اليوم ١٥ يوليو هو ذكرى ميلاد أمي رحمة الله عليها ...
تلك الأم التي ليس كمثلها أم ، هي نوع من الأمهات يصفها علماء النفس بالأم الدجاجة لفرط حنوها على أبنائها ، كنا نضحك كثيرا حين نتذكر أنها ، حين كنت أنا في المرحلة الثانوية ،مرحلة الشعور المبالغ فيه بالرجولة الإستقلالية ، كانت أمي من آن لآخر تصر على أبي أنا يأخذها إلى مدرستي لتطلب من المدير إستدعائي لتعطيني كيسا مملوءا بأنواع الشيكولاتة والبونبون ، وأنا أكاد أذوب خجلا وغيظا وأتمنى على الأرض أن تنشق وتبتلعني !
كانت أمي إمرأة عاملة ، كانت تعمل قبل أن تتزوج أبي في جريدة الجمهورية وفي مجلة الرسالة الجديدة ، ثم استقرت بمسرح القاهرة للعرائس الذي التحقت به منذ إنشاءه وحتى بلغت سن المعاش وهي تشغل منصب مدير عام الشئون المالية والإدارية بالمسرح .
من كان يراها وهي جالسة إلى مكتبها دون أن يعرف الخلفيات كان يصيبه الرعب حين يراها تنفعل على هذا وتصرخ في وجه ذاك ولا تنادي الموظفين ، بل كبارهم إلا بالواد فلان والبت فلانة ، والمفاجأة أن كل هؤلاء كانوا يضحكون لصياحها في وجوههم بل ويطلبونه طلبا ، وكنت حين أزورها في المكتب أندهش وأتحرج حين أجدها تنهر رجلا أشيب الشعر و تناديه "بالواد " كما كنت أراها تفعل منذ عقود مع نفس الشخص وسواه ، فأميل عليها هامسا :"يا ماما ميصحش كده ، عمو فلان بقى راجل كبير " فتصيح فاضحة همسي :"مالكش دعوة إنت هما مابيزعلوش " فيندفع الرجل مؤكدا على كلامها ، مامتك دي أمنا كلنا . حتى وإن كان أكبر منها سنا !
كانت أمي تستيقظ في الخامسة صباحا وتنزل إلى الفرن الأفرنجي الموجود بالشارع الذي خلفنا لتشتري الخبز وبعض قطع الجاتوه التي كنت أصر على أن أفطر بقطعتين منه يوميا مع كوب كاكاو قبل النزول، وكانت أحيانا تبكر عن ذلك في النزول فكانت تنزل والسماء بعد مظلمة ، وكان أميني الشرطة الموكلان بشارعنا ( في بدايات عهد أمناء الشرطة ) يعرفانها ، فكانا يسيران على الرصيف المقابل بمحازاتها ويحرسانها طول الطريق ذهابا وإيابا ، وفي إحدى المرات بالغت في التبكير دون أن تنظر إلى الساعة فوجدت الفرن مغلق فأخذت تدق الباب حتى فتح لها العامل الوحيد الذي يبيت في الفرن فسألته بحزم : إنتو قافلين ليه النهارده ؟ فأجابها مندهشا : يامدام الساعة لسه تلاته الصبح !
كانت أمي تصعد من الفرن لتعد لنا السندويتشات وتبدأ في طبخ وجبة الغداء وتعد ملابسنا ، ثم تبدأ في إيقاظي أنا وشقيقتي التي كانت تستيقظ فورا بنشاط مشرقة الوجه ، ذلك الوجه الجميل الذي كان مستديرا وصار اليوم مستطيلا لكنه احتفظ بجماله ، أما أنا فقد كان إيقاظي رحلة عذاب للطرفين ، بل لكل الأطراف بالبيت ،فكانت تبدأ بالنداء بهدوء قرب سريري : طارق طارق ( هكذا مرتين متتابعتين ) وبتكرار وانتظام كان يثير جهازي العصبي ! فأتظاهر بأنني أهم بالقيام من السرير وما أن تغادر الغرفة إل المطبخ لمتابعة الطبيخ حتى أستأنف النوم ، وحين تمر أمام الغرفة وهي تظن أنني إستيقظت حتى تجدني نائما فتبدأ في الإنفعال : قوم يابني حرام عليك ، وتندفع إلى الشباك لتفتح الزجاج فالشيش بعنف لترتطم ضلفات الشيش بالحوائط الخارجية محدثة دويا ، ويندفع النور والهواء البارد ليغمرا الغرفة ، فأزداد تمسكا بلحافي واعتصاما بالسرير ، يابني قوم هاتتأخر حرام عليك ، خليك كده نايم في العسل !
وتعود إلى المطبخ مهرولة لتلحق بالطبيخ قبل أن يحترق ، وتبدأ في مناداتي من المطبخ ، وهنا يستيقظ أبي على كل هذه الأصوات ، وهو الذي بدأ نومه منذ ساعتين فقط ، فيقوم من فراشه بهدوء ، وتلقاه أمي في الرواق : لأ والنبي يافهمي عشان خاطري ، هو خلاص هايقوم ، فيجيبها بحنو : إنتي ليه تاعبه نفسك معاهم كده ؟ ويمضي بهدوء إلى غرفتي فيمسكني من كعب أخيل ، أقصد كعبي ، ويولي ظهره لفراشي ويبدأ في الإنصراف ساحبا إياي من كعبي حتى أسقط مرتطما بالأرض ( التي أحمد الله أنها كانت خشبية ) !
- آي ، إيه يابابا ده ؟!
فيجيب بهدوء : صباح الخير ، يلا قوم علشان المدرسة.
ويمضي بهدوء ليستكمل نومه .
فأقوم مغالبا ضحكي قبل ألم عظامي البسيط !
في نهايات خمسينيات القرن العشرين تم استدعاء أبي إلى مقر المخابرات الحربية للتحقيق معه بسبب قرابته للملحق العسكري المصري بلبنان الضابط زغلول عبد الرحمن الضبع ، والذي انشق على عبد الناصر .
وكانت أمي حاملا بي ، ومضى النهار كله وحل الليل ولم يعد أبي ، فاتصلت أمي بالأستاذ أحمد حمروش الذي كان أحد الضباط الأحرار البارزين ثم الصحفي البارز أيضا و الذي كان رئيس أبي المباشر وصديقه وكان يقول له : يافهمي أنا باعتبرك زي علاء إبني .
هاتفته أمي منفعلة : يا أستاذ حمروش ، فهمي في المخابرات الحربية من الصبح ، ولو مارجعش دلوقت أنا هانزل أشوفه فين وأروح له ، حاول حمروش تهدئتها ، إهدي يااعتدال وأنا هاتصرف .
-طيب بس ترد عليا .
- حاضر
وبعد حين إتصل بها حمروش آسفا إذ أنه رغم صلاته القوية لم يصل إلى شيء ، فأجابت وهي في قمة الإنفعال ، خلاص أنا نازلة دلوقت رايحه أجيب جوزي .
- فأجابها حمروش : ماينفعش يااعتدال إعملي معروف .
- خلاص يبقى تديني رقم مدير المخابرات الحربية .
-....طيب
- ورقم عبد الناصر المباشر.
-إيه ؟!!!!!!
- يا أستاذ حمروش لو ما ادتنيش النمر أنا هانزل أروح لعبد الناصر البيت واللي يحصل يحصل
- !!! طيب هاديكي النمرتين بس إوعديني مهما حصل ماتقوليش جبتيهم منين ،وخلي بالك رقم عبد الناصر ده مباشر وهو شخصيا اللي بيرد عليه ومافيش داعي أصلا تتصلي بيه .
...
إتصلت أمي بمدير المخابرات الحربية !
- ألو مين معايا
- أنا مدام فهمي حسين الصحفي ، وهو موجود عندكم من الصبح ، بيعمل إيه كل ده ، إنتو عايزينه في إيه أصلا ؟
- إنتي أصلا جبتي الرقم ده منين ؟!!!
- جبته من مطرح ماجبته ، ومعايا الرقم المباشر لعبد الناصر ، ولو جوزي مبقاش في البيت خلال ساعة أنا هاتصل بعبد الناصر .
فأسقط في يد الرجل وأجاب :
يامدام عايزك تهدي ، الأستاذ فهمي قاعد قدامي أهه ومافيش أي حاجة مجرد دردشة .
- دردشة من الصبح لغاية دلوقت ؟
-خلاص خلاص ساعة وهايكون عندك زي ماقلتي .
بعد أقل من ساعة دق جرس الباب لتفتح أمي لتجد أبي أمامها غارقا في الضحك : إنتي إيه اللي عملتيه في الراجل ده ؟ وجبتي نمرته منين ؟ ده فضل يعتذر لي يقولي يا أسناذ فهمي إنت من ساعة ماجيت عندنا هل إتعرضت لأي ضغط أو إساءة ؟ ياريت توضح ده للمدام .
وفي عام ١٩٨١ حين لفق السادات قضية قلب نظام الحكم المعتادة للفريق سعد الدين الشاذلي و١٨ آخرين ،كان أبي المتهم السادس في القضية ، لكنه كان -كباقي المتهمين - خارج البلاد ، حضر رجال المدعي الإشتراكي مرتين لتفتيش البيت وتمت مراقبة التليفون ، وجلس على دكة بواب العمارة مخبرين بعدد أفراد الأسرة وزيادة واحد ، فكان هناك واحد مستديم مهمته سؤال البواب عن كل من يصعد إلى العمارة وهل هو قادم لزيارتنا أم لا ؟ ( العمارة ٦٠ شقة ) أما الثلاثة الباقون فكان كل واحد منهم موكل بواحد من الأسرة ، يحاولون السير ورائنا أنى ذهبنا .
في تلك الفترة صودرت السيارة الوحيدة لدينا ( فولكس بيتل إشتراها لي أبي مستعملة ) لمدة ٢١ يوم ثم تم تسليمها لي كحارس عليها ! وصرت أتردد يوميا على مكتب مساعد المدعي العام الإشتراكي بطلب منه لأقضي فترة دوامه كاملة بمكتبه في تحقيق غير رسمي وغير مدون ! حتى أوقف محامي نقابة الصحفيين الأستاذ عبد العزيز محمد هذه المهزلة فتم استدعائي للتحقيق رسميا لمدة يوم واحد وحضر معي الأستاذ عبد العزيز ، لكن تلك رواية أخرى ..
حتى كان يوم الخامس من أكتوبر عام ١٩٨١ حين وقفت أمي منفعلة في مكتب مساعد المدعي الإشتراكي وقامت بأعلى صوتها بالدعاء على أنور السادات : ربنا ياخده ، أشوف فيه يوم قريب ، وانصرفت غاضبة دون أن يجرؤ أحد على اعتراضها .
وفي اليوم التالي مباشرة سقط أنور السادات صريعا برصاصات مجموعة من أبناء قواتنا المسلحة !!!
كانت أمي معروفة وذات مكانة كبيرة لدى كل العاملين بهيئة المسرح والمسارح التابعة لها ، وكان أبي بصفته صحفيا معروفا في زمنه ، وكان من ضمن مايكتب عمودا إسبوعيا في روزاليوسف بعنوان "خواطر فنية" ، لذا فدائما ماكانت تأتيه الدعوات له وللأسرة لحضور العروض المسرحية سواء في مسارح الدولة أو القطاع الخاص ، وكان موظفو معظم تلك المسارح يعرفون أمي جيدا ، وحتى في عروض القطاع الخاص فكانت المسارح غالبا مؤجرة من الدولة أي من هيئة المسرح ، وبينما كانت الدعوة تأتي لأبي من "رأس العمل " مباشرة مثل جلال الشرقاوي أو سمير خفاجى أو أمين الهنيدي أو محمد عوض ... إلخ ، رغم ذلك ، فإننا كنا نجد الإحتفاء والترحيب بأمي يتلقفنا من الباب الخارجي للمسرح وحتى الجلوس في مقاعدنا مع تقديم المشروبات الباردة ، وكان يجري تقديم أبي ( صاحب الدعوة الأصلي ) بصفته :الأستاذ فهمي حسين جوز مدام إعتدال -مسرح العرائس !!! فكان أبي يداري ضحكه ، وحين نعود للبيت لم يكن يفوته أن يعلق متندرا : يعني أنا دلوقت بقيت جوز الست.
حين كنت طالبا في الصف الأول الثانوي أحببت إبنة الجيران التلميذة بالإعدادية وبادلتني الشعو وظل حبنا سرا لايعرفه سوانا وتعاهدنا على الزواج "لما نكبر وأتخرج من الجامعة" ، وبعد الثانوية العامة تمت فجأة خطبتها إلى شخص آخر ، ووقفنا نراقب من البلكونة خروجها هي وخطيبها فيما يشبه الزفة عبر ممر العمارة الطوييييل ، وكنت أقف متماسكا مؤجلا دموعي حتى أنفرد بنفسي لأن حبنا كما قلت كان سرا بيننا طيلة تلك السنوات ، فإذا بأمي تربت على كتفي : ماتزعلش يابني ،كل شيء قسمة ونصيب !
ظلت أمي منذ بدأت في الخروج وحدي في المرحلة الإعدادية وحتى صرت رجلا متزوجا ، ظلت تتابع بلهفة وصولي إلى هذا المكان أو ذاك وعودتي إلى البيت سالما .
طيلة سنوات صباي وبدايات الشباب في الأجازة الصيفية كنت أذهب إلى النادي منذ الصباح الباكر وأعود عند منتصف الليل ، ويوميا كانت أمي تجزع لتأخري وحين أعود يستقبلني البواب ومن تبقى حتى تلك الساعة من أصحاب المحلات الموجودة في ممر العمارة ، وربما أمي نفسها بصحبة أحد الجيران (كان أبي خارج مصر ) : كنت فين ياطارق كل ده؟ خضيتنا عليك !!
كان هذا طقس يومي !
لاأدري كيف تدافعت كل هذه الذكريات وهي نقطة في بحر ، فكل ماقصدته حين بدأت في الكتابة أن أكتب سطرا واحدا أو سطرين في ذكرى ميلاد أم ليس كمثلها أم .
رحمة الله عليك يا أمي ، أنا مازلت حتى هذه اللحظة ممسكا بذيل فستانك لا أستطيع أن أفلته .
كانت أمي إمرأة عاملة ، كانت تعمل قبل أن تتزوج أبي في جريدة الجمهورية وفي مجلة الرسالة الجديدة ، ثم استقرت بمسرح القاهرة للعرائس الذي التحقت به منذ إنشاءه وحتى بلغت سن المعاش وهي تشغل منصب مدير عام الشئون المالية والإدارية بالمسرح .
من كان يراها وهي جالسة إلى مكتبها دون أن يعرف الخلفيات كان يصيبه الرعب حين يراها تنفعل على هذا وتصرخ في وجه ذاك ولا تنادي الموظفين ، بل كبارهم إلا بالواد فلان والبت فلانة ، والمفاجأة أن كل هؤلاء كانوا يضحكون لصياحها في وجوههم بل ويطلبونه طلبا ، وكنت حين أزورها في المكتب أندهش وأتحرج حين أجدها تنهر رجلا أشيب الشعر و تناديه "بالواد " كما كنت أراها تفعل منذ عقود مع نفس الشخص وسواه ، فأميل عليها هامسا :"يا ماما ميصحش كده ، عمو فلان بقى راجل كبير " فتصيح فاضحة همسي :"مالكش دعوة إنت هما مابيزعلوش " فيندفع الرجل مؤكدا على كلامها ، مامتك دي أمنا كلنا . حتى وإن كان أكبر منها سنا !
كانت أمي تستيقظ في الخامسة صباحا وتنزل إلى الفرن الأفرنجي الموجود بالشارع الذي خلفنا لتشتري الخبز وبعض قطع الجاتوه التي كنت أصر على أن أفطر بقطعتين منه يوميا مع كوب كاكاو قبل النزول، وكانت أحيانا تبكر عن ذلك في النزول فكانت تنزل والسماء بعد مظلمة ، وكان أميني الشرطة الموكلان بشارعنا ( في بدايات عهد أمناء الشرطة ) يعرفانها ، فكانا يسيران على الرصيف المقابل بمحازاتها ويحرسانها طول الطريق ذهابا وإيابا ، وفي إحدى المرات بالغت في التبكير دون أن تنظر إلى الساعة فوجدت الفرن مغلق فأخذت تدق الباب حتى فتح لها العامل الوحيد الذي يبيت في الفرن فسألته بحزم : إنتو قافلين ليه النهارده ؟ فأجابها مندهشا : يامدام الساعة لسه تلاته الصبح !
كانت أمي تصعد من الفرن لتعد لنا السندويتشات وتبدأ في طبخ وجبة الغداء وتعد ملابسنا ، ثم تبدأ في إيقاظي أنا وشقيقتي التي كانت تستيقظ فورا بنشاط مشرقة الوجه ، ذلك الوجه الجميل الذي كان مستديرا وصار اليوم مستطيلا لكنه احتفظ بجماله ، أما أنا فقد كان إيقاظي رحلة عذاب للطرفين ، بل لكل الأطراف بالبيت ،فكانت تبدأ بالنداء بهدوء قرب سريري : طارق طارق ( هكذا مرتين متتابعتين ) وبتكرار وانتظام كان يثير جهازي العصبي ! فأتظاهر بأنني أهم بالقيام من السرير وما أن تغادر الغرفة إل المطبخ لمتابعة الطبيخ حتى أستأنف النوم ، وحين تمر أمام الغرفة وهي تظن أنني إستيقظت حتى تجدني نائما فتبدأ في الإنفعال : قوم يابني حرام عليك ، وتندفع إلى الشباك لتفتح الزجاج فالشيش بعنف لترتطم ضلفات الشيش بالحوائط الخارجية محدثة دويا ، ويندفع النور والهواء البارد ليغمرا الغرفة ، فأزداد تمسكا بلحافي واعتصاما بالسرير ، يابني قوم هاتتأخر حرام عليك ، خليك كده نايم في العسل !
وتعود إلى المطبخ مهرولة لتلحق بالطبيخ قبل أن يحترق ، وتبدأ في مناداتي من المطبخ ، وهنا يستيقظ أبي على كل هذه الأصوات ، وهو الذي بدأ نومه منذ ساعتين فقط ، فيقوم من فراشه بهدوء ، وتلقاه أمي في الرواق : لأ والنبي يافهمي عشان خاطري ، هو خلاص هايقوم ، فيجيبها بحنو : إنتي ليه تاعبه نفسك معاهم كده ؟ ويمضي بهدوء إلى غرفتي فيمسكني من كعب أخيل ، أقصد كعبي ، ويولي ظهره لفراشي ويبدأ في الإنصراف ساحبا إياي من كعبي حتى أسقط مرتطما بالأرض ( التي أحمد الله أنها كانت خشبية ) !
- آي ، إيه يابابا ده ؟!
فيجيب بهدوء : صباح الخير ، يلا قوم علشان المدرسة.
ويمضي بهدوء ليستكمل نومه .
فأقوم مغالبا ضحكي قبل ألم عظامي البسيط !
في نهايات خمسينيات القرن العشرين تم استدعاء أبي إلى مقر المخابرات الحربية للتحقيق معه بسبب قرابته للملحق العسكري المصري بلبنان الضابط زغلول عبد الرحمن الضبع ، والذي انشق على عبد الناصر .
وكانت أمي حاملا بي ، ومضى النهار كله وحل الليل ولم يعد أبي ، فاتصلت أمي بالأستاذ أحمد حمروش الذي كان أحد الضباط الأحرار البارزين ثم الصحفي البارز أيضا و الذي كان رئيس أبي المباشر وصديقه وكان يقول له : يافهمي أنا باعتبرك زي علاء إبني .
هاتفته أمي منفعلة : يا أستاذ حمروش ، فهمي في المخابرات الحربية من الصبح ، ولو مارجعش دلوقت أنا هانزل أشوفه فين وأروح له ، حاول حمروش تهدئتها ، إهدي يااعتدال وأنا هاتصرف .
-طيب بس ترد عليا .
- حاضر
وبعد حين إتصل بها حمروش آسفا إذ أنه رغم صلاته القوية لم يصل إلى شيء ، فأجابت وهي في قمة الإنفعال ، خلاص أنا نازلة دلوقت رايحه أجيب جوزي .
- فأجابها حمروش : ماينفعش يااعتدال إعملي معروف .
- خلاص يبقى تديني رقم مدير المخابرات الحربية .
-....طيب
- ورقم عبد الناصر المباشر.
-إيه ؟!!!!!!
- يا أستاذ حمروش لو ما ادتنيش النمر أنا هانزل أروح لعبد الناصر البيت واللي يحصل يحصل
- !!! طيب هاديكي النمرتين بس إوعديني مهما حصل ماتقوليش جبتيهم منين ،وخلي بالك رقم عبد الناصر ده مباشر وهو شخصيا اللي بيرد عليه ومافيش داعي أصلا تتصلي بيه .
...
إتصلت أمي بمدير المخابرات الحربية !
- ألو مين معايا
- أنا مدام فهمي حسين الصحفي ، وهو موجود عندكم من الصبح ، بيعمل إيه كل ده ، إنتو عايزينه في إيه أصلا ؟
- إنتي أصلا جبتي الرقم ده منين ؟!!!
- جبته من مطرح ماجبته ، ومعايا الرقم المباشر لعبد الناصر ، ولو جوزي مبقاش في البيت خلال ساعة أنا هاتصل بعبد الناصر .
فأسقط في يد الرجل وأجاب :
يامدام عايزك تهدي ، الأستاذ فهمي قاعد قدامي أهه ومافيش أي حاجة مجرد دردشة .
- دردشة من الصبح لغاية دلوقت ؟
-خلاص خلاص ساعة وهايكون عندك زي ماقلتي .
بعد أقل من ساعة دق جرس الباب لتفتح أمي لتجد أبي أمامها غارقا في الضحك : إنتي إيه اللي عملتيه في الراجل ده ؟ وجبتي نمرته منين ؟ ده فضل يعتذر لي يقولي يا أسناذ فهمي إنت من ساعة ماجيت عندنا هل إتعرضت لأي ضغط أو إساءة ؟ ياريت توضح ده للمدام .
وفي عام ١٩٨١ حين لفق السادات قضية قلب نظام الحكم المعتادة للفريق سعد الدين الشاذلي و١٨ آخرين ،كان أبي المتهم السادس في القضية ، لكنه كان -كباقي المتهمين - خارج البلاد ، حضر رجال المدعي الإشتراكي مرتين لتفتيش البيت وتمت مراقبة التليفون ، وجلس على دكة بواب العمارة مخبرين بعدد أفراد الأسرة وزيادة واحد ، فكان هناك واحد مستديم مهمته سؤال البواب عن كل من يصعد إلى العمارة وهل هو قادم لزيارتنا أم لا ؟ ( العمارة ٦٠ شقة ) أما الثلاثة الباقون فكان كل واحد منهم موكل بواحد من الأسرة ، يحاولون السير ورائنا أنى ذهبنا .
في تلك الفترة صودرت السيارة الوحيدة لدينا ( فولكس بيتل إشتراها لي أبي مستعملة ) لمدة ٢١ يوم ثم تم تسليمها لي كحارس عليها ! وصرت أتردد يوميا على مكتب مساعد المدعي العام الإشتراكي بطلب منه لأقضي فترة دوامه كاملة بمكتبه في تحقيق غير رسمي وغير مدون ! حتى أوقف محامي نقابة الصحفيين الأستاذ عبد العزيز محمد هذه المهزلة فتم استدعائي للتحقيق رسميا لمدة يوم واحد وحضر معي الأستاذ عبد العزيز ، لكن تلك رواية أخرى ..
حتى كان يوم الخامس من أكتوبر عام ١٩٨١ حين وقفت أمي منفعلة في مكتب مساعد المدعي الإشتراكي وقامت بأعلى صوتها بالدعاء على أنور السادات : ربنا ياخده ، أشوف فيه يوم قريب ، وانصرفت غاضبة دون أن يجرؤ أحد على اعتراضها .
وفي اليوم التالي مباشرة سقط أنور السادات صريعا برصاصات مجموعة من أبناء قواتنا المسلحة !!!
كانت أمي معروفة وذات مكانة كبيرة لدى كل العاملين بهيئة المسرح والمسارح التابعة لها ، وكان أبي بصفته صحفيا معروفا في زمنه ، وكان من ضمن مايكتب عمودا إسبوعيا في روزاليوسف بعنوان "خواطر فنية" ، لذا فدائما ماكانت تأتيه الدعوات له وللأسرة لحضور العروض المسرحية سواء في مسارح الدولة أو القطاع الخاص ، وكان موظفو معظم تلك المسارح يعرفون أمي جيدا ، وحتى في عروض القطاع الخاص فكانت المسارح غالبا مؤجرة من الدولة أي من هيئة المسرح ، وبينما كانت الدعوة تأتي لأبي من "رأس العمل " مباشرة مثل جلال الشرقاوي أو سمير خفاجى أو أمين الهنيدي أو محمد عوض ... إلخ ، رغم ذلك ، فإننا كنا نجد الإحتفاء والترحيب بأمي يتلقفنا من الباب الخارجي للمسرح وحتى الجلوس في مقاعدنا مع تقديم المشروبات الباردة ، وكان يجري تقديم أبي ( صاحب الدعوة الأصلي ) بصفته :الأستاذ فهمي حسين جوز مدام إعتدال -مسرح العرائس !!! فكان أبي يداري ضحكه ، وحين نعود للبيت لم يكن يفوته أن يعلق متندرا : يعني أنا دلوقت بقيت جوز الست.
حين كنت طالبا في الصف الأول الثانوي أحببت إبنة الجيران التلميذة بالإعدادية وبادلتني الشعو وظل حبنا سرا لايعرفه سوانا وتعاهدنا على الزواج "لما نكبر وأتخرج من الجامعة" ، وبعد الثانوية العامة تمت فجأة خطبتها إلى شخص آخر ، ووقفنا نراقب من البلكونة خروجها هي وخطيبها فيما يشبه الزفة عبر ممر العمارة الطوييييل ، وكنت أقف متماسكا مؤجلا دموعي حتى أنفرد بنفسي لأن حبنا كما قلت كان سرا بيننا طيلة تلك السنوات ، فإذا بأمي تربت على كتفي : ماتزعلش يابني ،كل شيء قسمة ونصيب !
ظلت أمي منذ بدأت في الخروج وحدي في المرحلة الإعدادية وحتى صرت رجلا متزوجا ، ظلت تتابع بلهفة وصولي إلى هذا المكان أو ذاك وعودتي إلى البيت سالما .
طيلة سنوات صباي وبدايات الشباب في الأجازة الصيفية كنت أذهب إلى النادي منذ الصباح الباكر وأعود عند منتصف الليل ، ويوميا كانت أمي تجزع لتأخري وحين أعود يستقبلني البواب ومن تبقى حتى تلك الساعة من أصحاب المحلات الموجودة في ممر العمارة ، وربما أمي نفسها بصحبة أحد الجيران (كان أبي خارج مصر ) : كنت فين ياطارق كل ده؟ خضيتنا عليك !!
كان هذا طقس يومي !
لاأدري كيف تدافعت كل هذه الذكريات وهي نقطة في بحر ، فكل ماقصدته حين بدأت في الكتابة أن أكتب سطرا واحدا أو سطرين في ذكرى ميلاد أم ليس كمثلها أم .
رحمة الله عليك يا أمي ، أنا مازلت حتى هذه اللحظة ممسكا بذيل فستانك لا أستطيع أن أفلته .
إبنك
طارق
١٥ يوليو ٢٠١٨
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق