، أقصد المُخرج، الذي صاغ كل هذه العناصر في هارموني مسرحي مُدهش.
نجح هذا العمل الكبير في تناول قضية شائكة من قضايا مجتمعنا بمُنتهى البراعة والوعي والإدراك للحساسيات المُعتادة التي يُثيرها تناول هذا الموضوع بالذات، كما تجنب الكليشيهات المُعتادة تمامًا وتقافز برشاقة فوق حقل الألغام دون أن يُفجر لغمًا واحدًا منها، وقد يبدو هذا الكلام غامضًا وغير مفهوم لمن لم يشاهد العرض بعد، لكني أفضل ذلك على " حرق" الموضوع حتى لا أُفسد مُتعة مشاهدة العرض لمن يقرأ سطوري قبل المُشاهدة.
كما ذكرت القضية شائكة لكن التناول شديد النعومة خاليًا من القوالب سابقة التجهيز، والمعتادة، وحتى النبرة الخطابية لم تكن حاضرة إلا في حدود الضرورة كما أنها كانت تأتي مُبررة ومنطقية حين تجري على لسان مُدرس أو مُدرسة يخاطب كلا منهما تلاميذه، فهي إذًا في موضعها بالضبط وفي سياقها الدرامي تمامًا.
الأشعار والأغاني والحوار الموقّع التي أتت جميعها من جُعبة أمين حدّاد، وما أدراك ما أمين حدّاد، لم يكن من الممكن أن تكون أجمل ولا أسلس ولا أنسب مما جاءت عليه في خدمة الفكرة والدراما المسرحية، أشعار وأغاني وحوار كُتبت ليحفظها الناس من مشاهدة واحدة للعرض، ولتُشكل حِكم وقوانين وأقوال مأثورة ستصبح مرجعًا حين يتم تناول هذه القضية على أي مستوى سواء فنيًا أو خارج إطار الفن وساحاته، ولعلي - كقارئ لجُل ما كتب أمين حدّاد من شعر ونثر- أُدرك سر هذا النجاح في الصياغة الشعرية لهذا العرض، حيثُ أن الرسالة التي يحملها العرض تتطابق تمامًا مع قناعات الشاعر نفسه كشاعر ومواطن مصري عميق الفهم والحب لوطنه، فلم يكتب أشعار هذا العمل مُتكئًا على صنعة أو حِرفيّة ( وهو يمتلك ناصيتهما تمامًا) وإنما كتبها بمجامع الإحساس والإيمان برسالة العرض ومضمونه، أما الصنعة والقافية والتفعيلة وما إلى ذلك من أدوات الشعر فهي - مع أمين حدّاد- تحصيل حاصل وتجري من قلمه على الورق جريان الدم في العروق... " باغني زي ما باتنفس" على رأي مولانا فؤاد حدّاد.
أما موسيقى وألحان أحمد شحتوت واستعراضات شيرين حجازي، فمن العبث محاولة وصف جمالهما وتماهيهما مع الأشعار والدراما وكل عناصر العمل، هذه الألحان وتلك الاستعراضات تُسمع وتُشاهد ولا توصف، هل يمكن مثلًا أن تصف لأحد مذاق الشهد؟ عليه أن يذقه فقط ليدرك عذوبته. هكذا فقط أكون قد نجحت في وصف الموسيقى والألحان والاستعراضات.، ومع ذلك يمكن القول بأن الألحان انطلقت من فهم عميق للطبيعة المُتفردة لأشعار أمين حدّاد ومُفرداته غير المألوفة فكانت الكلمات والموسيقى يدفع كلاها الآخر إلى آفاق بعيدة من التحليق المُبهج الذي تطرب له الأُذن دون أن تغفل عن المعنى، كما أن سلاسة الألحان جعلت الغناء جميلًا ومُمكنًا لكُل المُمثلين المُشاركين في العرض بمستوى عال من النجاح ، خاصةً وهم يتشاركون الغناء والحوار المُغنى مع الفنّان الكبير علي الحجّار ، وما أدراك ما صوت على الحجّار!
نجحت استعراضات شيرين حجازي (والتي لا توصف بل تُشاهد) في تحريك هذا العدد الكبير من المُمثلين والممثلات/ الراقصين والراقصات برشاقة وجمال وانسيابية مُبهجة، ودرامية أيضًا، على خشبة المسرح القومي الصغيرة نسبيا، دون أدني ارتباك أو تزاحُم حتى صارت خشبة القومي في رحابة خشبة المسرح الكبير لدار الأوبرا من حيثُ لا ندري!
تحاشيتُ أن أستخدم في الفقرة السابقة تعبير" المجاميع" فهو تعبير ظالم لباقة الشباب والبنات الذين كانوا مِلح العرض تمثيلًا ورقصًا وغناء، ورغم العدد وجماعية الأداء لكنك تستطيع أن تلمح شخصية كل فرد منهم في إيماءاته الخاصة وإفيهاته المُختلفة فكانوا كالفُسيفساء في لوحة كبيرة جميلة عامرة بالتفاصيل التي يملك كل منها جماله الخاص.
قبل أن أشاهد العرض كنت متشككًا في دقة اختيار الفنان الكبير علي الحجّار مع الفنانة الجميلة رانيا فريد شوقي بسبب فارق السن الذي لا يخفى على أحد، ذلك أني افترضت أنهما غالبًا سيؤديان دور حبيبين، رغم أن عنوان المسرحية يُنبه إلى أن: " مش روميو وچولييت" وهذا في حد ذاته إيفيه " عالي جدًا واختيار عبقري لتسمية العرض.
تبينت خطأ تقديري حين شاهدت علي الحّجار يعتلي خشبة المسرح فتشتعل الصالة حماسة، أما حين بدأ يشدو بصوته الماسي، فحدِث ولا حرج، وماذا عن الأداء التمثيلي؟ جاء تاريخ علي الحجّار المسرحي، وليس الغنائي فقط، وخبراته وحضوره والتيار الساري بينه وبين الجماهير خير مُفتاح للنجاح وحتى للتغاضي عن قدر - غير ملحوظ بشكل كبير- من إيقاع الحركة المُختلف بعض الشيء عن إيقاع حركة باقي المُمثلين ، وإذا وضعنا هذه الملحوظة في كفة ميزان مُقابل كل هذا الحضور والأداء التمثيلي السلس والصوت الغنائي المُتفرد والمتربع في وجداننا لعقود؛ لو فعلنا ذلك لاختفت تمامًا تلك الملحوظة وبقيت حقيقة أن وجود الفنّان علي الحجار في هذا العرض أحد العوامل الأساسية ( وهي كثيرة) لنجاح وجماهيرية العرض.
رحم الله العظيم فريد شوقي الذي بادل جمهوره العريض حُبًا بحُب حتى أنه لم يكتفي بأن يترك لجمهوره إرثًا فنيًا عريضًا وعظيمًا، وإنما أهدى جمهور السينما والمسرح أغلي ما عنده، وأعني الجميلة رانيا فريد شوقي، والتي - رغم أنها تمتلك رصيدًا فنيًا ومسرحيًا كبيرًا- كانت في هذا العرض وجهًا مسرحيًا جديدًا تمامًا، ما كُل هذا الحضور والقبول والخفة واللُطف والألق! فقط، طبقًا لما شاهدتُ في ليلة الافتتاح رُبما أنصح الماكيير بأن يخفف بعض الشيء من وضع المساحيق علي وجه الفنانة رانيا، ألم تُلاحظ يا سيدي الماكيير تلك الإضاءة الذاتية التي يتمتع بها هذا الوجه الجميل؟!
ميدو عادل طاقة مسرحية كبيرة جدًا ويكاد يتحرك على خشبة المسرح مُغمض العينين، يعرف كيف ومتى ينفعل، وكيف يُغالب انفعاله وُيعطي كُل جُملة التون المناسب لها، أما الفنّان المُعاد اكتشافه عزت زين فهو مكسب كبير لجمهور المسرح، ورغم فارق السن فقد كان يُجاري شباب المُمثلين خفة وحركة على نحو مُدهش.
إلى هُنا ونفذت حصيلتي من أسماء نجوم العرض تمثيلًا وغناءً، فكالعادة الجديدة لا يوجد أفيش أو " بامفلت" يحمل صور المُمثلين مقرونة بأسمائهم، وإن كنت قد التقطت من هنا وهناك بعض أسماء المُتألقين مايكل سيدهم وأميرة أحمد وطه خليفة ودينا النشّار، وأعتذر لباقي الشباب والشابات المشتعلين موهبة وتألق في هذا العرض والذنب ليس ذنبي ولكنه ذنب " وزارة المالية" (نعم المالية وليست الثقافة) التي علمت أنها أوقفت بند الدعاية!!!
قد يستوقفني قارئ لسطوري مُنبهًا إلى أنني لم أتطرق لذكر أهم صُناع هذا العرض المسرحي الكبير بل وصاحبه الأول ألا وهو المُخرج الكبير بحق الأُستاذ عصام السيد، ولهذا القارئ أقول بل أعد قراءة سطوري فستجد مُخرجنا الكبير موجودًا في كُل السطور ، وهذا بالضبط ما نجح فيه عصام السيد - كالعادة- على خشبة المسرح إذ أمسك جيدًا بكُل خيوط عناصر العرض، وفي ذات الوقت أخفاها فجعل الجمهور وكأنما يُشاهد حياة حقيقية وأحداثًا واقعية تدور وكأننا شهود عيان على قضية مجتمعية - حقيقية بالمناسبة- عالية التوتر بينما تجري حوادثها في إطار غنائي موسيقي ناعم ومُبهج وضاحك أيضًا في مُفارقة عظيمة لا يصنعها إلا مسرحجي كبير وعتيد كالأُستاذ عصام السيد ، الذي وجد المسرح الغنائي أخيرًا ضالته فيه وفي الشاعر أمين حدّاد وفي هذه الكيمياء التي من الواضح أنها جمعت بينهما في هذا العمل الفريد، والتي نجحت في إخراج المسرح الغنائي الجاد والمُبهج معًا من غفوته وإعادته نابضًا بالحياة على خشبة المسرح القومي العتيد، وأتمنى - وكُل مُحب للمسرح- أن تكون هذه بداية لتعاون مُستمر بين هذين الكبيرين لصُنع غد مسرحي مشرق .
طارق فهمي حسين
يونيو ٢٠٢٤
تكرارًا لما ذكرت في مقال سابق:
- لماذا لا يعتمد المسرح القومي نظام حجز التذاكر " أونلاين" بالإضافة إلى شباك التذاكر؟
- ولماذا لا يتم ربط استمرار موسم العرض المسرحي بالإقبال الجماهيري وليس بأمور إدارية روتينية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق