الخميس، 26 سبتمبر 2019

د. جلال أمين .


أعزي وطني العربي وأعزي الفكر الإنساني وأعزي نفسي في واحد من أعز الكتاب والمفكرين إلى عقلي وقلبي د. جلال أمين .
كان لقائي الأول معه عبر كتابه الرائع "ماذا حدث للمصريين" وهو الكتاب الذي لم يكتبه من برج عاجي كأكاديمي وأستاذ بالجامعة الأمريكية ، وإنما بعين مصرية راصدة وغارقة في واقعنا الإجتماعي حتى الثمالة ، وما أن فرغت من القراءة الثانية لهذا الكتاب حتى صرت كالمندوه أسعى وراء كل مانشر له من كتب فأقرأه .
ولما كان من حظي أنني أسكن في ذات الحي الذي يقطنه هذا المفكر الكبير ، بل وعلى بعد شارعين فقط من بيته ، فقد أسعدني الحظ غير مرة بمصادفته في الطريق يسير بجسده الضخم المهيب بخطى النساك والزهاد ، وفي إحدى المرات إستوقفته لأثني على أحد كتبه و أقول له - صادقا - أنني من شدة إعجابي بالكتاب أشتريت عددا من النسخ وصرت أهديها لمن يهمني أمرهم وأمر وعيهم ، فلمعت عيناه واتسعت إبتسامته الودودة وأجابني مداعبا : " يبقى إنت السبب في زيادة توزيع الكتاب " .
بدأت هذه السطور ساعيا إلى رثاء الراحل العظيم ، لكن إبتسامته الطيبة الواسعة وعيناه النافذتان المطمئنتان بالعلم والوعي والرضا وروح الدعابة عنده والتي لمستها بشدة في المرتين اللتين أسعدني الحظ بالتحدث معه فيهما ، فرضت نفسها على الموقف فوجدتني أبتسم ، كما أن تداعيات ذكريات حياته الشخصية على مدار عمره والتي أشركنا فيها جميعا بكل رحابة صدر ونقاء سريرة عبر أكثر من كتاب مثل "ماذا علمتني الحياة ، ورحيق العمر ، بعض هذه الذكريات وتلك المواقف التي رواها بتلقائية وصدق شديدين في تلك الكتب ، بعضها يجعلني في هذه اللحظة أقهقه عاليا حتى تغرورق عيناي بالدموع !
لكني أعود فأستشعر فداحة الخسارة التي وقعت علينا برحيله فيثقل الحزن العميق قلبي ، ثم أسأل نفسي : أليس الموت حق ؟ بلى ، أليس هو المحطة الأخيرة والأكيدة لنا جميعا في هذه الدنيا قبل بدء رحلة الأبدية ؟ بلى .
ففيم إذن كل هذا الحزن ؟ و أين هي الخسارة ؟
الواقع أن الخسارة الحقيقية والفادحة بحق ليست في رحيل رجل عظيم مثل د. جلال أمين ، وما أكثر من رحلوا من عظماء ، وإنما في أن مثل هذا الرجل كان حتى الأمس يعيش بين ظهرانينا - وغيره من العظماء في شتى المجالات - لكنهم يهمشون ويتم التعتيم عليهم وتجاهل علمهم ودراساتهم و طرحهم للحلول فلا تستفيد الأمة من نعمة وجودهم بيننا .
يوما قرأت مقولة فحواها أنه : "من الصعب على ذوي العقول الكبيرة أن يدركوا مدى ما يثيرونه من فزع في نفوس غير الموهوبين "
وقد كان د. جلال أمين عقلا كبيرا بحق ، وأظنه قد أثار الكثير الكثير من الفزع في تلك النفوس الضئيلة .
واليوم يرحل جلال أمين كما رحل عبد الوهاب المسيري وجمال حمدان ورشدي سعيد وأحمد مستجير وسرب طويل من الطيور البيضاء الناصعة لتبقى مصر وأمة العرب أسيرة ضفادع المستنقع حتى إشعار آخر ...

طارق فهمي حسين
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق