الخميس، 28 يوليو 2016

فهمي حسين لمن لم يعرفه



فهمي حسين لمن لم يعرفه





في اليوم الحادي و الثلاثين من  أغُسطُس من عام ١٩٣٤م ، و في إحدي القُري الصغيرة بمُحافظة الشرقية وُلِد محمد فهمي حسين أو “ فاروق “- كما أحبت أُمه أن تُسميه تُيمُناً بولي عهد البلاد في ذلك الوقت- و عاش طفولته في تلك القرية التي تحمل إسم جده الذي نشأ في كنفه بعد أن فقد والده في سن التاسعة حيثُ كان الأصغر بين أربع أشقاء - هو خامسهُم - و ثلاث شقيقات ، و بعد أن أتم دراسته الإبتدائية بمدرسة القرية أرسله جده إلى القاهرة حيثُ عاش في كنف أحد أعمامه في حي المنيل في شارع يحمل إسم عمٌ آخر له ( شارع الدكتور حلمي حسين ) ، و إلتحق بمدرسة الإبراهيمية الثانوية حيثُ بدأ يُنمي وعياً ثقافياً و سياسياً مُنطلقاً من شباب الوفد إلي الطليعة الوفدية مُتجها يساراً مع إلتحاقه بكُلية الحقوق حيثُ لا يُمكن الجزم بإنضمامه إلى“ حدتو “ - ( الحركة الديموقراطية للتحرُر الوطني ) من عدمه و ذلك غموضٌ ظل لصيقاً بشخصيته طيلة حياته - كما سنرى فيما بعد - و رغم الوضوح التام في باقي جوانب شخصيته ، إلا أن هذا الغموض الجُزئي كان لازماً لطبيعة ما مارس من أنشطة سياسية " و نضالية " و ما إنضم إليه من تنظيمات على مدار حياته إلى الحد الذي يُمكنني من القول بأنه لا يوجد شخص واحد يستطيع أن يزعُم أنه يعرف كُل شيء عن “ فهمي حسين “ بما في ذلك كاتب هذه السطور !!!
بدأت تظهر موهبته ككاتب للقصة القصيرة و كذا موهبته الصحفية فساهم  في نشرات و مجلات  بالجامعة و إلتحق بجريدة المصري - أكبر جريدة سياسية في مصر في ذلك الوقت - و بالطبع فقد سهلت قرابته بمُلاك الجريدة “ آل أبو الفتح أبناء خالتهُ“ له الأمر فتدرب علي أيدي كبار الصحفيين في مصر و نُشرت له أول قصصه القصيرة  في سن مبكرة للغاية ثُم إلتحق بعد كُلية الحقوق بكُلية الآداب قسم صحافة ثُم معهد السيناريو ، و في سنوات لاحقة قام بالتدريس في قسم الصحافة الذي تخرج منه و تتلمذ على يديه عدد من الصحفيين الذين برزوا فيما بعد منهُم علي سبيل المثال الشاعر و الكاتب الكبير فاروق جويده
في المرحلة الثانوية و الجامعية شارك في الكثير من النشاطات السياسية العلني منها و السري ، و في إحدى المُظاهرات التي خرجت من مدرسته و في ميدان سيمون بوليفار ( حالياً ) قام و زُملائه بقلب إحدى عربات الترام و إتخاذها متراساً يحتمون خلفه و يرشقون قوات الشُرطة بالحجارة ، لمح ظابطا يقف تحت أحد أعمدة الإنارة و يُلقي بتعليماته لتشكيلات الجنود المُهاجمة ، و بمهارة إبن القرية إلتقط حجراً و صوبه تجاه المصباح المُعلق أعلى العمود فسقط فوق رأس الضابط و شج رأسه وغادر المكان محمولاً إلى سيارة الإسعاف !!!
تلك الواقعة تُعبر بدقة عن ملمح أساسي في شخصيته فرغم أنه كان رقيقاً إلى أبعد الحدود يحملُ قلباً مُحباً إلى درجة تجاوزت حُب البشر إلى الكائنات على تنوعها من دواب و شجر و طين الأرض إلا أنه في ذات الوقت - و ياللدهشة - حين يتطلب الأمر كان يظهر وجه المُقاتل شديد الصلابة كما سنرى في قادم الحديث
=========
حين قامت ثورة يوليو ٥٢ كان - كأغلب شباب جيله - من أشد المُتحمسين للثورة فكان أول صحفي - بإستثناء هيكل - يحصُل على تصريح لدخول مبنى قيادة الجيش الذي كان مقرا لقيادة الثورة في اليوم التالي مُباشرة لقيامها و بالطبع ساعده في ذلك كونه مندوباً لجريدة المصري و الدور الذي أداه أقربائه أحمد أبو الفتح و زغلول عبد الرحمن و ثروت عُكاشة في الثورة ، و كان قانون الإصلاح الزراعي الأول في ٩ سبتمبر ١٩٥٢ هو نُقطة الفصل في إنحيازه الكامل للثورة و مبادئها و السبب شديد الوضوح لمن قرأ مجموعاته القصصية الثلاث و التي أهدى الأولى منها “ إلى الذين ضحكوا أخيراً ، و إن لم يضحكوا - بعد - كثيراً “ في إشارة إلى فلاحي مصر  - رغم إنتمائه لأُسرة من متوسطي المُلاك الزراعيين - إلا إنتمائه الوجداني للفلاح البسيط كان لا مثيل له ...، في أزمة مارس ٥٤ إنحاز - رغم ثقته بعبد الناصر - إلى جانب خالد مُحي الدين بحُكم إنتماؤه لليسار و إنتصاراً “ للديموقراطية “ كما بدا الأمر في ذلك الوقت ، و كان أن تم إغلاق و تأميم جريدة المصري و شركة الإعلانات المصرية و القبض على محمود و حسين أبو الفتح و تقديمهُما للمُحاكمة ، فإذا بفهمي حسين - في سن العشرين - يُرسل إلى عبد الناصر ( و كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت و وزيراً للداخلية ) البرقية التالي نصها :

==============================================
“ إلي البكباشي جمال عبد الناصر - رئاسة وزراء مصر .
إنكُم بمُحاكمتكُم محمود و حسين أبو الفتح قد بدأتُم تتجهون إتجاهاً لا يحمدهُ لكُم الأحرار ، فتمهل يا جمال و إحذر حُكم التاريخ “
==============================================
إثر هذه البرقية تم إستدعاؤه بالمُخابرات الحربية و ظل مُديرها يُحقق معه بنفسه طوال الليل فلما طال الأمر فإذا بفهمي حسين - سليل البيت النبوي الشريف - ينبري واقفاً و بصوتٍ شديد الهدوء يقول لمُدير المُخابرات الحربية : أحب أوضح إنه ليس من مصلحة أي أحد و لا من مصلحة الثورة و لا عبد الناصر نفسه أن أشعُر بالظُلم للحظةٍ واحدة ، فأُسقِط في يد الرجُل و بدأ في التلطُف في الحديث و يسأل فهمي حسين مؤكداً : هل تعرضت لأي إساءة طوال حديثنا ؟ نحنُ كُنا نتحقق فقط من أن ليس ورائك تنظيم ، كما أنه ليس من اللائق أن تقول لعبد الناصر و هو الثائر الوطني “ إحذر حُكم التاريخ ، ثُم و قبل أن يسمح له بالإنصراف أطلعه على تأشيرة عبد الناصر علي البرقية و كانت كالتالي : “ يُستدعي و يُعامل برفق “ .............
حين غادر إبن خالته و أُستاذه أحمد أبو الفتح و شقيقه محمود ـ أول نقيب للصحفيين في مصر-حين غادرا مصر و رفعا لواء مُعارضة عبد الناصر في الخارج و قاما بإنشاء إذاعة مصر الحُرة من باريس - على ما أذكُر - رفض فهمي حسين مواقفهُما - رغم حُبه الشديد لهُما و إرتباطه بهما - و إلتحق بجريدة الثورة الوليدة - جريدة الجمهورية - و عمل بها حتي أصبح سكرتيرا للتحرير و زامل و عاصر في تلك الفترة كبار الشخصيات الأدبية و الصحفية و كانوا أصدقاؤه الشخصيين رغم الفارق الكبير في السن فكانت صُحبته الدائمة تشمل جليل البنداري و بيرم التونسي و كامل الشناوي و عبد الرحمن الخميسي و الشيخ زكريا أحمد و الشيخ محمد الفيومي و أغلب عمالقة الفن و الثقافة و الأدب في الخمسينيات و الستينيات ...
====
حين وقع العدوان الثُلاثي في ٥٦ ترك فهمي حسين القاهرة و إنضم إلى كتائب المُقاومة الشعبية في فايـــــد ( في سن ٢٢ ) و لم يعُد إلا بعد توقف القتال و بدء الجلاء و بعد أن إنتشرت في الأوساط الصحفية بالقاهرة شائعة إستشهاده .
شارك فهمي حسين قبل و بعد ذلك في إنشاء و تحرير مجلة الغد و الرسالة و الرسالة الجديدة و مجلة التحرير كما نشر بعض قصصه الأولى بمجلة الكاتب و مجلة القصة....
في عام ١٩٥٨ تم تجنيده إجبارياً و أُلحِق بمجلة القوات المُسلحة و كان ضمن زُملاؤه بالوحدة المُجند كمال الجنزوري ( رئيس الوزراء فيما بعد ) و الكاتب محفوظ عبد الرحمن ، ظل و محفوظ عبد الرحمن صديقين تجمعهُما الصحافة و القصة ، في حين إلتقاه كمال الجنزوري بعد عدة عقود  بالأحضان - و كان قد أصبح وزيراً للتخطيط - و كتب له أرقام تليفوناته كُلها : لازم تكلمني يا فهمي “ ... لكن “ فهمي “ إمتنع و حين سُئل : و لم لا أجاب ببساطة : ده بقى وزير ..و شغال مع “ الناس دي “.... مش سكتي .
حين قامت الوحدة المصرية السورية كان كقومي عربي من أشد المُتحمسين لها، و سافر مراراً إلى سورية لتغطية التجربة و التواصُل مع الكُتاب و المُثقفين السوريين و العرب ، و هذا ملمح آخر من شخصيته حيثُ ظل فيما بعد و علي مدار حياته يتمتع بصداقات تحكُمها مُعتقداته السياسية و إنتماءاته “ الإنسانية “ و لا تحُدها جنسيته أو جذوره الطبقية ، فنجد صداقاته  تمتد - رأسياً - من فلاحي قريته إلى طبقات القاهرة المتنوعة وأُفُقياً من السودان و ليبيا و سورية و العراق و لبنان و الأردن و تونس و الجزائر و ... فلسطين التي ستُصبح - كما سوف نرى - أهم محور دارت حوله حياة و نضال فهمي حسين ، و عودة إلى صداقاته فتتبدى “ أُممية “ فهمي حسين و مبدئية إختياره لأصدقائه في أولئك الذين لم يخل منهم بيته على مدار السنين من الروس و الألمان الشرقيين و التشيك و البلغار .... إلخ و من أشهر هؤلاء مثلاً “ بريماكوف “ الذي صار فيما بعد رئيساً لوزراء “ روسيا “ بعد تفكيك الإتحاد السوفيتي !
=======
عندما إنشق اليوزباشي / زغلول عبد الرحمن الضبع على عبد الناصر - عام ٥٨ على ما أذكُر - و كان من الضُباط الأحرار البارزين و مُلحق مصر العسكري في بيروت ، و إبن خال فهمي حسين ، تم إستدعاء فهمي حسين من جديد في المُخابرات الحربية للتحقيق لساعات طوال ، لكن هذه المرة كان فهمي قد تزوج مُنذ عام واحد و كانت زوجته حاملاً في إبنه الأول ، و لما كانت زوجته الشابة هي الأُخرى من معدن شديد النُدرة - و هذه قصةٌ أُخرى - فقد أقامت الدُنيا و لم تُقعدها و “ إستدعت “ أحمد حمروش ( من أبرز الضُباط الأحرار و رئيس التحرير الذي يعمل معه فهمي حسين في ذلك الوقت و كان بمثابة الأب الروحي لفهمي حتى أنه أعار فهمي سيارته الخاصة في شهر العسل حين رفض شقيق فهمي الأكبر إعارته سيارته ) .... يا أُستاذ حمروش فهمي مُختفي من الصُبح و قد قاربنا مُنتصف الليل ؟ فأجرى حمروش إتصالاته ثُم عاد لها : فهمي في المُخابرات الحربية عند (.... ) مُدير الجهاز فطلبت منه الزوجة العنيد تحديد المكان لها لتذهب إليه ، و عبثاً حاول حمروش إفهامها إستحالة ذلك ، و كحل وسط إضطر حمروش لتزويدها برقم التليفون المُباشر لمُدير المُخابرات الحربية مع التشديد عليها بألا تذكُر إسم حمروش بأي شكل فساومته على ذلك بأن يُزودها برقم تليفون جمال عبد الناصر المُباشر ففعل مُضطراً حيثُ كان يعرف جيداً أنها لن تتراجع حيث كانت هي أيضاً تعمل معه و يعرف طبيعتها !!! .... إتصلت الزوجة برقم مُدير المُخابرات الحربية الذي أصابه الذهول و لم يكُف سؤالها عمن أعطاها هذا الرقم - الشديد السرية - فصاحت فيه : مش مُهم مين و لدي أيضاً رقم عبد الناصر الخاص و إن لم يعُد زوجي خلال ساعة على الأكثر سوف أتصل بعبد الناصر شخصياً ، قبل أن تُمر الساعة كان فهمي حسين يفتح باب شقته و هو غارق في نوبة من ...الضحك!
فُصل فهمي حسين من الجمهورية مرتين ضمن كوكبة من الكُتاب و الصحفيين اليساريين في فترة الصراعات الأيدلوجية و التنظيمية الشهيرة في الخمسينيات و أوائل الستينيات ، حيثُ إتُهم و رفاقه بأنهُم يعتبرون أنفُسهُم " على يسار عبد الناصر " ، و ذلك في تحريف مُغرض لتعريفهم لأنفُسهم بأنهُم " يسار عبد الناصر أو اليسار الناصري " ...
إنتقل من الجمهورية إلى روز اليوسف التي شكلت بالنسبة له المدرسة الصحفية التي تتفق مع إنتماءاته و التي ظل واحداً من أبناءها حتي نهاية حياته الصحفية و حين عين السادات الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي رئيساً لمجلس إدارة روزاليوسف رشح الشرقاوي فهمي حسين رئيساً للتحرير لكن فهمي أصر أن يرأس الشرقاوي - و هو من هو - التحرير بنفسه فعُين فهمي حسين مُديراً للتحرير و يوسف صبري - رفيق عُمره و نضاله - نائباً لرئيس التحرير تحت قيادة الشرقاوي ، و خاض هذا التشكيل بروز اليوسف دورها في حرب أكتوبر كإحدى أهم قلاع الجبهة الداخلية و زاد التوزيع بشكل “ طفري “ و إحتفظت “ روزا بمكانتها كأكبر مجلة سياسية في العالم العربي كما كانت دائماً ، وعندما قام فهمي حسين بإجراء التعديلات اللازمة في مُرتبات الصحفيين بالمجلة وفقاً لمناصبهم - و هو من إختصاصه كمُدير للتحرير - تحرج أن يرفع مُرتبه الشخصي !! فبقي مُرتبه حتى بلغ سن المعاش واحداً من أغرب المُرتبات في الصحافة المصرية من زاوية التفاوت بينه و بين مكانة و منصب صاحبه !!!
تولى فهمي حسين أيضاً رئاسة تحرير " كتاب روز اليوسف " فتم في عهده نشر العشرات من الكُتب و الدراسات الهامة لكبار الكُتاب و الباحثين في شتى المجالات ، كما حرص علي الكتابة بمجلة صباح الخير من حين إلى آخر فخصها بالعديد من قصصه القصيرة و التحقيقات البعيدة عما عُرف به من كتابات سياسية ، و من ذلك مثلاً حوار صحفي مع أحد فتوات باكوس بالأسكندرية بعنوان " هكذا تكلم أنور كوزمو " !!! كما كان فهمي حسين هو أول من كتب عن فنان الشعب المصري الشيخ إمام عيسى و رفيق دربه الشاعر أحمد فؤاد نجم في عام ٦٨ فأفرد لتسليط الضوء عليهما موضوعاً بعنوان " الحارة المصرية تُغني لجيفارا " و قد ظل كلا من الشيخ إمام و الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم يذكُر ذلك لفهمي حسين و أورده  كُلاً منهُما في مُذكراته  كما أنهُم ظلوا أصدقاء حتي النهاية .
رغم إنغماسه التام في العمل السياسي - و الفدائي أحياناً - إلا أن ذلك لم يُفقد  فهمــي حســـين حسه الفنـــي و الإبداعي فحرص لفترات طويلة على كتابة باب ثابت في روز اليوسف بعنوان " خواطر فنية " و كان دائماً يؤكد أنها مُجرد " خواطر لأنه ليس بالناقد الفني المُتخصص ... و ما أكثر المرات التي تلقى فيها مُكالمات تليفونية من فنان أو آخر يُعبر فيها عن إمتنانه لسطور أشاد فيها باب خواطر فنية بهذا العمل الفني أو ذاك و كان " الإمتنان يأتي غالباً مصحوباً بدهشة لا يُخفيها صاحبها لكون الإطراء على عمله جاء " دون سابق معرفة شخصية " ...
كما حرص فهمي حسين دائماً - رغم بحر السياسة الذي جرفه - على عضويته في نادي القصة و إتحاد الكُتاب و أتيليه القاهرة و حتى جمعية الكاريكاتير !
===
حين بدأ السادات يتخذ منحاه تجاه الولايات المُتحدة و الكيان الصهيوني و بدأ يفتعل الخلافات مع المُعسكر الإشتراكي و رفع فى إحدى خُطبه شعار “ وقفة مع الصديق “ مُعرضاً بالسوفيت كتب فهمي حسين إفتتاحية روز اليوسف بعنوان “ وقفة الصديق “ - و الفارق بين التعبيرين لا تُخطئه العين - مُذكراً بمواقف الإتحاد السوفيتي المؤيدة و الداعمة لمصر و العرب ... و لم يكُن مُمكناً لفهمي حسين - و يوسف صبري بالطبع - الإستمرار و المُضي فيما كان يمضي إليه السادات فغادرا منصبيهما و حل الكاتبان الكبيران فتحي غانم و صلاح حافظ معاً في منصب رئيس التحرير ليُكملا بروز اليوسف مسيرتها كقلعة لليسار و التقدُم في الصحافة المصرية .
إنضم فهمي حسين إلى الإتحاد الإشتراكي العربي فور تأسيسه عام ١٩٦٢ ( و هو العام الذي أنجب فيه إبنته التي أسماها أمل كما فعل الكثيرين من حالمي اليسار المصري في تلك الفترة المجيدة ) و خاض كُل معارك الإتحاد الإشتراكي ضمن كتيبة من أنقى رجال ذلك العهد منهُم كمال الدين رفعت و وجيه أباظـــــة و فكري الجزار و فتحي خليل و فاروق القاضي و يوسف صبري و د. جلال رجب و العديدين ممن رفعوا شعارات عبد الناصر و ناضلوا من أجل تحقيقها على الأرض و من أجل تنقية التجربة مما علق بها من شوائب ، و إصطدموا داخل التنظيم بالطبع بتيارات أُخرى متناقضة ، فمن جانب إصطدموا “ بمُتاهفتي الشيوعيين “ إن جاز التعبير ، و من جانب آخر إصطدموا بالأجهزة و مُنتفعي التجرُبة و على رأسهم مجموعة علي صبري - رحمه الله - وهو الصدام الذي عانى منه عبد الناصر نفسه حتى أنه إضطر - في تجربة فريدة من نوعها - إلى إنشاء تنظيم سري بإسم “ طليعة الإشتراكيين “ على أمل أن ينجو هذا التنظيم بحُكم سريته و طريقة إختيار أعضاءه من أمراض الإتحاد الإشتراكي و شوائبه ، فكان فهمــــــي حســـــين ( و زوجته ) من أوائل المُساهمين في تأسيسه و المُناضلين في صفوفه و إُختير فهمي حسين مسئولاً للتنظيم و أميناً للدعوة و الفكر في ثلاث من مُحافظات الوجه البحري منها بالطبع مُحافظة الشرقية مسقط رأسه ..  و رصدت “ الأجهزة “ نشاط التنظيم الطليعي و رفعت تقريراً لعبد الناصر بقائمة من الأسماء متهمة إياهُم بإنشاء “ تنظيم موازي “ للإتحاد الإشتراكي ، و كان إسم فهمي حسين ضمن القائمة ، حين قرأ عبد الناصر التقرير أطاح به على طول ذراعه ( وفقاً لشاهد عيان ) رافضاً مُحتواه مُنكراً لوجود التنظيم مُعلقاً : أنا عارف الناس دي كويس و ده كلام فارغ !
حين أعلن عبد الناصر تنحيه عن القيادة يوم ٩ يونيو ١٩٦٧قضى فهمي حسين ليلته ضمن المُعتصمين بقاعة مجلس الأُمة و لم يُغادروها حتي تراجع عبد الناصر عن قرار التنحي ، و قبل أن ينقضي شهر يونيو ٦٧ ( يوم ١١ يونيو تحديداً ) كان فهمي حسين قد عاد - كما فعل في ٥٦ - إلي الأوفارول و الكلاشينكوف و إلتحق مع رفيق القلم و السلاح يوسف صبر ي و د. محمد أنيس و محمد مهدي شومان و غيرهم بكتائب المُقاومة الشعبية بالإسماعيلية هذه المرة ليستقبلا مئات الشباب الذي خرجوا من قُراهم و مُدنهم في جميع أنحاء مصر مولين شطر خط القنال ليستقبلهم يوسف صبري و فهمي حسين فيُدرباهم و يُسلحاهم و يتوليان تثقيفهم سياسياً و تلقينهُم مهام المرحلة المُقبلة ،كما قاما مع د. محمد أنيس بإصدار “ مجلة القناة في طبعة بالرونيو ،ثُم جريدة المعركة التي رأس تحريرها د. محمد أنيس و التي أصبحت نشرة المُقاومة توزع على المُقاتلين و الأهالي و تُلصق على حوائط الإسماعيلية و ضواحيها و في تلك الفترة “ تم دمج “ أُسرتي فهمي حسين و يوسف صبري المُكونتان من الزوجتين و خمسة أطفال فأقامت الأُسرتان معاً تارة في بيت يوسف و تارة في بيت فهمي تحسُباً لأي “ ظروف “ ، في حين إلتحق الأطفال الخمسة بمُعسكر تدريبي تم عقده في كُلية التربية الرياضية للبنات بالجزيرة ... خمسة أطفال أكبرهُم في سن العاشرة يتلقون تدريبات قتالية و رياضية و تثقيف سياسي و كيفية صُنع المولوتوف !!! لا مجال للدهشة إذا أخذنا في الإعتبار أنهُم أبناء فهمي حسين و يوسف صبري و أنه زمن عبد الناصر ... و كان مشهداً عادياً للغاية حُفر في ذاكرة الأبناء مشهد الكلاشينكوف و هو مُعلق على شماعة غُرفة نوم الأب إلى جانب الأوفارول العسكري في أجازة الـ ١٢ ساعة التي يعود فيها الأب كُل إسبوعين أو ثلاثة فضلاً عن مخزون أعلام مصر الذي يملأ خزانة الملابس ... و قد أصدر فهمي حسين و يوسف صبري معاً كتاباً عن تلك التجربة فيما بعد في عام ١٩٧٢ أسمياه “ و كانت البداية من الصفر “ ضمناه بعض الصور و الوثائق و إعتذرا فيه عن ضياع وثائٍق أُخرى نظراً لإحتراق حقائبهُما الشخصية مرتين نتيجة الغارات الصهيونية : مرة في فُندُق الإسماعيلية بشارع الثلاثين و مرة ببيت الشباب ، و في مُقدمة الكتاب التي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي وصف فهمي حسين بقوله بالنص :
===================================================
... فهو بحق شُعلة مُتقدة من الإخلاص و التفاني و البذل في سبيل ما يؤمن به ..عرفته في “ المصري “ شاباً جديداً على الصحافة يُحاول نشر قصصه على إستحياء .. و كان على حداثة سنه يُمثل موهبة فذة ..و لقد صدقت توقُعاتي له .. فقد رسخ كاتباً للقصة . و أثبت في كُل الأعمال التي قام بها في المصري و الجمهورية و مجلة الإذاعة و في روز اليوسف، إنه صحفي مُناضل صادق في حياته كُل يوم .. و هو لهذا يُقرر أحياناً أن يتخلى عن الكلمة كأداة للتعبير عندما يجد الرُصاصة أكثر فاعلية .. و هكذا قام بدوره في الثورة الفلسطينية كواحد من أعز أبنائها ، و هكذا ناضل في معارك المُقاومة سنة ١٩٥٦ و سنة ١٩٦٧ مع رفيق عُمره و مبادئه يوسف صبري .
مُناضلان إشتراكيان خاضا معارك مريرة ضد كُل السلبيات في الإتحاد الإشتراكي و التنظيم الطليعي .. إنُهما نموذجان  في صدق الأداء و القُدرة على التجدُد و الإبداع  و الإضافة لأن ما يعمُر قلبهُما هو الإيمان العميق بالشعب و بالحق ، و حُب الخير .
==============================================
هذه كانت شهادة الكاتب الكبير فارس الكلمة عبد الرحمن الشرقاوي في حق فهمي حسين في مُقدمة الكتاب الذي أشرت إليه عن تجرُبة المُقاومة في ٦٧ و الذي نُشر في عام ١٩٧٢...
لم يعُد فهمي حسين من خط النار إلى القاهرة و روز اليوسف إلا بعد ثلاثة أشهُر ( تحديداً ٩٣ يوم )  وحين بدأ وصول وحدات الجيش المُعاد تشكيلها إلى خط القنال لتتسلم مهامها من كتائب المُقاومة الشعبية
أما ما ذكره الشرقاوي في كلامه عن فهمي حسين و الثورة الفلسطينية فهذه قصةٌ أُخرى بدأت بعد أن وقعت معركة الكرامة في أغوار الأُردُن بين ثلاثمائة من فدائيي حركة فتح بقيادة أبو عمار و أبو إياد و رفاقهما من مؤسسي حركة فتح و بين جحافل القوات الصهيونية التي عبرت نهر الأُردُن في مُحـاولة للقضــاء على “ ظاهرة “ المُقاومة التي وصفها عبد الناصر بأنها أنبل ظاهرة عرفتها الأُمة العربية ... نجح أبو عمـــــار و رفاقه الثلاثمائة في دحر العدو و دفن كرامته في تُراب قرية الكرامة بعد أن إستشهد مائة من خيرة شباب الأُمة العربية ...
ألهبت هذه المعركة المجيدة حماس العرب من المُحيط إلى الخليج ... فما بالنا بفهمي حسين الذي يجمع المُحيط و الخليج بين دفتي قلبه !  تنادي الآلاف من الشباب الفلسطينيين و العرب للإنخراط في صفوف فتح ، و تنادي العديد من الكُتاب و المُثقفين و الفنانين المصريين و عرب للإلتقاء بثوار فتح و التعرُف عليهم عن قُرب فسافر العشرات منهم إلى الأردُن للتفاعُل و الدعم و عادوا إلى بلادهم و أعمالهم بعد ذلك إلا فئة لم تكتف و ذابت في صفوف فتح مثل فاروق القاضي و محجوب عُمر ( د. رؤوف نظمي ) و آخرين و بالطبع رجُل القلم و البُندُقية ... فهمي حسين ...
إنخرط فهمي حسين في صفوف فتح و زحف مع المُقاتلين في أغوار الأُردُن و درب و تدرب و شارك في العمليات كما بدأ في المُشاركة في تأسيس إعلام فلسطيني بالأُردُن ، كما ساهم في تأسيس الإذاعة الفلسطينية بالقاهرة ، و في عام ١٩٧٠ إتصل به مُنير عامر - مُدير مكتب السيد محمد فائق وزير الإعلام في ذلك الوقت ليدعوه للقاء الوزير الذي طلب منه أن يتولى مجلة الإذاعة و التلفزيون التي كان قد إخفض توزيعها بشكل ملحوظ لكنه تمسك بإنتمائه لروز اليوسف ، و كحل وسط “ إنتدبه “ محمد فائق ليُصبح “ مُشرفاً “ على مجلة الإذاعة و التلفزيون على أن يرأس تحريرها الكاتب الكبير محمود سالم ، و إرتفع التوزيع من جديد .
في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ رحل جمال عبد الناصر ، و ظل فهمي حسين يعمل بمكتبه و بالمطبعة في مجلة الإذاعة أياماً مُتواصلة ، و تحت ضغط العمل و الحُزن على رحيل الزعيم ... تحت كُل هذا الضغط سقط فهمي حسين مُصاباً بذبحة صدرية في سن السادسة و الثلاثين !!! و بالمُناسبة فإن هذا الرجُل أو “ الصبي “ كما كانت تُلقبه أُمه طوال عُمره و حتى رحيلها لم يشهد في حياته سوى ثلاث أزمات صحية : عملية الزائدة الدودية في مُنتصف الستينيات و الذبحة الصدرية إثر رحيل عبد الناصر ... ثُم عملية قلب مفتوح دون أدني مُقدمات عام ١٩٩٨ ، و أذكُر أنه في فترة نقاهته من عملية القلب كان يذكُر بإمتنان شديد أن الله سُبحانه و تعالى قد تلطف به أيما تلطُف فيقول : لم أُصب في حياتي حتى بالزُكام أو بأي مرض ( و قد أسقط من ذاكرته عملية الزائدة و ذبحة ١٩٧٠ ) فإذا وزعنا عملية القلب هذه على أربع و ستين عاماً ( هي سنه في ذلك الوقت ) فهذا كرمٌ بالغ من الله...
ظل فهمي حسين رجُل المرحلة الناصرية في صفوف الثورة الفلسطينية و رجُل فتح في صفوف الصحافة المصرية ، فعُرف بأنه الكاتب السياسي المُتخصص في الشئون الفلسطينية و كان صاحب العدد الأكبر للأحاديث الصحفية مع ياسر عرفات بين صحافيي العالم قاطبةً ، و حين وقعت مذبحة أيلول عام ١٩٧٠ و التي كان آخر شُهدائها جمال عبد الناصر نفسه وُلدت “ مُنظمة يد أيلول الأسود “ التي قامت فيما بعد بتصفية وصفي التل رئيس وزراء الأُردن و وزير الدفاع و مُهندس المذبحة فقام شباب المُنظمة بتصفيته في مدخل أحد فنادق القاهرة لدى تواجده لحضور أحد إجتماعات الجامعة العربية ، إنفجرت عناوين الصٌحف في العالم بالتنديد و بإتهام الثورة الفلسطينية بالإتجاه للإرهاب ... فما كان من فهمي حسين إلا أن إتجه إلى أغوار الأُردُن ، و “ بوسائله “ وصل إلى رجال مُنظمة يد أيلول و أجرى حديثاً صحفياً نشرته روز اليوسف على أربع صفحات أوضح فيه أسباب تصفية وصفي التل و أهداف المُنظمة كما صحح التسمية التي إنتشرت في الصحافة حيثُ كانوا يتحدثون عن “ يد أيلول السوداء “ فذكر في اللقاء على لسان أحد قيادات المُنظمة أن صحة الإسم “ يد أيلول الأسود “ و كتب أن أيلول هو الأسود أما اليد فإنها يدٌ - لو تعلمون - خضراء .....
رافق فهمي حسين الزعيم ياسر عرفات في رحلته التاريخية إلي الأُمم المُتحدة عام ١٩٧٤ و أثناء إلقاء مندوب الكيان الصهيوني بالجمعية العامة ( يوسف تيكواه ) كلمته التي إحتج فيها بشدة بالطبع على فتح أبواب الأُمم المُتحدة لأبي عمار و رفاقه و عندما وصل إلى قوله : " هذه ساعات خزي و عار ، هذه ساعات حُزنٌ و أسى" إرتفع صوت قهقهة فهمي حسين من شُرفة الصحافة حتي إلتفت إلى مصدر ضحكته الشامته كُل من في القاعة بما فيهم المندوب الصهيوني !!!
و حين إستقبلته في مطار القاهرة  لدي عودته من هذه الرحلة التاريخية حكى لي و لسائق سيارة الأُجرة بسعادة طفولية عن التهديدات الصهيونية التي وصلت إلى التصريح بأن " عرفات و رجاله لن يخرُجوا أحياء من نيويورك " ! لكنهُم بالطبع خرجوا أحياء...... ( و أراهُم أحياء حتى اليوم و إن غابت أجسادهم )
====
حين يمم السادات وجهه شطر الكيان الصهيوني و ثني عطفه للأُمة العربية و الثورة الفلسطينية لحق فهمي حسين “ بعشيرته “ الفلسطينية في بيروت فإتخذه أبو عمار مُستشاراً صحفياً له و عُين رئيساً لتحرير وكالة الأنباء الفلسطينية ( وفا ) و ظل يكتب لروز اليوسف بصفته مُديراً لمكتبها ببيروت بعد أن تحايل الصحفي مُرسي الشافعي رئيس مجلس إدارة روز اليوسف في ذلك الوقت على رغبة السادات في فصل فهمي حسين ، و ظل فهمي حسين يذكُر ذلك لمُرسي الشافعي و الذي كان يُشير إليه دائماً بوصفه أحد أساتذته في الصحافة رغم الإختلاف السياسي العميق بين كلاهُما ، في حين كان مُرسي الشافعي يقول له : " ده أنا لحم كتافي من خيركُم " في إشارة إلى فترة عمله لدى آل أبو الفتح في جريدة المصري ".
ظل فهمي حسين لفترة يكتُب مقالاً ثابتاً في مجلة فلسطين الثورة في بيروت يتناول فيه الشأن المصري و يُدين مُمارسات السادات و يذكر في أحد مقالاته تاريخ الشهيد مُحي الدين أبو العز الذي أُقيمت سفارة للصهاينة في شارع يحمل إسمه بالجيزة !!!
مازلت أذكُر يوم وطأت أقدام السادات أرض مطار القُدس ( المُسمى بن جوريون ) حين تجمعنا في بيت فهمي حسين ببيروت عدد من المصريين و الفلسطينيين و الأشقاء العرب نُشاهد في أسى هذا الحدث المُشين ... تفرقنا كُلٌ إلى بيته - و بقيت أنا بالطبع - و ظل فهمي حسين أياماً لا أذكُرُ عددها لا يُغادر المنزل و لا يتحدث إلي أحد و لا حتى يحلق ذقنه حتي تكالب عليه رفاقه و حضروا في شبه وفد ليخرجوه من صمته و من بيته ، أذكُر منهم زياد عبد الفتاح و فاروق القاضي و عبد الرحمن الخميسي و مُعين بسيسو وغانم زُريقات وحيدر حيدر والناشر سليمان صُبح ...
غادر مُرسي الشافعي روز اليوسف و حل محله صديق قديم للسادات إسمه عبد العزيز خميس قام بفصل فهمي حسين و محمود السعدني و فنان الكاريكاتير صلاح الليثي من روز اليوسف و كانوا جميعهم خارج مصر مُعارضين للردة الساداتية ، ظل فهمي حسين يؤدي دوره في الثورة الفلسطينية و في المُعارضة المصرية فساهم في تأسيس تجمُع المصريين في الخارج ( كإمتداد لحزب التجمُع في مصر ) و إنتُخب مُقرراً له ،و كانت شقة فهمي حسين بحي الحمرا ببيروت ( و المُكونة من غُرفة واحدة و صالة ) بيتاً للمصريين ببيروت فلا حصر لعدد الكُتاب و المُناضلين المصريين الذين كانت شقة فهمي حسين مقر إقامتهم الأول لفترات طويلة بمُجرد وصولهم إلى بيروت و إلى حين " تدبير أمورهم "
عمل أيضاً لفترة مُديراً لتحرير مجلة اللوتس الناطقة بإسم إتحاد كُتاب آسيا و إفريقيا وقت كان يرأس تحريرها الشاعر الفلسطيني الكبير مُعين بسيسو
حضر فهمي حسين الحرب الأهلية اللبنانية كُلها و أُصيب بطلقة في ساقه تعافى منها بفضل الله ، و قبل فصله من روز اليوسف كان يُغطي أحداث الحرب و يكشف حقائقها و خفاياها على صفحات روزا ، و كثيراً ما كانت الرقابة في لبنان تنزع الصفحات التي يكتُبها من أعداد المجلة قبل أن تسمح بدخولها إلى لبنان ، و في إحدى المرات نزعت الرقابة مقالاً له بعنوان “ اللعبة القذرة في لبنان “ فأذاعته كاملاً بصوت المُذيع إذاعة صوت لبنان العربي الناطقة بإسم حركة الناصريون الأحرار ( المُرابطون ) .. كان من عواقب ذلك أن تم تدبير مُحاولة لإغتياله في مطار بيروت من قِبل رجال شُرطة المطار و هو يتأهب للسفر إلى القاهرة لولا أن أدرك رواد المطار الموقف و صنعوا حائطاً بشرياً حال بينه و بين رجُل الأمن الذي كان قد أشهر مُسدسه بالفعل و عاد فهمي حسين إلى القاهرة سالما و نُشر خبر المُحاولة في روز اليوسف و كتب في ذلك الشاعر كمال عمار مُداعباً :
==============================================
أنا فهمي حسين
و عليا العين
لو ضربوني
أو قتلوني
هارجع تاني
و أكتب تاني
عن بيروت
عن لبناني
==============================================

و بالفعل لم يجبُن فهمي حسين و عاد إلى بيروت بعد إنتهائه مما عاد إلى القاهرة من أجله وكأن شيئاً لم يكُن
و أدى نشر الخبر بروز اليوسف إلى إحراج السُلطات اللُبنانية فإضطُر وزير الإعلام اللبناني و نقيب الصحافيين إلى إستقباله بالمطار .
إنتقل فهمي حسين إلى لندن مُمثلاً لوكالة الأنباء الفلسطينية ، و هُناك إلتقى بخالد عبد الناصر و نور الســـيد ( محمود نور الدين الذي شكل بعد ذلك بسنوات تنظيم ثورة مصر الذي كان يُصفي رجال المُخابرات الصهيونية بالقاهرة ) و شارك مع نور السيد و محمود السعدني في تأسيس مجلة ٢٣ يوليو التي رأس تحريرها محمود السعدني و شارك فيها عدد من خيرة كُتاب روز اليوسف من الطيور المُهاجرة كما لُقبوا في ذلك الوقت أذكر منهم مثلاً عاصم حنفي و عملاق الكاريكاتير السياسي صلاح الليثي و غيرهم و نشرت المجلة العديد من المقالات و التحقيقات و الوثائق التي تفضح نظام السادات و جُن جنون السادات ، و صدر في مصر ما يُسمى بقانون العيب و شكل ما ُسمي بمحكمة القيم ، و كانت أول قضية سياسية تُنظر أمام هذه المحكمة القضية الشهيرة التي إتُهم فيها الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المُسلحة في حرب أكتوبر بأنه “ و ١٨ آخرين “ شكلوا تنظيماً يهدف إلى قلب نظام الحُكم و يقوم بالتدريب على السلاح و ما إلى ذلك .... كان فهمي حسين المُتهم السادس في هذه القضية المُلفقة و كان بين المُتهمين فيها أسماء من أنبل رجالات مصر فكانت أشبه بقائمة للشرف علي رأسها سعد الدين الشاذلي بطل أكتوبر و مهندس العبور و تضُم عبد المجيد فريد و لطيفة الزيات و محمود أمين العالم و محمود السعدني .....
داهمت مباحث أمن الدولة منزل فهمي حسين بالقاهرة مرتين ( رغم غيابه بالخارج ) و صادرت جوازات سفر زوجته و أبناءه و تحفظ المُدعي العام “ الإشتراكي “ على أمواله ، و التي كانت تنحصر في أرضه الزراعية الموروثة في قريته ( أو ما تبقى منها بعد أن باع جانباً منها ليُنفق على إقامته بالخارج ) و سيارة صغيرة بإسم إبنه ، حيثُ عُين أكبر أشقائه حارساً على أرضه ، و تم إحتجاز سيارةإبنه في الإدارة العامة للمرور !!! لم يفت أي من ذلك في عضد فهمي حسين - و لا أُسرته الصغيرة فيما أزعُم - و ظل يؤدي دوره الذي آمن به في صفوف الثورة الفلسطينية و المُعارضة المصرية ...
عاد فهمي حسين إلى القاهرة في زيارة قصيرة في نهايات سبتمبر ١٩٨٢ و كان السادات قد " أُعدم " قبل ذلك بعام ، كما أن “ محكمة القيم كانت قد أصدرت حُكماً ببراءة فهمي حسين من الإتهامات الموجهة إليه ، لكن كُل ذلك لم يمنع بأن تقوم مباحث أمن الدولة بإعتقاله من منزله في فجر يوم ٦ أكتوبر ١٩٨٢ قام فهمي حسين من فراشه بهدوء بعد أن قُمت بإيقاظه موضحاً وجود الشُرطة في غُـــرفة المكتب ، إرتدي ملابســه و طلب منهم أن يجري إتصالاً بنقيب الصحفيين ، و كان في ذلك الوقت رجل إسمه إبراهيم نافع - على ما أذكر - طلب منه نافع أن ينزل معهم على أساس أنه “ سيتصرف “ ... لكنه لم يتصرف ، و إنما الذي تصرف هو حزب التجمُع و جريدة الأهالي و أبو عمار ... و الكاتبة و الأديبة المُناضلة فتحية العسال التي أقامت الدُنيا و لم تُقعدها كتفاً بكتف إلى جانب زوجة فهمي حسين بالطبع ...
إحتُجز فهمي حسين في زنزانة إنفرادية بالطابق الأخير من سجن الإستئناف في العنبر الخاص بالمحكومين بالإعدام !!! كانت تتوسط السقف لمبة كبيرة مُضاءة طوال الليل وعلى النزيل أن ينام في هذه الإضاءة القوية
أحضرت زوجته مرتبة إسفنجية جديدة قابلة للطي و مُبيد حشري و ذهبت إلى السجن تصحبها فتحية العسال و أصرتا على لقائه و تزويده بالبطانية و المُبيد و تم لهُما ما أرادتا !!!
بعد سلسلة من التحقيقات في نيابة أمن الدولة عاد فهمي حسين إلى بيته مُبتسما و كأنه كان في رحلة نيلية !!! حين سألته كيف كانت تمُر الليالي أجاب ببساطة لقد جُبت العالم و إعتبرت هذه فترة إستجمام و كُل ليلة كُنت أستعيد تفاصيل رحلة من الرحلات فكأني سافرت ثانية ، و لعل الليلة الوحيدة المؤلمة تلك التي إستعدت فيها ذكرى رحلة روما التي إغتيل فيها ماجد أبو شرار أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح و مسئول الإعلام الفلسطيني الموحد ...
رحل فهمي حسين مع قوات الثورة الفلسطينية و قيادتها إلى تونس ، و واصل دوره في وكالة وفا ، و مثل الإعلام الفلسطيني في كُل المحافل الدولية عضواً في وفدها مرات و رئيساً للوفد مرات و حين لاحت “ أوســلو “ في الأُفق فارق بمُنتهى الود و التفهُم عائداً إلى القاهرة و عـــاد إلى روز اليوســف كاتباً فيهـــــا ، و خاض مع زميل قديم ( الصحفي علي مُنير ) تجربة إنشاء جريدة تحمل إسم “ الرسالة الجديدة “ تيمُناً بالإسم القديم الذي يُمثل رُكناً عزيزاً في نفوس جيل من الصحفيين في مصر ، و تقاسما رئاسة التحرير ، وبعد عدة شهور من بدء إصدار الجريدة ( الإسبوعية ) و تحقيقها قدرا كبيراً من النجاح أفصح علي مُنير عن رغبته في الإنفراد برئاسة التحرير مُلمحاً بأن " الأجهزة " تعترض على وضع إسم فهمي حسين في ترويسة الجريدة ، فإنسحب فهمي حسين مُبتسماً و لم يتحدث في الأمر ثانية بل و لم يقطع الود مع علي مُنير .... هذا هو بالضبط فهمي حسين الذي صادف يوماً على رأس طريق قريته أرملة أخاه الأكبر و إبنته تنتظران سيارة تقلهما فتوقف بسيارته و سأل : رايحه فين يا أبله فُلانه ....؟ فأجابته بغلظة : رايحين منيا القمح نعمل لك محضر ( و كانت تُنازعه على قطعة من أرضه الموروثة  ) فأجاب بهدوء : طيب إتفضلوا أوصلكُم و أوصلهُما بالفعل إلى باب “ المركز “ دون أن ينبس ببنت شفه !!!!
ظل فهمي حسين يكتُب في روز اليوسف حتى بدأت سخافات رئيس مجلس إدارة لا أتذكر إسمُه و صحفي إسمه عادل حمودة كان قد أصبح مُديراً للتحرير ، فتمثلت هذه السخافات في تأجيل نشر بابه الثابت أحياناً ثُم مُفاجأته بنشر المواد المؤجلة بعد مرور إسبوعين مثلاً فيبدو و كأن الكاتب غير مواكب للأحداث ... و هكذا... فتوقف فهمي حسين ترفُعاً و عاد إلى قريته يُمضي بها مُعظم وقته و يزرع أرضه بيديه ، و في عام ١٩٩٨ حين واجه عملية القلب المفتوح أصرت السيدة العظيمة سُعاد رضا - مُدير عام المؤسسة - التي غادرتنا مُنذُ أسابيع - أن تتكفل روز اليوسف بكافة مصاريف العملية رغم خروجه إلى المعاش مُنذ أربع سنوات كاملة .
أبدع فهمي حسين في حياته الحافلة ثلاث مجموعات قصصية : علاقة بسيطة / أصل السبب / حكايات بسيطة ليست غريبة ( ما غريب إلا الشيطان ) و ظهر ضمن جيل من ألمع كُتاب القصة و أكثرهُم موهبة مثل يوسف إدريس و عبد الله الطوخي و محمد سالم ومحمد صدقي وبر نشأت ... و كانوا جميعاً أصدقاء لا يفترقون و يتحلقون كُل يوم حول من يكتُب منهُم قصة جديدة ليقرأها عليهم و يتبادلون الآراء بشأنها فرحين " بالمولود القصصي الجديد
وحين نُشرت مجموعته الأولى “ علاقة بسيطة “ في مطلع الستينيات إلى جوار المجموعة الأولى للقصاص الشاب أيضاً - في ذلك الوقت - محمد سالم قامت زوبعة في الأوساط النقدية و الثقافية إعتراضاً على أن تتبنى وزارة الثقافة نشر قصص مكتوبة بالعامية المصرية ، و دار جدل واسع حول قضية الفُصحى و العامية إلى أن حسمه تصريح لعميد الأدب العربي طه حسين حين قُرأت عليه بعض هذه القصص فقال : إنه نوعٌ من العامية الفصيحة ..... فحُسم بذلك بالطبع كُل جدل ... و تم تجسيد إحدي قصص مجموعة " علاقة بسيطة" في سهرة تلفزيونية تحمل نفس عنوان القصة " أعصاب محمود أفندي " حيثُ جسد العملاق شفيق نور الدين شخصية محمود أفندي و لاقت نجاحاً كبيراً و عُقدت حولها الندوات التلفزيونية .
صنف كبار النُقاد فهمي حسين كواحد من أهم كُتاب القصة القصيرة في العالم العربي برغــم قلــة إنتاجه ، و لعل أدق ما قيل في هذا الشأن ما كتبه الناقد الراحل د. غالي شُكري في دراسته المنشورة عن قصص فهمي حسين حين كتب أن فهمي حسين أخطأ حين أعطى نفسه للصحافة بأكثر مما أعطاها للقصة ، ثُم أعطى نفسه للسياسة بأكثر مما أعطاها للصحافة لكنها- على حد تعبير الكاتب و الخبير الإقتصادي والمُثقف الكبير أ. مجدي صُبحي مُعلقاً على كلام غالي شُكري : إختياراتنا في الحياة التي تبدو منظوراً إليها من وجهة نظر الآخرين و كأنها خاطئة تماماً على الرغم من أننا قد نكون إتخذنا هذه الإختيارات و نحن نرى أنها أفضل إختيار مُمكن في ظل اللحظة التاريخية التي إتخذناها فيها .
ملمح أخير للشخصية :
في أحد الأيام كان فهمي حسين يجلس في صالون شقتي ( التي إشتراها لي مُقسطة في تعاونية المُناضل أحمد طه العبقرية  ) في إحدى ضواحي القاهرة الهادئة فإذا بصوتٍ أجش لبائع مُتجول يصلُ إلينا - في الطابق السابع ! - بشكل مُزعج للغاية فقُمت غاضباً و كُنت - بعد - في فورة الشباب و هممتُ بفتح الشباك لأنهر البائع و أصرفه ، فمنعني فهمي حسين بهدوء قائلاً : " سيبه ، شويه و هايمشي ... مش يمكن ربنا جعل في صوته القبيح هذا ... سبباً لرزقه" .
هذا هو تحديداً ... فهمي حسين .
في يوم الأربعاء ٢٨ يوليو من عام ٢٠٠٤ - و كان يوماً شديد الحرارة من تلك السنة الكبيسة - و قبل آذان العصر وصلت إلى قرية بني حسين على بُعد ٦٠ كيلو متر من القاهرة ( قطعها يوماً فهمي حسين في مطلع شبابه على دراجة إستأجرها من شارع المنيل ليؤكد لنفسه أنه لم يبتعد كثيراً عن مسـقط رأســـه ) وصلــت ودخلت إلى إحدى حُجرات البيت لأجد جسد فهمي حسين مُسجى على ذات الفراش الذي وُلِد عليه قبل سبعين عاماً إلا شهر وثلاثة أيام بعد أن فارقت روحه ذلك الجسد المُسجى أمامي في ذلك اليوم الحار........
إستراح أخيراً على فراش ولادته و كأنه لم يُغادره يوماً ... بل - للحق -  غادره ليجوب العالم و يخوض المعارك و ينشُر الأمل في الحُرية و الحق و الخير و الجمال فلما أنهى ما يخُصه من هذه المهام عاد ليزرع بيديه أرض أجداده إلى أن حان الموعد المرصود فلبي نداء ربه راضياً آمناً مُطمئناً .... عفواً لكن اليوم ليس يوم رثاء بل هذا يوم ميلاده فكُل عام و أنتُم بخير و طبت حياً و ميتاً  يا “ عم فاروق “ كما عرفه أبناء قريته و يا محمد كما كانت تُناديه شقيقاته الكُبريات و يا فهمي حسين كما عرفته الصحافة و يا أبو طارق كما لقبه ثوار فلسطين ... أو الصبي كما كانت تُناديه أُمه ... طبت حياً و ميتاً يا أبي .... و عيد ميلاد  سعيد                                                   .
                                                                                              طارق فهمي حسين
٣١ أغُسطُس ٢٠١٢

هناك 4 تعليقات:

  1. سلمت يداك .. وسيرة كهذه جديرة بكتاب يتسع لها ويعرف الاجيال الجديدة بالكاتب والمقاتل والوطني الكبير الاستلذ فهمي حسين الذي يبقى اسمه في قلب الوطن

    ردحذف
  2. سلمت يداك .. وسيرة كهذه جديرة بكتاب يتسع لها ويعرف الاجيال الجديدة بالكاتب والمقاتل والوطني الكبير الاستلذ فهمي حسين الذي يبقى اسمه في قلب الوطن

    ردحذف
  3. سلمت يداك .. وسيرة كهذه جديرة بكتاب يتسع لها ويعرف الاجيال الجديدة بالكاتب والمقاتل والوطني الكبير الاستلذ فهمي حسين الذي يبقى اسمه في قلب الوطن

    ردحذف
    الردود
    1. هذه شهادة كبيرة أعتز بها من كاتب كبير ، وصديق وأخ أكبر ، أما مسألة " الكتاب " فأتمنى أن يمنحني الله العُمر والقُدرة على إصداره .

      حذف