أسعدني الحظ هذا الشهر بحضور العرض المسرحي الجميل " الأرتيست" على خشبة مسرح الهناجر، فأسعدني كل ما شاهدت في تلك الليلة المسرحية العظيمة. عرض مسرحي على أعلى مستوى نصا وإخراجا وتمثيلا وموسيقى وإضاءة وديكور، أي ان كل عناصر العرض المسرحي الجيد والناجح كانت متحققة في هذا العرض، بل أن كل تلك العناصر كانت تتبارى في الحصول على لقب " نجم العرض" فنجحت جميعها في أن يكون العرض ككل نجما مسرحيا مضيئا لم يخفت ضوءه لحظة واحدة طوال مدة العرض.
كنت أتمنى ان اكون ناقدا مسرحيا متخصصا يمتلك أدواته حتى أستطيع أن أتحدث عن كل من عناصر العرض على حدة مبينا مواطن الجمال فيه، ومتحدثا عن دوره في خدمة الدراما وإثراء العرض، لكني مضطر بالطبع للاكتفاء - إلتزاما بمحدودية إمكانياتي- بذكر انطباعاتي كواحد من عموم المشاهدين.
دون " حرق" للعرض فهو ينطلق من موقف حقيقي لعل بعضنا يتذكره حين اتصلت رئاسة الجمهورية بالفنانة الكبيرة زينات صدقي عام ١٩٧٦ لإخطارها بأنه سيتم تكريمها في عيد الفن في ذلك العام، ثم تدور أحداث المسرحية في الأيام القليلة السابقة على موعد التكريم، والذي يفجر ذكريات الفنانة الكبيرة ، وببراعة ملفتة يعتمد المخرج محمد زكي، والذي هو ذاته صاحب النص، إسلوب الفلاش باك مستعرضا مشوار حياة العظيمة زينات صدقي متنقلا بين مراحل مختلفة في مشوار العمر وبين الحاضر الذي تدور فيه استعدادات الفنانة والمحيطين بها من محبيها وأفراد أسرتها ليوم التكريم المنتظر.
ومابين عذوبة النص وبراعة الإخراج وتميز الدور الجمالي والوظيفي معا لكل من الإضاءة والموسيقى والديكور والملابس يأتي الأداء التمثيلي تتويجا لكل هذه العناصر على أيدي " سرية "من الموهوبين، ليس فقط في فن التمثيل، وإنما أيضا في براعة الوقوف والحركة على خشبة المسرح بوعي وفهم وحب حقيقي لفن المسرح. تتقدم هذه السرية الفنانة هايدي عبد الخالق التي نجحت في استحضار روح زينات صدقي على خشبة المسرح دون أن تقع في فخ التقليد الكاريكاتوري ، وكذا دون أن تطمع في محاكاة كاملة لأداء وخفة ظل زينات صدقي الإسطوريين فكانت الواقعية وحسن الإدراك مفتاح هايدي عبد الخالق للنجاح الكامل في أداء الدور.
أما الفنانة، أو " الأسطى" فاطمة عادل كما أحب دائما أن أصفها؛ فهي بحق، وبلغة قدامى أهل الفن، أسطى في فن التمثيل وعالم الغناء والطرب معا، فصالت وجالت تمثيلا وغناءا على خشبة المسرح ، التي أعتقد أنها تبادل فاطمة عادل حبا بحب فتمنحها حضورا وألقا بقدر ما تغدق عليها فاطمة من جهد وموهبة، كنت أتمنى أن أذكر مجموعة الممثلين كل بإسمه حيث كانوا جميعا- دون استثناء واحد- على أجمل ما يكون من أداء ووعي وفهم لأدوارهم ولفن المسرح كما ينبغي أن يكون، لكن ما منعني هو أنني لم أجد أفيش واحد أو " بامفلت" يذكر أسماء الممثلين مقرونة بصورهم! ولا أدري ما الحكمة في ذلك، خاصة أن معظم أبطال العرض من الشباب الذين مازالوا في بداية الطريق ويستحقون - بجدارة مواهبهم- أن يعرف الجمهور كل منهم بإسمه، عموما كلهم بالفعل كانوا متميزين، لكن مثلا لفت نظري بشدة الشاب الذي أدى دور " سيد" شقيق زينات صدقي ( في مرحلة الصبا).هذا الممثل تحديدا كان كالفراشة على خشبة المسرح، حتى أنه كان يؤدي دوره دون حذاء في قدميه وكأنه يؤكد قداسة المسرح في وعيه أو حتى لا وعيه! هذا الممثل يمتلك مقومات أداء شتى أنواع الفن المسرحي من الكلاسيكي إلى البريختي إلى الاستعراضي، وما لا أعرفه من تصنيفات المسرح، وبنفس مستوى البراعة، في ظني الشخصي المتواضع.
ملاحظة أخيرة بخصوص هذا العرض الجميل هي أنه ذكرني في بعض مشاهد وتيمات بعرض مسرحي بديع كنت قد شاهدته ( عدة مرات) منذ بضعة سنوات وهو الديودراما الجميلة" مفتاح شهرة" من تأليف وإخراج وتمثيل متعددة المواهب دعاء حمزة والموهوب الكبير عماد إسماعيل، والتأثير والتاثر وتوارد الأفكار و" التناص" وكل هذه المصطلحات أمر وارد بالتأكيد، وقد يصل في بعض الحالات إلى حد اختيار ذات الأغنية/ المونولوج التي اختتمت بها " مفتاح شهرة" لختام " الأرتيست أيضا ! لكن هذا بالتأكيد لا ينتقص من قيمة وجمال هذا العرض المسرحي البديع وإنما هي فقط مجرد ملاحظة لا أكثر، فتحية لصناع العرض المسرحي الجميل " الأرتيست" وتمنياتي بأن يتم مد العرض لأيام بل وشهور طويلة حتى يتاح لأكبر عدد من المشاهدين حضوره خصوصا وأن الصالة كانت كاملة العدد على مدار جميع أيام العرض القليلة جدا. فحتى زمن قريب كان تعبير " الموسم المسرحي " يعني غالبا بضعة شهور كموسم صيفي ومثلها كموسم شتوي، فما الذي حدث حتى يقتصر " الموسم الأول" لعمل بهذا الجمال على إسبوع ( ويتم مده ليومين إضافيين فقط) ثم ندخل في " الموسم الثاني " الذي يقتصر على أربع ليال فقط !!!
الفن يا مسئولي الفن لا يجب أن يعامل بمعايير الروتين وبنود الميزانية التي " لا تسمح" وما إلى ذلك، بل يجب أن يكون تحديد استمرارية أي عرض من عدمه مرتبطا بالإقبال الجماهيري، كما يجب أن يتم تصوير العروض الناجحة تلفزيونيا على الاقل للتوثيق المستحق والواجب.
أمر آخر: لماذا لا يتم حجز التذاكر عبر الإنترنت بالإضافة إلى شباك التذاكر التقليدي تيسيرا على الجمهور خاصة في هذا الجو الحار؟ ولماذا لا يتفضل القائمون على مسرح الهناجر بترقيم المقاعد وحجز التذاكر على هذا الأساس بدلا من الفوضى والتدافع في دخول الجمهور، وتخفيفا أيضا على موظفي المسرح الذين يبذلون جهدا بدنيا وعصبيا كبيرا للحفاظ على النظام في الدخول، والذين أوجه لهم كل التحية والاحترام على هذا الجهد وأيضا على اللياقة واللباقة في التعامل مع كل هذا الزحام الذي قد يكون ترقيم المقاعد حلا بديهيا له.
أخيرا: اليوم الخميس ٢٠ يونيو هو ليلة العرض الأخيرة في هذا " الموسم الثاني" للمسرحية البديعة " الأرتيست" لذا أقترح على كل محبي الفن الجميل الحرص على مشاهدة العرض اليوم، فلا نعلم متى " يسمح البند" بموسم ثالث ربما قد يتكون من ليلة واحدة مثلا! ورحم الله مولانا فؤاد حداد الذي نبهنا إلى أن " الدنيا الدواويني عجيبة!!!
طارق فهمي حسين
يونيو ٢٠٢٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق