السبت، 8 يناير 2022

 تعطيل الدراسة بدعوى سوء الأحوال الجوية ونزع قيمة" الالتزام" من نفوس الأطفال.
=======

أتذكر حين كنت وشقيقتي تلاميذ في المرحلة الابتدائية أن أبي رحمه الله لم يكن يتساهل أبدًا في مسألة التغيب عن المدرسة تحت أي مُبرر.
أحيانًا كان أتوبيس المدرسة يتأخر عن الحضور ليقلنا إلى حد يلوح معه في الأفق احتمال التأخر عن طابور الصباح، فكانت أُمي تتوتر وتوقظ أبي ( الذي بدأ نومه بعد الفجر) لتبلغه بعدم وصول أتوبيس المدرسة،؛ فيهب مغادرا الفراش وينتهي من حمامه وارتداء ثيابه في وقت قياسي ثم يجري مكالمة اعتاد عليها في مثل هذا الموقف - نادر التكرار- كان يتصل بـ  ( شرطة النجدة) ١٢٢ مسجلًا بلاغًا ضد ناظرة وسائق أتوبيس مدرسة النيل القومية المشتركة بالمنيل، ثم يأخذني وشقيقتي في سيارته حتى المدرسة، حيث تركنا لنحضر الطابور إذا أدركناه أو لنسارح إلى اللحاق بفصلينا ويتوجه هو إى مكتب ناظرة المدرسة ليستوضح الأمر!
أتذكر صباح يوم الثلاثاء ٢٩ سبتمبر ١٩٧٠ حين استيقظت فزعًا حيث اكتشفت أن النهار انتصف وأنا بعد في فراشي ولم توقظني أمي بالصخب المعتاد في السادسة والربع صباحًا لأذهب إلى مدرستي الإعدادية؛ جلست في فراشي فزعًا بمعنى الكلمة وأخذت أنادي على أُمي التي دخلت عليّ باكية فاستفسرت منها: " ليه ما صحيتينيش؟ المدرسة! المدرسة!" وفجائني صوتها من بين النشيج" عبد الناصر مات والمدرسة أجازة ثلاثة أيام"...
عشتُ في بيروت جانبًا من سبعينيات الحرب الأهلية، كنا ننام الليل علي أصوات القصف المتبادل وصفير الصواريخ، وفي تمام السادسة صباحًا تمر سيارة البلدية لجمع أكياس القمامة السوداء " النظيفة" محكمة الغلق من أمام البيوت، وبعد ذلك بقليل يبدأ دبيب الحياة في الشوارع والكل يسعى إلى مدرسته وجامعته وعمله، فقط على الجميع تجنب مناطق التماس حيث القنص علي مدار الساعة، وعلى السيارات تجنب الطرق التي تقطعها حواجز " القتل على الهوية" لا أكثر!!! وحين يأتي الشتاء يحمل الجميع " الشماسي"حتى في أكثر أيام الشمس سطوعًا وإشراقًا، ففي بيروت ينقلب الجو في لحظة وتتساقط الأمطار بلا حساب. وأهل لبنان يسمون الشمسية" مطرية" وهو إسم أنسب لأجواء الشتاء هناك حيث تستمر الأمطار الغزيرة على مدار اليوم ولعدة أيام متصلة، ويستمر معها العمل والدراسة... والقصف أيضًا!
في أحد أيام امتحانات نهاية العام بجامعة بيروت العربية ، وأثناء انعقاد الامتحانات اخترقت طائرتان للعدو الصهيوني حاجز الصوت فوق بيروت محدثتين صوتًا إنفجاريًا هائلًا مما أثار الفزع في المدينة كلها وهرع الطلاب مغادرين لجان الإمتحان فارين بأرواحهم مما ظنه الجميع هجومًا ربما " نوويًا" لشدة الصوت، وبعد أن انجلى الأمر وعُرف السبب أعلنت إدارة الجامعة أن جدول الامتحانات مستمر كما هو دون تغيير، أما عن موقف الامتحان الذي انفضت لجانه وقت الحدث فقد قررت إدارة الجامعة التفريق بين حالتين: الأولى الطلاب الذين كانوا قد انتهوا من الإجابة وسلموا أوراقهم وانصرفوا قبل الواقعة فهؤلاء يتم تصحيح أوراقهم كالمعتاد، أما الطلاب الذين غادروا فزعين قبل الانتهاء من الامتحان فقد تحدد لهم يوم آخر في نهاية جدول الامتحانات لإعادة الامتحان ( طبعًا بورقة أسئلة مختلفة)!!!  
في سنتي الدراسية النهائية ، والتي قضيتها طالبًا بجامعة الإسكندرية، كنت أعيش وحدي تمامًا في المدينة الجميلة، وكنت أضبط المنبه ليوقظني في الوقت المناسب لألحق بمحاضرات اليوم، كُل يوم، كنت أستيقظ مبكرًا جدًا حيث يكون أمامي نحو سبعة عشر كيلو مترًا أقود عبرها سيارتي الصغيرة من العصافرة إلى الشاطبي حيثُ تقع الكُلية. لم أُفوت محاضرة واحدة؛ وكان مشهد أبي وهو " يبلغ الشرطة" عن تأخر أتوبيس المدرسة وأنا بعد تلميذ في المرحلة الابتدائية؛ كان هذا المشهد دائمًا يمثل أمامي حين توسوس لي نفسي أن أفوت محاضرة أو يغريني المكوث تحت الأغطية في برد شتاء الإسكندرية القارس والقارص خاصًة أثناء النوّات التي حضرتها جميعًا في ذلك العام، فأهب من فراشي بكل نشاط معتبرًا أن فكرة التغيب خيار غير مطروح من الأصل.
أتذكر أنني في أول نوة حضرتها بالإسكندرية في ذلك العام ركبت سيارتي تحت الأمطار الهائلة واتخذت طريقي المعتاد عبر الكورنيش فكان الأمر شديد الهول. أمطار شديدة الغزارة، ولأمواج تقفز قفزًا من البحر لترتطم بجانب السيارة، والرياح شديدة العنف والسرعة تتلاعب بالسيارة الصغيرة فتطوحها ذات اليمين وذات الشمال بينما ترتفع المياه التي تحركها عجلات السيارة من على الأسفلت على الجانبين حتى أراها من نافذتي السيارة كما لو كنت أقود زورق سريع في البحر!، أما مساحات الزجاج الأمامي فكان تأثيرها علي صعيد إزاحة المياه لإتاحة الرؤية لا يتجاوز تأثير ملعقة صغيرة تقلب سائلًا في كوب!!!
لم أتوقف ، ولم أحاول أن أقفل راجعًا، بل أكملت مستسلمًا لمصيري - فالغياب ليس خيارًا مطروحًا منذ المرحلة الابتدائية كما تعلم جيلي- حتى وصلت إلى الكلية التي اختفت الحركة تمامًا من باحتها، لكن مبانيها وقاعات الدرس كانت تنبض بالحياة والعلم وتعج بالطلاب والأساتذة الذين لم يتغيب واحد منهم ولم تلغ محاضرة واحدة.
أما محافظة الإسكندرية- في ذلك الزمان- فكانت تكتفي، إذا اشتدت النوة - بإغلاق طريق الكورنيش وتحويل المرور إلى طريق جمال عبد الناصر وشارع بور سعيد والطرق البديلة عمومًا.
في بعض سنوات عملي الأولى وقبل أن أتزوج تصادف أكثر من مرة أن تواجد أبي وأمي وشقيقتي جميعًا خارج مصر وبقيت وحدي في القاهرة أذهب إلى عملي بانتظام مستعينًا بالمنبه تارة، وبمكالمة لطيفة من إحدى زميلات العمل يوميًا لتوقظني تارة أخرى.
أعترف أنه في بعض المرات كنت ألجأ إلى استخدام حقي المشروع في الحصول على أجازة" عارضة" من رصيد أجازاتي ، لكني كنت أذهب في اليوم التالي وأنا أكاد أذوب خجلًا من مواجهة رئيسي المباشر حين يسألني: " خير؟ ما جيتش امبارح ليه؟" كان السؤال يأتي لطيفًا أو مؤنبًا حسب شخصية الرئيس المباشر وحسب طبيعة العلاقة بيننا، لكني في كل الأحوال لم أكن أراه في الأساس وإنما أرى أبي وهو ينتفض من فراشه ثم وهو يبلغ الشرطة ضد الذين " كادوا" يتسببون في غيابي عن يوم دراسي واحد. بل أنني كنت غالبًا ما ألحق يوم الأجازة العارضة بيوم ثان حتى وإن زال سبب الغياب فقط كمحاولة لتأجيل المواجهة ، لا مع رئيسي، ولكن مع حقيقة أنني " تغيبت" عن يوم عمل، وذلك رغم أنني كنت دائمًا المرؤوس صعب المراس حتى أنني أزعم أن بعض رؤسائي المباشرين كانوا يتجنبون أي مواجهة أو خلاف معي!
هذه التداعيات من الذاكرة التي سردتها لتوي لم تأت على سبيل الذكريات أو - لا سمح الله - السيرة الذاتية؛ وإنما استدعتها تلك القرارات العجيبة التي أصبحت تهبط عينا مثل قرارات تعطيل الدراسة أو العمل بسبب " سوء الأحوال الجوية"، ولا يدرك مصدروها- أو ربما يدركون ويعمدون- ما ترسخه في نفوس الأطفال والشباب وحتى أولياء الأمورمن استخفاف وضعف الإلتزام، فضلًا عن تأثيرها السلبي على التعليم- إذا كان ثمة تعليم- وعلى عجلة الإنتاج... إذا كان ثمة إنتاج!!!

                                              طارق فهمي حسين
                                              ديسمبر ٢٠٢١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق