الأحد، 22 يوليو 2018

كُل هذا المانجو ! All THAT MANGO



كُل هذا المانجو !
All THAT MANGO

لاأعتقد أن هُناك من يختلف حول طعم المانجو ،رُبما يختلف البعض حول أفضلية مذاق هذا النوع عن ذاك لكنه في نهاية الأمر فإنه " كُلنا نُحب المانجو" ، هذه الفاكهة التي اشتهرت وتميزت بها مصر وسط أشقاءها العرب ، فنجد أنه حتى في لُبنان ،تلك القطعة من السماء بحق ، وحيثُ تنمو – مزروعة أو من تلقاء نفسها – أجمل وأندر أنواع الفواكه والمكسرات أيضاً- حتى هُناك لايزرعون المانجو ولايعرفونها إلا كما يُنادي الباعة الجائلون في شوارع بيروت : " مانجه مصري ... مانجه مصري" ذلك النداء الذي كُنتُ أطرب له و آنس له في سنوات إقامتي ببيروت .
رغم كُل ذلك فإننا نجدُ شاعراً ، بل والد الشُعراء وأشعرهُم "فؤاد حداد " يؤكد أنه:
القمح المستوردين 
أصله دين الفدادين
والمنجه اللي مصدرين 
شجرتها مهجنه .
وواقع الأمر أن شاعرنا الكبير صادق تمام الصدق فيما قال ، كعادته في كُل ماقال وكتب ، ذلك أن أرض مصر وشعبها لم يعرفا المانجو إلا – كما تقول الروايات – حين أتى بأول شتلاتها الزعيم المُجاهد أحمد عُرابي عند عودته من المنفى ، ليغرسها في طين أرض مصر الخصبة التي لاترفض غرساً طيباً أبداً .
ولهذه الواقعة المروية مغزىً بعيد إذ تكشف جانباً آخر من حُب الزعيم عُرابي لوطنه مصر ولشعبها ، إذ راعه ألا يتذوق المصريون طعماً جميلاً وشهياً لفاكهة تعرف عليها في منفاه فعاد بشتلاتها إلى الوطن ليُهديها لأهله المصريين ،ولأنه " ولي " من أولياء الوطن الصالحين ، فقد بارك الله في عمله هذا فصارت المانجو إحدى الأشياء التي تتفرد بها مصر بين شقيقاتها .
ولأن عُرابي كان " شرقاوياً " فإن أول الغرس كان بأرض مُحافظة الشرقية ، وظلت الشرقية مُنذ ذلك اليوم، وحتى الآن الأشهر في إنتاج المانجو ، وقبل أن يعترض البعض مُشيراً إلى  " الإسماعيلية"  أقول مُذّكراً أن الإسماعيلية كانت في الأصل ضمن زمام مُحافظة الشرقية قبل أن يُعاد تقسيم المُحافظات ويتم اعتبار الإسماعيلية مُحافظة قائمة بذاتها.
ولأني أنتمي إلى عائلة شرقاوية ذات جذور ضاربة عميقاً في أرض الشرقية ، مُنذ هاجر الآباء المؤسسون لهذه العائلة من أرض الجزيرة العربية ( تحديداً هُم آباء هاشميون قُرشيون من نسل الإمام الحُسين بن علي بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهُما ) ، فإن هذه العائلة تحديداً إشتهرت بأمر عجيب بين أهل الشرقية والمُحافظات المُتاخمة لها مثل القليوبية ، تلك الشُهرة ( إلى جانب أمور أُخرى أشدُ خطراً ) أن " الحساينة " – إشارة إلى عائلة حسين – يزرعون المانجة ولايبيعونها "!!!
نعم ، هذه حقيقة تاريخية ومتوارثة ، فعائلة " حسين " كما توارثت زراعة المانجو ، توارثت أيضاً حُب غير عادي للمانجو ، وإفراط لايباريه أحد في أكل المانجو ، يستوي في ذلك الطفل والشيخ من بين أفراد العائلة ، وكذلك أكثرهم رشاقة وأفرطهم سمنة !
في المساحة المواجهة " للسلاملك " داخل " البيت الكبير" – بيتنا الموروث – توجد سبع شجرات مانجو من سبع أنواع مُختلفة  زرعها الجد الأكبر وقت بناءه للبيت ،  روى لي أبي أن جدي كانت جلسته المُفضلة تحت واحدة بعينها من تلك الشجرات السبع ، وحين توفي في مُنتصف العقد الخامس من العُمر توقفت هذه الشجرة عن الإثمار تماماً وحتى يومنا هذا الشجرات الست الأُخرى يطرحن مالذ وطاب من ثمار المانجو ، وهذه الشجرة السابعة تقف منزوية مورقة زاهية بأوراقها كقريناتها الست لكنها أبداً لا تُخرج من بين الأوراق زهرة مانجو واحدة وبالتالي لاتُثمر ثمرة مانجو واحدة .
حين كُنا أطفالاً ثُم صبية كُنا أنا وشقيقتي وأبناء عمومتي ننقسم تلقائياً إلى فرق ينجذب أعضاء كُل فريق إلى بعضهم البعض إنجذاباً مغناطيسياً دون اختيار واعي ، ونتبارى في إسقاط حبات المانجو من فوق أشجار السلاملك وهي بعد نيئة وصلبة كالحجر بل وبيضاء تماماً من الداخل وبعد اكتشاف إستحالة تناولها وهي على هذه الحالة ،إذ لا تمُت – بعد – للمانجو كما نعرفها بصِلة ، يلجأ كُل فريق للخطة البديلة وهي " الترقيد " والذي يتمثل في دفن المانجو في التُراب لعدة أيام حتى " تستوي " بعد أن حرمتها حماقة الطفولة من أن " تستوي على عودها " ، ويسعى كُل فريق في طريقه حيثُ يتم إختيار مخابيء الترقيد بحيث لايعرفها أحد الفرق الأُخرى فيُغير عليها ويستولي على كنز المانجو الخاص بفريق آخر ، لكن الأمر لم يكُن يخلو من تتبُع جاسوس يبعث به قائد إحدى الفرق ليكتشف مخابيء فريق آخر لسرقتها ، أو إنشقاق أحد الصغار على فريقه وتحالفه مع فريق آخر لكونه يضُم بعض إخوته مع وعد بإشراكه في الغنيمة بحصة لابأس بها !
أما الجيل السابق لنا من أبناء عمومتنا والذين كان من بينهم سامي نجم شباب العائلة دون مُنازع ،والذي كان لشدة براعته –ودون مُبالغة – يقذف بالمطواة باتجاه أحد أفرع الشجرة مُستهدفاً حبة مانجو بعينها فيُصيب العُنق أو " العنئ " كما ننطقها في قريتنا  ، المُتدلية منه حبة المانجو فيُسقطها سليمة دون خدش  ، أبناء ذلك الجيل السابق لنا كانوا يروون لنا أنهم لم يكونوا يكتفون بأشجار السلاملك المملوكة لآبائنا ، وإنما كانوا يُفضلون تسلُق السور الذي يفصل بين البيت الكبير وبيت عم آباءنا المُتاخم لنا ليسرقوا المانجو من أشجاره فقط لمُتعة كسر الممنوع وجو المُغامرة ، وكثيراً ماكان غفير بيت ذلك العم يُمسك بأحدهم بالجرم المشهود وجيوبه مُعبأة بالمانجو المسروقة ، فينهره فيصيحُ فيه الصبي الصغير بكُل جبروت : " إييييه ، جنينة عمي " فُيسقط في يد الغفير ويلتزم الصمت ، حتى أنه في إحدى المرات أمسك ذلك العم نفسه بأحدهم فصاح الولد فيه كالمُعتاد : " إيييه .. جنينة عمي " فصرخ فيه العم : " عمى الدبب " ففر الصبي من أمامه وحبات المانجو تتساقط من جيوبه ، وانفجر "العم" بالضحك !
أما أبي فقد زرع عدداً كبيراً من أشجار المانجو المتنوعة في جانب خاص من بُستان العنب الذي يملكه ضمن ماورث من أرض ،ذلك البُستان الذي تتوسطه تكعيبة ومشاية عنب بلدي وعنب أحمر زرعها جدي مُنذ أكثر من ثمانين عاماً ومازالت  تجود بأعذب العناقيد حتى يومنا هذا ، وكان هذا البُستان حين ورثه أبي مُحاطاً من أحد جوانبه "بعزبة " من البيوت الفلاحية الخالية من السُكان ، والتي بناها جده في زمن ماقبل ثورة يوليو حين كان الفلاحون يسكنون في بيوت تعود ملكيتها لصاحب الأرض التي يعملون بها ، و مع مرور السنوات والعقود خلت تلك البيوت تباعاً من سُكانها بالوفاة أو النزوح إلى المدينة أو خلافه ، وبقي بيت واحد في أرض أبي تسكنه سيدة عجوز وحيدة بعد أن تزوج أبناءها وانتقلوا للعيش هُنا أو هناك ... إنها " دار فهيمة " كما يعرفها أهل القرية جميعاً ، وحين قام أبي بعمل ما لاأظن أن أحداً عمله من قبل رُبما في التاريخ كُله ، ألا وهو هدم تلك البيوت الخاوية و تحويلها إلى أرض مزروعة ، وهو الأمر الذي لاصعوبة فيه إذ كانت تلك البيوت من الطوب اللبن فلا أعمده ولا أساسات خرسانية تحول دون إعادة  زراعة الأرض ، حين شرع في ذلك الأمر دارت الخالة فهيمة على أهل القرية تشكو لهُم أن " فاروق أفندي " هايهد عليا البيت و انا ماليش مكان غيره يأويني" ( وفاروق أفندي هو الإسم الذي يدعو به أهل قريتنا أبي إذ أن إسمه في شهادة الميلاد محمد الفاروق فهمي حسين ) ، وحين تناهت مخاوف " الخالة فهيمة " إلى أسماع أبي إبتسم واغرورقت عيناه بالدموع – كعادته حين يتعلق الأمر ببُسطاء الناس – وحين دخل إلى "جنينة العنب " عرج على "دار فهيمة " طارقاً بابها ففتحت له متوجسة فقال لها : " بقى ياخالة فهيمة ييجي ف بالك إن أنا مُمكن أخرجك من دارك أبداً ؟ ده برضه اللي تعرفيه عني ؟! " فاغرورقت عينا المرأة العجوز بالدموع واحتضنته امتناناً ، إستأنف أبي حديثه موضحاً لها أنه يهدم فقط الدور الخاوية ليزرع محلها عنباً ومانجو ، وأنه سيُبقي أيضاً على الدار المجاورة لدارها " حتى لا يترك ظهرها مكشوفاً " .
وبالفعل حول أبي تلك العزبة المهجورة إلا من " الخالة فهيمة " إلى بُستان للعنب البناتي المُتسلق على خطوط من الأسلاك ، تتوسطه التكعيبة والمشاية التي زرعها الجد ، لكن يبقى رُكن كبير على يسار الداخل من بوابة الكرمة يخلو من الأعناب إذ خصصه أبي لأشجار المانجو التي تتخللها بعض أشجار الخوخ والبرقوق والمشمش الأبيض الذي أتى أبي بشتلاته من لبنان ( على خُطى بلدياته الزعيم أحمد عُرابي ) .
بذل أبي الكثير من الجهد والوقت ،والمال أيضاً ليصنع من قطعة الأرض الصغيرة هذه جنته الصغيرة ، وكان أحد أقاربنا يُسميها " كرمة أبو طارق " ، وقالت لي أُمي أن أبي في صباح يومه الأخير في الحياة ، ورغم الحالة الصحية التي كان عليها في يومه الأخير هذا ، إلا أنه تحامل على نفسه وخرج إلى "جنينة العنب " ووقف للحظات ينظُر لكرومها في صمت ثُم عاد إلى داخل البيت ...
***
حين أُجريت لأبي في عام 1998 جراحة القلب المفتوح ( رغم أنه كان طيلة عُمره مفتوح القلب ! ) ذهبت أنا لإحل  محله مؤقتاً في الإشراف على بيع محصول العنب ، وأتى أحد تُجار الفاكهة لشراء العنب ، وبعد أنتهى من الجني والتحميل ولدى خروجه من البُستان نظر إلى أشجار المانجو المُحملة بالثمار ثُم نظر إلى بتردد وسألني على استحياء : و بالنسبة للمنجه دي يابيه مش هاتبيعوها ، فأجبته دون تردُد ، ووفقاً لتعليمات أبي ولرأيي الشخصي أيضاً : لا والله يامعلم مش بنبيع مانجه .
فابتسم قائلاً : أهو انتو كده يا حساينه طول عمركم تزرعوا المنجه وماتبيعوهاش !
و الواقع أن هذا الأمر مرجعه أننا نحن " الحساينه " نأكُل المانجو – جيلاً بعد جيل – بنهم وبكميات لايستطيع أن يُجارينا فيها أحد ، فأتذكر مثلاً أن أبي كان يُحضر "قفص " المانجو ويضعه أمامنا مُباشرة فوق المائدة ونشرع ثلاثتنا ،أبي وشقيقتي وأنا ، في أكل المانجو دون توقف ودون محاولة لإحصاء عدد حبات المانجو التي يتناولها الواحد منا ، وكان معيار التوقف هو الشعور التام بالتُخمة التامة التي قد تصل لصعوبة التنفس ، وهنا يجب أن أوضح امراً هو أنه لم يكن أياً منا يُعاني من السمنة أو حتى الزيادة الطفيفة في الوزن ، والأمر الثاني هو أننا في العموم لانأكُل بإفراط أبداً على هذا النحو الذي نُمارسه تجاه المانجو ، بينما كانت أُمي تكتفي بحبة أو حبتين على الأكثر من المانجو ، والسبب بالطبع واضح : هي ليست ( جينياً ) من " الحساينه "!
و مما يزيد العجب عجباً أن أبي رغم كُل هذه الكميات من المانجو التي توفرها الحديقة والسلاملك ، إلا أنه كان أيضاً يشتري لنا المانجو من القاهرة ! ونحن بالطبع لم نكُن نأكل كُل محصول المانجو وحدنا ، فكان أبي يوزع كميات كبيرة على الأقارب والأصدقاء والجيران ،  لكن ماكان يصلنا و"نلتهمه " كأسرة كان كثيراً جداً ، لكن نهمنا الموروث للمانجو ، و الحرص على تذوق باقي الأنواع غير المزروعة في بستان أبي الصغير ، أمورٌ تتطلب دائماً " مدداً " يوفره أبي بالشراء من بائعي الفاكهة بالقاهرة .
كان هُناك " حامد " بائع الفاكهة الصعيدي المتجول ، والذي كان يربض يومياً  مقهى في الممر الواقع بين  مقهى "سوق الحميدية "  و مقهى “الندوة الثقافية " بباب اللوق بالقاهرة  فكان يعرف رواد المقهيين ويعرفونه بشكل شخصي ، وكان أبي الخبير بأنواع  المانجو وبانتقاء حباتها يتعامل مع " حامد " البائع النزيه ذو الجلباب المكوي النظيف والوجه النيلي الصارم الودود في ذات الوقت ، كان أبي يسأل : بكام كيلو الهندي النهارده يا حامد ، فيُجيب مثلاً : بتلاته جنيه ونص ، فيرد أبي :لأ ، أنا هاخُد الكيلو بأربعة جنيه ، بس لو لقيت منجاية واحده ماتتاكلش هاترجع الفلوس كُلها ، فيُجيب حامد : على ضمانتي يا أُستاذ فهمي .
في ذلك العام ١٩٩٨ الذي حللت فيه - مؤقتاً - محل أبي في بيع العنب ، ثُم جني المانجو،حدث أن قطفت بيدي إحدى ثمار المانجو فسال من محل فصلها عن العنئ (العُنق ) سائل أبيض كاللبن وسقطت قطرة منه على أنفي فترك أثراً يُشبه الحرق على سطح الجلد ،بل هو في واقع الأمر حرقٌ بالفعل إذ عرفتُ فيما بعد من أبي أن هذه مادةٌ كاوية ،وتعلمت أن هُناك طقوس لقطف المانجو ، إذ يجب فصل الثمرة عن العنئ بحذر ثُم وضعها على الأرض مُرتكزة على محل فصلها عن "العنئ" بحيثُ يتكفل التُراب بإطفاء تلك المادة الكاوية ، وكذا عند  رص المانجو في أقفاص يُفضل أن يتم لف كُل ثمرة في بعض الورق أو أن يكون القفص مُقسماً إلى خانات بحيثُ لاتتلامس ثمار المانجو فتتسبب تلك المادة في إحراق الثمار المجاورة .
تعلمتُ هذا فيما بعد من أبي حين عُدت إليه في القاهرة وأنا موسوم على أنفي بذلك الحرق المنجاوي فاستقبلني ضاحكاً ومُعلقاً : أصلك خواجة ، ذلك اللقب الذي أطلقه علي منذ زمن حين حضرت - وكُنت تقريباً في المرحلة الإعدادية - إقامة عائلتنا لإحتفال مولد الرسول عليه الصلاة والسلام أمام البيت الكبير حيثُ حضر المنشدون والمداحون وأُقيمت حلقة للذكر على الطريقة المعروفة ، وسعدت يومها جداً بالإحتفال وشاركتُ في " الذكر" مع أقراني من أبناء العمومة ، ومع اقتراب مولد النبي في العام التالي سألتُ أبي بكُل ثقة : بابا مش هاتعملوا في البلد "زار "زي السنة اللي فاتت ؟ فانفجرضاحكاً ثُم نظر لي بإحباط : " زار ؟! هو انت يابني خواجة مش من هنا ؟! إسمه ذكر ..ذكر .. هه؟
 أما بالنسبة لواقعة حرق "لبن المانجو" لبشرة أنفي فإن الظاهرة الغريبة جداً هي أنني في نفس الموعد من كُل عام يظهر إحمرار يتحول إلى حرق خفيف  في نفس المكان من أنفي !

عودة إلى تلك الظاهرة " المنجاوية " في عائلتنا فإنها كما أسلفت تشمل جميع أفراد عائلة حسين ،وهم بالمئات ، دون استثناء ، وفي واقعة طريفة حكاها يوماً أحد أعمامي رحمه الله ، وكان عُمدة قريتنا ، أنه كان يجلس وحده يوماً في بيته بحي المنيل يأكُل المانجو ، وحدث أن تناول " منجاية " شديدة العذوبة حتى أنه انتشى تماماً بمذاقها ،وتلفت حوله بحثاً عن أحد يُشهده على جمال حبة المانجو هذه فلم يجد أحداً فنظر إلى باب الشقة متحدثاً بصوت مسموع : " طب وحياتك يادي الباب إن دي أطعم منجاية كلتها ف حياتي "!!!
روى لنا عمي هذه الواقعة وهو غارق في الضحك والدهشة من نفسه ،إذ كان عمي هذا تحديداً واحد من أرجح العقول وأخطر الشخصيات التي يُمكن أن تلقاها في حياتك ،وكانت مهابته تمتد لتشمل سائر محافظة الشرقية وبعض المُحافظات المُحيطة،لكنه أمام المانجو يظل واحداً من" الحساينه "!
أتذكر أيضاً أنني في بداية زواجي وكان التعارُف – بعد – حديثاً بيني وبين أُسرة زوجتي ، وبمُناسبة كمية من المانجو لابأس بها أتيت بها من "بني حسين" لبيت حماي رحمه الله ، دار حديث بيني وبين شقيق زوجتي رحمة الله عليه حول المانجو ، تحول لتحدي طريف بيني وبينه حول الُقدرة على تناول أكبر كمية منها فدخلنا في سباق لأكل المانجو ، وفي حين كان يبذل هو جهداً كبيراً لإجبار نفسه على تناول أكبر عدد ممكن من حباتها ، كُنت أنا آكل  بكميات أكبر ودون أدنى جهد وبجواري كوب من عصير المانجو ( أيضاً ) أرشف منه باستمتاع ، إنتهى هذا المشهد بسقوط نسيبي متلوياً من الألم حتى أننا إضطررنا لإحضار الطبيب والذي طلب نقله للمُستشفى فوراً !
ورغم أن أحداً من الحساينة ، أو من أُسرتنا الصغيرة على الأقل ، لم يُعاني صحياً بسبب الإفراط في أكل المانجو ،إلا أنني – وحدي – تعرضت مُنذ بضع سنوات ،وبشكل مُفاجيء إلى "حصوة بالكلية اليُسرى" ، وهو الأمر الذي كان صادماً لي تماماً إذ لايوجد تاريخ مرضي للعائلة في هذا النوع من الأمراض ، ثم توالت الحصوات بعدها من آن لآخر ، وأنا الأن صرت أتعامل مع المانجو تعامُلي مع حُب ضائع ، فالمانجو تدخُل بيتي الآن مرة أو مرتان في الموسم كُله ، و أتناول في حذر حبة أو حبتان على الأكثر  في كُل مرة ، فإذا تناولت أربع أو خمس حبات من المانجو طيلة الموسم أعتبرت هذا إفراط أعالجه باجتراع ماتتحمله معدتي من كميات المياه – المُقطرة بالمُناسبة – مع كيس من الفوار الخاص بالكُلى في كُل مرة ، يبدو إذا أن القدر إختارني لأدفع ضريبة آل حسين كُلهم عن " كُل هذا المانجو " !!!
طارق فهمي حسين 
يوليو 2018 

الأربعاء، 18 يوليو 2018

ليلة سليم حداد



ليلة سليم حداد




في إطار النشاط الثقافي الملحوظ والمُتصاعد الذي يدور بين جنبات أتيليه القاهرة في الفترة الأخيرة عُقدت بالأمس الثُلاثاء 17 يوليو 2018 أُمسية شعرية للشاعر سليم حداد .وسليم حداد هو الإبن الأكبر لوالد الشُعراء فؤاد حداد ، وهو بالأساس مُهندس مدني تخرج من الكُلية الفنية العسكرية وقضى حياته المهنية كمُهندس في السلك العسكري حتى وصل إلى مرحلة التقاعُد ، وكما روى بنفسه في الأُمسية فإن بداياته مع الشعر كانت وهو – بعد – طالب بالثانوي حيثُ كانت أول قصائده في رثاء السيدة أُم كلثوم حين رحلت في عام 1975 ، واستمرت محاولاته الأولى بعض الوقت ، وعرض بعضها على والده فؤاد حداد الذي أبدى استحساناً كبيراً ،كما أبدى أسفه إذ لم يعرض عليه "سليم"أشعاره من قبل إذ قال له :أنني قد نشرت أشعاراً لآخرين أقل كثيراً من أشعارك ،وشجعه على الإستمرار ، إلا أن إلتحاق سليم حداد بالكُلية الفنية العسكرية ،ثُم انخراطه في السلك العسكري إبتعدا به تماماً عن كتابة الشعر ، لكنه وبعد عقود ، وتحديداً في 2007 عاوده الحنين إلى الشعر وغالبه نداء الموهبة الأكيدة فعاد لكتابة الشعر ، حتى كانت ثورة 25 يناير 2011 فتفجرت موهبة سليم حداد وانسال مخزون تجربته الحياتية وثقافته الواسعة متدفقين في نهر موهبته الهادر فإذا به – وكما أخبرنا في الأمسية – يكتب تقريباً   "كُل يوم قصيدة " حتى أثمر ذلك عدداً من الدواوين ، تم نشر ديوانان منها حتى الآن وعدد آخر من الدواوين تنتظر الطبع ، أو بالأحرى تنتظرها – بلهفة – المطابع .
ألقى سليم حداد في الأُمسية عدداً من القصائد والتي تُفصح عن إنشغال شاعرنا بالوطن وبالإنسان ، وأيضاً بالحُب والجمال ، وتنُم عن مشروع شعري مُختلف ومُتميز.
حضر الأُمسية جمهور مُتميز من الشعُراء والكُتاب والنُقاد كان منهُم الشاعر الكبير سمير عبد الباقي ، والشاعر الكبير أمين حداد ، و الشاعر والروائي أحمد الجنايني رئيس مجلس إدارة الأتيليه والشُعراء أحمد حداد وحُسام حداد ، والكاتب الصحفي والأديب ،أُسامة الرحيمي ، والروائية الكبيرة مُنى الشيمي ، و المُثقف الكبير تامر هاجوج ، والأديب سعد الدين حسن ، والناقد د. شبل الكومي ، والشاعر والمسرحي علي أبو سالم والكاتب والمؤرخ يوسف محمد و د. أُمنية عامر الأُستاذ  بكُلية الآداب
أدار الأُمسية الأُستاذ الكاتب  والناقد أمل سالم مسئول اللجنة الأدبية بأتيليه القاهرة، والذي يقف خلف النشاط  المتميز   والحياة التي دبت في أركان أتيليه القاهرة ، وأعادته مركزاً حقيقياً للإشعاع الثقافي ، وعاد مقصداً للمُثقفين من أعضاء الأتيليه وسواهم .
 امل سالم  دعا الحضور للحوار حول الشاعر وأشعاره التي ألقيت في الأمسية ، حيث شهدت الندوة   مداخلات  ساخنة "   فأدلى الشاعر والمسرحي علي أبو سالم برأيه وانطباعاته الأولي حول أشعار سليم حداد ، في حين ألقى الشاعر الكبير سمير عبد الباقي باللوم على مُنظم الأُمسية بأنه لم يقم بدعوة أحد أو بعض النُقاد لتناول أشعار سليم حداد بالنقد ، وأوضح الأُستاذ أمل سالم ، وأيده في ذلك الشاعر سليم حداد نفسه أن هذه الأُمسية تُمثل بطاقة تعارُف أولية مع الشاعر ومايكتُب من أشعار ، ورُبما يتم ما طالب به الشاعر سمير عبد الباقي في لقاءات تالية .
كما عبر الشاعر سمير عبد الباقي عن أنه كان يتمنى أن تكون الأمسية بمثابة " ليلة حدادية " نستمع فيها إلى أشعار كل من أمين وأحمد وحُسام حداد إلى جانب سليم حداد ، وكذا إلى السرد القصصي للكاتب حسن حداد ، وأن يتوج كُل ذلك بإلقاء أشعار فؤاد حداد ، وعلق من بين الحضور طارق فهمي حسين ( كاتب هذه السطور ) بأن ذلك كان سيحول الأمسية إلى أمسية لفؤاد حداد ، وهذا رغم كونه بالطبع شيْ جميل ومطلوب ، لكنه أيضاً على الجانب الآخر يحق لكُل من هؤلاء المُبدعين – و إن حملوا جميعهم لقب حداد وافتخروا به – لكنه يحق لكُل منهم أن يعبر عن نفسه وعن إبداعه الخاص دون أن يُلقي  العملاق فؤاد حداد بظلاله على هذه الإبداعات التي يتميز بها كُل واحد منهم ، ولخص الشاعر الشاب حُسام حداد الأمر ببلاغة بقوله أنه – وأنهم جميعاً – يعتزون ويفخرون بحمل إسم فؤاد حداد في شهادات الميلاد ، وليس في الشعر لأنهم أولاً لايريدون ولا يستطيعون أن يسقطوا في فخ المُقارنة التي لاسبيل إليها بالنسبة لأي شاعر ، وثانياً لأن لكل منهم شخصيته الشعرية المُستقلة ، والتي لم تتأثر بعالم فؤاد حداد الشعري إلا بالقدر الذي تأثر وسوف يتأثر به دائماً كُل من يصف نفسه بأنه شاعر ، وإن كان أبناء فؤاد حداد يتمتعون بالتأكيد بميزة العيش في بيته وفي أجواء هذا البيت المسكونة بالشعر .
كانت بالتأكيد أُمسية شديدة الجمال ، عطرها الشاعر سليم حداد بعدد من قصائده النابضة بالحياة والمُفعمة بالفكر والجمال معاً ، وترك الحضور في لهفة وترقب لتلقف القادم من دواوينه .

طارق فهمي حسين
يوليو ٢٠١٨
=================
تم نشر هذا المقال بموقع "بتانة نيوز بتاريخ الأربعاء ١٨ يوليو ٢٠١٨

رابط المقال :

http://41.65.186.201/news-details.aspx?Q=45306&C=3

الخامس عشر من يوليو ...يا أُمي



الخامس عشر من يوليو ...يا أُمي






اليوم ١٥ يوليو هو ذكرى ميلاد أمي رحمة الله عليها ...
تلك الأم التي ليس كمثلها أم ، هي نوع من الأمهات يصفها علماء النفس بالأم الدجاجة لفرط حنوها على أبنائها ، كنا نضحك كثيرا حين نتذكر أنها ، حين كنت أنا في المرحلة الثانوية ،مرحلة الشعور المبالغ فيه بالرجولة الإستقلالية ، كانت أمي من آن لآخر تصر على أبي أنا يأخذها إلى مدرستي لتطلب من المدير إستدعائي لتعطيني كيسا مملوءا بأنواع الشيكولاتة والبونبون ، وأنا أكاد أذوب خجلا وغيظا وأتمنى على الأرض أن تنشق وتبتلعني !
كانت أمي إمرأة عاملة ، كانت تعمل قبل أن تتزوج أبي في جريدة الجمهورية وفي مجلة الرسالة الجديدة ، ثم استقرت بمسرح القاهرة للعرائس الذي التحقت به منذ إنشاءه وحتى بلغت سن المعاش وهي تشغل منصب مدير عام الشئون المالية والإدارية بالمسرح .
من كان يراها وهي جالسة إلى مكتبها دون أن يعرف الخلفيات كان يصيبه الرعب حين يراها تنفعل على هذا وتصرخ في وجه ذاك ولا تنادي الموظفين ، بل كبارهم إلا بالواد فلان والبت فلانة ، والمفاجأة أن كل هؤلاء كانوا يضحكون لصياحها في وجوههم بل ويطلبونه طلبا ، وكنت حين أزورها في المكتب أندهش وأتحرج حين أجدها تنهر رجلا أشيب الشعر و تناديه "بالواد " كما كنت أراها تفعل منذ عقود مع نفس الشخص وسواه ، فأميل عليها هامسا :"يا ماما ميصحش كده ، عمو فلان بقى راجل كبير " فتصيح فاضحة همسي :"مالكش دعوة إنت هما مابيزعلوش " فيندفع الرجل مؤكدا على كلامها ، مامتك دي أمنا كلنا . حتى وإن كان أكبر منها سنا !
كانت أمي تستيقظ في الخامسة صباحا وتنزل إلى الفرن الأفرنجي الموجود بالشارع الذي خلفنا لتشتري الخبز وبعض قطع الجاتوه التي كنت أصر على أن أفطر بقطعتين منه يوميا مع كوب كاكاو قبل النزول، وكانت أحيانا تبكر عن ذلك في النزول فكانت تنزل والسماء بعد مظلمة ، وكان أميني الشرطة الموكلان بشارعنا ( في بدايات عهد أمناء الشرطة ) يعرفانها ، فكانا يسيران على الرصيف المقابل بمحازاتها ويحرسانها طول الطريق ذهابا وإيابا ، وفي إحدى المرات بالغت في التبكير دون أن تنظر إلى الساعة فوجدت الفرن مغلق فأخذت تدق الباب حتى فتح لها العامل الوحيد الذي يبيت في الفرن فسألته بحزم : إنتو قافلين ليه النهارده ؟ فأجابها مندهشا : يامدام الساعة لسه تلاته الصبح !
كانت أمي تصعد من الفرن لتعد لنا السندويتشات وتبدأ في طبخ وجبة الغداء وتعد ملابسنا ، ثم تبدأ في إيقاظي أنا وشقيقتي التي كانت تستيقظ فورا بنشاط مشرقة الوجه ، ذلك الوجه الجميل الذي كان مستديرا وصار اليوم مستطيلا لكنه احتفظ بجماله ، أما أنا فقد كان إيقاظي رحلة عذاب للطرفين ، بل لكل الأطراف بالبيت ،فكانت تبدأ بالنداء بهدوء قرب سريري : طارق طارق ( هكذا مرتين متتابعتين ) وبتكرار وانتظام كان يثير جهازي العصبي ! فأتظاهر بأنني أهم بالقيام من السرير وما أن تغادر الغرفة إل المطبخ لمتابعة الطبيخ حتى أستأنف النوم ، وحين تمر أمام الغرفة وهي تظن أنني إستيقظت حتى تجدني نائما فتبدأ في الإنفعال : قوم يابني حرام عليك ، وتندفع إلى الشباك لتفتح الزجاج فالشيش بعنف لترتطم ضلفات الشيش بالحوائط الخارجية محدثة دويا ، ويندفع النور والهواء البارد ليغمرا الغرفة ، فأزداد تمسكا بلحافي واعتصاما بالسرير ، يابني قوم هاتتأخر حرام عليك ، خليك كده نايم في العسل !
وتعود إلى المطبخ مهرولة لتلحق بالطبيخ قبل أن يحترق ، وتبدأ في مناداتي من المطبخ ، وهنا يستيقظ أبي على كل هذه الأصوات ، وهو الذي بدأ نومه منذ ساعتين فقط ، فيقوم من فراشه بهدوء ، وتلقاه أمي في الرواق : لأ والنبي يافهمي عشان خاطري ، هو خلاص هايقوم ، فيجيبها بحنو : إنتي ليه تاعبه نفسك معاهم كده ؟ ويمضي بهدوء إلى غرفتي فيمسكني من كعب أخيل ، أقصد كعبي ، ويولي ظهره لفراشي ويبدأ في الإنصراف ساحبا إياي من كعبي حتى أسقط مرتطما بالأرض ( التي أحمد الله أنها كانت خشبية ) !
- آي ، إيه يابابا ده ؟!
فيجيب بهدوء : صباح الخير ، يلا قوم علشان المدرسة.
ويمضي بهدوء ليستكمل نومه .
فأقوم مغالبا ضحكي قبل ألم عظامي البسيط !
في نهايات خمسينيات القرن العشرين تم استدعاء أبي إلى مقر المخابرات الحربية للتحقيق معه بسبب قرابته للملحق العسكري المصري بلبنان الضابط زغلول عبد الرحمن الضبع ، والذي انشق على عبد الناصر .
وكانت أمي حاملا بي ، ومضى النهار كله وحل الليل ولم يعد أبي ، فاتصلت أمي بالأستاذ أحمد حمروش الذي كان أحد الضباط الأحرار البارزين ثم الصحفي البارز أيضا و الذي كان رئيس أبي المباشر وصديقه وكان يقول له : يافهمي أنا باعتبرك زي علاء إبني .
هاتفته أمي منفعلة : يا أستاذ حمروش ، فهمي في المخابرات الحربية من الصبح ، ولو مارجعش دلوقت أنا هانزل أشوفه فين وأروح له ، حاول حمروش تهدئتها ، إهدي يااعتدال وأنا هاتصرف .
-طيب بس ترد عليا .
- حاضر
وبعد حين إتصل بها حمروش آسفا إذ أنه رغم صلاته القوية لم يصل إلى شيء ، فأجابت وهي في قمة الإنفعال ، خلاص أنا نازلة دلوقت رايحه أجيب جوزي .
- فأجابها حمروش : ماينفعش يااعتدال إعملي معروف .
- خلاص يبقى تديني رقم مدير المخابرات الحربية .
-....طيب
- ورقم عبد الناصر المباشر.
-إيه ؟!!!!!!
- يا أستاذ حمروش لو ما ادتنيش النمر أنا هانزل أروح لعبد الناصر البيت واللي يحصل يحصل
- !!! طيب هاديكي النمرتين بس إوعديني مهما حصل ماتقوليش جبتيهم منين ،وخلي بالك رقم عبد الناصر ده مباشر وهو شخصيا اللي بيرد عليه ومافيش داعي أصلا تتصلي بيه .
...
إتصلت أمي بمدير المخابرات الحربية !
- ألو مين معايا
- أنا مدام فهمي حسين الصحفي ، وهو موجود عندكم من الصبح ، بيعمل إيه كل ده ، إنتو عايزينه في إيه أصلا ؟
- إنتي أصلا جبتي الرقم ده منين ؟!!!
- جبته من مطرح ماجبته ، ومعايا الرقم المباشر لعبد الناصر ، ولو جوزي مبقاش في البيت خلال ساعة أنا هاتصل بعبد الناصر .
فأسقط في يد الرجل وأجاب :
يامدام عايزك تهدي ، الأستاذ فهمي قاعد قدامي أهه ومافيش أي حاجة مجرد دردشة .
- دردشة من الصبح لغاية دلوقت ؟
-خلاص خلاص ساعة وهايكون عندك زي ماقلتي .
بعد أقل من ساعة دق جرس الباب لتفتح أمي لتجد أبي أمامها غارقا في الضحك : إنتي إيه اللي عملتيه في الراجل ده ؟ وجبتي نمرته منين ؟ ده فضل يعتذر لي يقولي يا أسناذ فهمي إنت من ساعة ماجيت عندنا هل إتعرضت لأي ضغط أو إساءة ؟ ياريت توضح ده للمدام .
وفي عام ١٩٨١ حين لفق السادات قضية قلب نظام الحكم المعتادة للفريق سعد الدين الشاذلي و١٨ آخرين ،كان أبي المتهم السادس في القضية ، لكنه كان -كباقي المتهمين - خارج البلاد ، حضر رجال المدعي الإشتراكي مرتين لتفتيش البيت وتمت مراقبة التليفون ، وجلس على دكة بواب العمارة مخبرين بعدد أفراد الأسرة وزيادة واحد ، فكان هناك واحد مستديم مهمته سؤال البواب عن كل من يصعد إلى العمارة وهل هو قادم لزيارتنا أم لا ؟ ( العمارة ٦٠ شقة ) أما الثلاثة الباقون فكان كل واحد منهم موكل بواحد من الأسرة ، يحاولون السير ورائنا أنى ذهبنا .
في تلك الفترة صودرت السيارة الوحيدة لدينا ( فولكس بيتل إشتراها لي أبي مستعملة ) لمدة ٢١ يوم ثم تم تسليمها لي كحارس عليها ! وصرت أتردد يوميا على مكتب مساعد المدعي العام الإشتراكي بطلب منه لأقضي فترة دوامه كاملة بمكتبه في تحقيق غير رسمي وغير مدون ! حتى أوقف محامي نقابة الصحفيين الأستاذ عبد العزيز محمد هذه المهزلة فتم استدعائي للتحقيق رسميا لمدة يوم واحد وحضر معي الأستاذ عبد العزيز ، لكن تلك رواية أخرى ..
حتى كان يوم الخامس من أكتوبر عام ١٩٨١ حين وقفت أمي منفعلة في مكتب مساعد المدعي الإشتراكي وقامت بأعلى صوتها بالدعاء على أنور السادات : ربنا ياخده ، أشوف فيه يوم قريب ، وانصرفت غاضبة دون أن يجرؤ أحد على اعتراضها .
وفي اليوم التالي مباشرة سقط أنور السادات صريعا برصاصات مجموعة من أبناء قواتنا المسلحة !!!
كانت أمي معروفة وذات مكانة كبيرة لدى كل العاملين بهيئة المسرح والمسارح التابعة لها ، وكان أبي بصفته صحفيا معروفا في زمنه ، وكان من ضمن مايكتب عمودا إسبوعيا في روزاليوسف بعنوان "خواطر فنية" ، لذا فدائما ماكانت تأتيه الدعوات له وللأسرة لحضور العروض المسرحية سواء في مسارح الدولة أو القطاع الخاص ، وكان موظفو معظم تلك المسارح يعرفون أمي جيدا ، وحتى في عروض القطاع الخاص فكانت المسارح غالبا مؤجرة من الدولة أي من هيئة المسرح ، وبينما كانت الدعوة تأتي لأبي من "رأس العمل " مباشرة مثل جلال الشرقاوي أو سمير خفاجى أو أمين الهنيدي أو محمد عوض ... إلخ ، رغم ذلك ، فإننا كنا نجد الإحتفاء والترحيب بأمي يتلقفنا من الباب الخارجي للمسرح وحتى الجلوس في مقاعدنا مع تقديم المشروبات الباردة ، وكان يجري تقديم أبي ( صاحب الدعوة الأصلي ) بصفته :الأستاذ فهمي حسين جوز مدام إعتدال -مسرح العرائس !!! فكان أبي يداري ضحكه ، وحين نعود للبيت لم يكن يفوته أن يعلق متندرا : يعني أنا دلوقت بقيت جوز الست.
حين كنت طالبا في الصف الأول الثانوي أحببت إبنة الجيران التلميذة بالإعدادية وبادلتني الشعو وظل حبنا سرا لايعرفه سوانا وتعاهدنا على الزواج "لما نكبر وأتخرج من الجامعة" ، وبعد الثانوية العامة تمت فجأة خطبتها إلى شخص آخر ، ووقفنا نراقب من البلكونة خروجها هي وخطيبها فيما يشبه الزفة عبر ممر العمارة الطوييييل ، وكنت أقف متماسكا مؤجلا دموعي حتى أنفرد بنفسي لأن حبنا كما قلت كان سرا بيننا طيلة تلك السنوات ، فإذا بأمي تربت على كتفي : ماتزعلش يابني ،كل شيء قسمة ونصيب !
ظلت أمي منذ بدأت في الخروج وحدي في المرحلة الإعدادية وحتى صرت رجلا متزوجا ، ظلت تتابع بلهفة وصولي إلى هذا المكان أو ذاك وعودتي إلى البيت سالما .
طيلة سنوات صباي وبدايات الشباب في الأجازة الصيفية كنت أذهب إلى النادي منذ الصباح الباكر وأعود عند منتصف الليل ، ويوميا كانت أمي تجزع لتأخري وحين أعود يستقبلني البواب ومن تبقى حتى تلك الساعة من أصحاب المحلات الموجودة في ممر العمارة ، وربما أمي نفسها بصحبة أحد الجيران (كان أبي خارج مصر ) : كنت فين ياطارق كل ده؟ خضيتنا عليك !!
كان هذا طقس يومي !
لاأدري كيف تدافعت كل هذه الذكريات وهي نقطة في بحر ، فكل ماقصدته حين بدأت في الكتابة أن أكتب سطرا واحدا أو سطرين في ذكرى ميلاد أم ليس كمثلها أم .
رحمة الله عليك يا أمي ، أنا مازلت حتى هذه اللحظة ممسكا بذيل فستانك لا أستطيع أن أفلته .


                                                                إبنك 
                                                                                   طارق

                                                                                         ١٥ يوليو ٢٠١٨