الأحد، 11 أغسطس 2024

 #المقاطعة

#قاطعوا_يرحمكم_الله

==============

ملاحظات حول المقاطعة:

١- مقاطعون ولكن!

في الايام القليلة الماضية، وخلال بعض الزيارات الاجتماعية لاحظت ما يلي:

في إحدى الزيارات وجدت على المائدةً مشروبا غازيا من منتجات إحدى الشركات الموجودة على قائمة المقاطعة واعلنت استنكاري فاجابتني اخت غالية ، ضيفة مثلي ، بأنها هي من أحضرت هذا المشروب وليس أهل البيت فأبديت دهشتي الشديدة لعلمي بأنها من أشد المتحمسين للمقاطعة؛ فأجابتني بابتسامة اعتذارية بأنه: "أصلي باحب المشروب ده قوي" !!!

——————

 في زيارة أخرى لصديق دائما ما يتعامل مع القضايا الوطنية والقومية بحماس شديد بل ويعتبرها قضايا شخصية حتى أنه كثيرا ما يشكو من ارتفاع ضغط الدم بسبب انفعاله بالأحداث العامة؛ أيضا وجدت على مائدته مشروب النعناع المخلوط بمياه غازية، وهو مشروب لذيذ الطعم بكل تأكيد، ولا أدري لماذا استفسرت عن نوع " الصودا ليمون" المخلوط مع النعناع، رغم علمي الأكيد بحماس هذا الصديق لحملة المقاطعة، ففوجئت بأنه بالفعل أحد المشروبات التي تنطبق عليها المقاطعة! سألته معاتبا: ليه؟ فأجاب بأنه استثنى هذا المشروب لكونه الأفضل لصنع مشروب النعناع المخلوط بالصودا!!!


عزيزي المقاطع، عزيزتي المقاطعة: 


المقاطعة استغناء تام طالما لا نتحدث عن الدواء والعلاج ( أيضا في حال عدم وجود بديل)، فإذا لم يوجد بديل محلي ( أو صيني أو تركي أو ماليزي أو أندونيسي أو لبناني أو تونسي أو أسباني أو إيرلندي أو… إلخ) لمشروبك المفضل أو وجبتك السريعة أو مسحوق غسيلك أو معجون أسنانك المفضل أو غيرها فلتستغني عنه تماما، وإذا كنت تجد صعوبة وضعف إرادة عن الاستغناء، فتذكر أن أهلنا في غزة أطفالا ورجالا ونساءا استغنوا- مجبرين- عن كسرة الخبز وجرعة الماء بل وعن أرواحهم ذاتها ( نحو أربعين ألف شهيد حتى الآن) تحت وطأة حرب الإبادة الصهيونية المدعومة من كوكاكولا وبيبسي كولا وستاربكس وماكدونالدز وأمازون وغيرها علنا ، فلا أقل من أن نتوقف عن تمويل ممولي قتلة أهلنا وفلذات أكبادنا، وهذا أضعف الإيمان.

————————-

٢- غير مقاطعين!

هؤلاء ( غير المقاطعين) ينقسمون ، بعد استبعاد المتصهينين وذوي الجلود السميكة والدم البارد، إلى فئتين:

فئة المعتقدين في عدم جدوى المقاطعة وأنه لا تأثير لها على أرباح ونشاط تلك الشركات.

 وفئة الرافضين لمبدأ المقاطعة حرصا - في ظنهم- على أقوات وارزاق المصريين العاملين في المصانع والمحلات المحلية لتلك الشركات الأجنبية!

للفئة الأولى أقول: 

أحيلكم إلى الأخبار والتقارير العالمية شبه اليومية حول خسائر بعض تلك الشركات وانخفاض أرباح بعضها، وتدهور أسهمها بالبورصات العالمية، بل وانسحاب بعضها من دول بكاملها نتيجة المقاطعة، والتي أذكر بأنها ليست مقصورة على " بعض" البلاد العربية وإنما تشمل المقاطعة العديد من شعوب العالم بما في ذلك بعض دول منشأ تلك الشركات نفسها ( ممن ليسوا عربا ولا مسلمين)، لذا فأتمنى عليهم إعادة النظر في موقفهم؛ بل وازيد أنه حتى لو سلمنا جدلا أن المقاطعة غير مجدية، والأمر ليس كذلك كما أسلفت، فلنقاطع علها تكون حجة لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون.


أما الفئة الثانية:

فدعونا نتذكر معا، وبعيدا عن المقاطعة، ما الذي حدث حين توقفت سلسلة مطاعم ومبي ( الاصلية) على مستوى العالم، أو الذي حدث - في زمن أحدث- حين أغلقت راديو شاك فروعها( أكثر من ١١٠٠ متجر في الولايات المتحدة وحدها).

ما الذي حدث في الحالتين؟ (كمجرد امثلة) 

هل تشرد العاملون بفروع ومبي أو راديو شاك في مصر؟

لم يحدث، بل استمرت كل الفروع في العمل بما تملك من مقرات ومعدات وخبرات العاملين بها، البعض غير الإسم أو " حوره" واستمر، فشهدنا مطعم " وهبي " الزمالك، واستمر ومبي مدينة نصر حاملا نفس الإسم لسنوات طويلة بعدها( والمعترض يورينا نفسه!) ، والبعض حصل على توكيل آخر في نفس المجال ( كوك دور هدى شعراوي كمثال)، وفي الحالة الثانية شهدنا مثلا " راديو شاكر" في شارع ٩ بالمعادي، والذي عدل الإسم مرة ثانية فعاد إلى راديو شاك لكن بعد حذف حرف ال C فأصبح 

 Radio shak !

 وغيرها من وسائل " التحايل على المعايش" التي لا تخلو منها جعبة الشعب المصري المدهش والمحير معا.

بالطبع كنا نحلم بمقاطعة رسمية تقوم بها الدولة كشكل من اشكال مساندة شعبنا الفلسطيني في حرب الإبادة التي تمارس ضده، لكن هذا الحلم مدفون منذ عقود في منشية البكري.

كما كنا نحلم حلما أكثر تواضعا بأن تقوم الراسمالية الوطنية المصرية من جانبها بالمقاطعة فتقوم بفسخ عقود وكالتها لتلك الشركات الداعمة للصهيونية والاستمرار في النشاط بمنتجات بديلة، لكن هذا الحلم ايضا مدفون منذ عقود في قبر كتب على شاهده: "هنا يرقد تحالف قوى الشعب العامل"، كما أننا في زمن رأس المال الذي لا وطن له( ولا دين ولا ملة)، ولعلي أتواضع بالحلم إلى مستوى مناشدة أصحاب المطاعم ومحال البقالة والأكشاك المشاركة في المقاطعة بعدم عرض تلك الأصناف من الأساس، لكن الواقعية تقتضي - على الأقل- التأكيد على المقاطعة الفردية على طريقة المقاومة اليدوية للآفات الزراعية ، والتي كانت دائما الوسيلة الأفعل والأسلم للقضاء على تلك الآفات.

قاطعوا يرحمكم الله.


                  طارق فهمي حسين

                    أغسطس 2024

الثلاثاء، 23 يوليو 2024




حضرت في الإسبوع الماضي العرض المسرحي الرائع والمُختلف " أوبرا العتبة"، ذهبت، وزوجتي، إلى مسرح الطليعة تدفعنا تجربة سابقة ناجحة، بل عظيمة النجاح، مع الأداء التمثيلي لفنانة المسرح الشابة الراسخة دعاء حمزة حين شاهدناها منذ بضع سنوات- ولأكثر من ليلة عرض- في العرض المسرحي " مفتاح شهرة" والذي كان من تأليفها وإخراجها أيضًا، فضلا عن التمثيل أمام الفنان ،عظيم الموهبة، عماد اسماعيل.
إذًا فقد ذهبنا إلى هذا العرض بوصفنا من " مُريدي" الأداء التمثيلي لدعاء حمزة، والتي لم تخذلنا بل واصلت إبهارنا بقوة وبساطة الأداء الفاهم الواعي للشخصية وأزمتها ومكانها في العرض بل والمجتمع.
لكن لم يكن هذا كل ما في الأمر، إذ توالت الهدايا متمثلة في كل عناصر العرض من نص رائع ، وأتردد في استخدام تعبير " نص" فهو- إن حاولت تحري الدقة- رؤية نافذة ذات بعد فلسفي لا يخلو من مرارة ممزوجة بالسخرية لما آل إليه حال المجتمع المصري في وقتنا الراهن. حيث استطاع المخرج- العبقري بالمناسبة- هاني عفيفي، والذي هو ذاته صاحب النص/ الرؤية أن يمسك بتلابيب هذا المجتمع المأزوم ويطرحه بقوة على خشبة مسرح الطليعة، وممسكًا باليد الأخرى بتلابيب جمهور العرض واضعًا كلا منهما- العرض والمتلقي - في مواجهة الآخر كما المرآة التي تكشف ولا تجامل!
لو افترضنا أن هيئة المسرح أتت بأعظم كتاب ومخرجي العالم لزيارة ميدانية لمنطقة العتبة، والتي تحاصر فيها جحافل بائعي الفرشات العشوائية السيارات والمارة ومسارح الطليعة والعرائس والقومي، وطلبت منهم أن يصنعوا عملًا مسرحيًا يعبر عن هذه الحالة السريالية؛ لما استطاعوا مجتمعين أن يأتوا بما أتى به هاني عفيفي ومجموعة المبدعين الذين صنعوا معًا هذا العرض الجميل المرير الضاحك! بل أن هذا العرض اتخذ من هذه الحالة المحيطة بالمسرح بوابة رحبة للنفاذ إلى أزمة المجتمع المصري ككل بمثقفيه وفقراءه وطبقته المتوسطة ومغتربيها سعيًا وراء الرزق، بل ودجاليه أيَضا من تجار الفن الرديء. ولم يسقط العرض في خطيئة التعامل مع حالة الفوضى السوقية بسطحية وإدانة متعالية، وإنما كشف لنا عبر جمل قصيرة وسريعة على لسان هذه الشخصية أو تلك عن المآسي المعيشية التي تكمن خلف كل واحد منهم وتدفعه ليكون جزءا من هذه الحالة العبثية.
على مستوى " فن المسرح" فإن العرض المسرحي " أوبرا العتبة" جدير بأن يتم تدريسه في أرقى معاهد وأكاديميات المسرح كنموذج شديد التميز لأمور عدة منها على سبيل المثال الوصول إلى أقصى حالات الإبهار والإمساك بتركيز المشاهد على مدار العرض عبر تسخير كل ما هو معروف ومصطلح عليه من عناصر العرض المسرحي من إضاءة وموسيقى وديكور وحركة ممثلين في ظل أقل إمكانيات متاحة، فهذا عمل مسرحي أنفق عليه بسخاء من جهد وأعصاب وإبداع إنساني بما يفوق بكثير جدًا ما أتيح له من " ميزانية" مالية، وأقول هذا- ليس من واقع معلومة ما- وإنما بخبرة عين تشاهد كل أنواع المسرح على مدى ستة عقود من الزمان وربما أكثر قليلًا.
منها أيضًا أن هذا العرض نموذج وترجمة ناجحة جدًا لمقولة " سقوط الحائط الرابع" المعروفة لدى المسرحيين، فهاني عفيفي وكتيبة الموهوبين الذين معه لم يسقطوا الحائط الرابع فحسب، بل أسقطوا - ومنذ اللحظة الأولى - كل الحوائط والحواجز بينهم، وما يبدعون، وبين جمهور الصالة حتى لا يكاد المشاهد أن يتيقن من أن جاره في الكرسي المجاور مشاهد مثله أم أحد ممثلي العرض؟! بل أن العرض أسقط حتى الأسوار الخارجية للمسرح وفتح تيارًا من التفاعل والتفهم للحالة التي تبدو جنونية خارج المسرح، ولم يأت هذا على سبيل استعراض عضلات المخرج أو حتى مجرد الاختلاف، بل جاء في خدمة العمل تمامًا ولو تم إخراج هذا العرض بشكل آخر لما أوصل رسالته المنشودة ولا جمالياته الفنية.
أما عن التمثيل، فحدث ولا حرج، وإن كنت -للأسف- لا أملك من أسماء الممثلين سوى الرائعة دعاء حمزة التي أدت دورها ببساطة واقتدار وعميق فهم للشخصية وأزمتها وأحلامها المأزومة والمؤجلة ، والفنان الجميل صاحب الحضور المسرحي اللافت محمد عبد الفتّاح( كالابالا) وإن كنت أهمس في أذنه بحب وإعجاب أن " يراجع قليلًا قراءته العربية الفصحى، وإن كان ذلك لم يعطل كثيرًا حضوره المسرحي ونجاحه في تجسيد شخصية المثقف المأزوم والمحاصر.
أما باقي الممثلين، والذين أبدعوا جميعًا وإلى أقصى مدى، فقد شاءت سياسة إلغاء بند الدعاية في مسارح الدولة أن أظل جاهلًا بأسمائهم، وإن كنت- وكل من يشاهد العرض- لا أجهل ولا أتجاهل أبدًا مواهبهم المتقدة وجهدهم الرائع على خشبة مسرح الطليعة وبين أروقته وحتى ساحته الخارجية، بما في ذلك مطرب ومطربة الأوبرا الرائعين والذين يسبقا بداية العرض بأداء غنائي أوبرالي مبهر في ساحة المسرح الخارجية، وكان هذا أيًَضا جزءًا عبقريًا من براعة الإخراج لهذا العرض الذي يتسق تمامًا مع إسم ورسالة مسرح" الطليعة".
أخيرًا مشهد الختام جاء بمثابة تتويج وتكثيف بديع لكل التصاعد الدرامي الذي نسجه العرض فجاء بمثابة لوحة تشكيلية مرسومة بالممثلين والديكور والإكسسوارات جديرة بأن تعلق في أعظم متاحف العالم.
====
كنت، وزوجتي، قد خضنا أهوالًا في الوصول إلى مسرح الطليعة عبر خضم بحر الباعة العشوائي المحاصر للمنطقة، وبعد العرض خضنا ذات الطريق وسط ذات الباعة، لكن الأمر اختلف في طريق العودة حيث سادتنا حالة من التصالح والتفهم لدوافع وخلفيات هؤلاء المئات المدفوعين دفعًا لهذه الحالة السريالية المريرة، لكننا لم نتخلص بالتأكيد- ولا يجب- من السخط على من دفعوا بالوضع كله إلى هذا التردي وبقلب القاهرة إلى هذا القُبح، هذا التصالح والتفهم الذي عدنا به ، مختلفين عما جئنا به، هو التغيير الذي صنعه عرض مسرحي نبيل كأوبرا العتبة في نفوس مشاهديه حين نجح في رصد الحالة وتفسيرها وكشف ما ورائها من أزمات.
طارق فهمي حسين
يوليو ٢٠٢٤
==========
أكثر من أربعة عقود من الشعر الصادق الجميل؛ ومثلها من الإخراج المسرحي المتمكن تُطِل علينا من خلف هذا العنوان" مش روميو وچولييت"، وأعني بذلك الكبيرين الشاعر أمين حدّاد والمخرج المسرحي عصام السيد، واللذان أرى أن التعاون بينهما في هذا العمل المسرحي الكبير هو أهم حدث مسرحي، ورُبما أهم حدث ثقافي بالمعنى الأوسع خلال السنوات الأخيرة.
" مش روميو وچولييت" هي - ببساطة - عودة عِملاقة، دون أدنى مُبالغة للمسرح الغنائي في مصر، وأقصد هنا " المسرح الغنائي " بمفهومه وتعريفه، وليس مجرد عمل مسرحي تتخلله أغاني. لذا، ودون أدنى مُبالغة أيضًا، فأعتقد أن هذا العرض هو نقلة مفصلية في تاريخ المسرح الغنائي، وسوف يتم التأريخ به للفصل بين مراحل تطور فن المسرح- الغنائي بالتحديد- في مصر، فيكون الحديث عن " ما قبل" و" ما بعد" مسرحية " مش روميو وچولييت".
بأمانه لا أستطيع أن أُحدد من أين أبدأ؟ الموضوع أم صياغته الشعرية والغنائية أم الاستعراضات أم أداء الممثلين، أم المايسترو، أقصد المُخرج، الذي صاغ كل هذه العناصر في هارموني مسرحي مُدهش.
نجح هذا العمل الكبير في تناول قضية شائكة من قضايا مجتمعنا بمُنتهى البراعة والوعي والإدراك للحساسيات المُعتادة التي يُثيرها تناول هذا الموضوع بالذات، كما تجنب الكليشيهات المُعتادة تمامًا وتقافز برشاقة فوق حقل الألغام دون أن يُفجر لغمًا واحدًا منها، وقد يبدو هذا الكلام غامضًا وغير مفهوم لمن لم يشاهد العرض بعد، لكني أفضل ذلك على " حرق" الموضوع حتى لا أُفسد مُتعة مشاهدة العرض لمن يقرأ سطوري قبل المُشاهدة.
كما ذكرت القضية شائكة لكن التناول شديد النعومة خاليًا من القوالب سابقة التجهيز، والمعتادة، وحتى النبرة الخطابية لم تكن حاضرة إلا في حدود الضرورة كما أنها كانت تأتي مُبررة ومنطقية حين تجري على لسان مُدرس أو مُدرسة يخاطب كلا منهما تلاميذه، فهي إذًا في موضعها بالضبط وفي سياقها الدرامي تمامًا.
الأشعار والأغاني والحوار الموقّع التي أتت جميعها من جُعبة أمين حدّاد، وما أدراك ما أمين حدّاد، لم يكن من الممكن أن تكون أجمل ولا أسلس ولا أنسب مما جاءت عليه في خدمة الفكرة والدراما المسرحية، أشعار وأغاني وحوار كُتبت ليحفظها الناس من مشاهدة واحدة للعرض، ولتُشكل حِكم وقوانين وأقوال مأثورة ستصبح مرجعًا حين يتم تناول هذه القضية على أي مستوى سواء فنيًا أو خارج إطار الفن وساحاته، ولعلي - كقارئ لجُل ما كتب أمين حدّاد من شعر ونثر- أُدرك سر هذا النجاح في الصياغة الشعرية لهذا العرض، حيثُ أن الرسالة التي يحملها العرض تتطابق تمامًا مع قناعات الشاعر نفسه كشاعر ومواطن مصري عميق الفهم والحب لوطنه، فلم يكتب أشعار هذا العمل مُتكئًا على صنعة أو حِرفيّة ( وهو يمتلك ناصيتهما تمامًا) وإنما كتبها بمجامع الإحساس والإيمان برسالة العرض ومضمونه، أما الصنعة والقافية والتفعيلة وما إلى ذلك من أدوات الشعر فهي - مع أمين حدّاد- تحصيل حاصل وتجري من قلمه على الورق جريان الدم في العروق... " باغني زي ما باتنفس" على رأي مولانا فؤاد حدّاد.
أما موسيقى وألحان أحمد شحتوت واستعراضات شيرين حجازي، فمن العبث محاولة وصف جمالهما وتماهيهما مع الأشعار والدراما وكل عناصر العمل، هذه الألحان وتلك الاستعراضات تُسمع وتُشاهد ولا توصف، هل يمكن مثلًا أن تصف لأحد مذاق الشهد؟ عليه أن يذقه فقط ليدرك عذوبته. هكذا فقط أكون قد نجحت في وصف الموسيقى والألحان والاستعراضات.، ومع ذلك يمكن القول بأن الألحان انطلقت من فهم عميق للطبيعة المُتفردة لأشعار أمين حدّاد ومُفرداته غير المألوفة فكانت الكلمات والموسيقى يدفع كلاها الآخر إلى آفاق بعيدة من التحليق المُبهج الذي تطرب له الأُذن دون أن تغفل عن المعنى، كما أن سلاسة الألحان جعلت الغناء جميلًا ومُمكنًا لكُل المُمثلين المُشاركين في العرض بمستوى عال من النجاح ، خاصةً وهم يتشاركون الغناء والحوار المُغنى مع الفنّان الكبير علي الحجّار ، وما أدراك ما صوت على الحجّار!
نجحت استعراضات شيرين حجازي (والتي لا توصف بل تُشاهد) في تحريك هذا العدد الكبير من المُمثلين والممثلات/ الراقصين والراقصات برشاقة وجمال وانسيابية مُبهجة، ودرامية أيضًا، على خشبة المسرح القومي الصغيرة نسبيا، دون أدني ارتباك أو تزاحُم حتى صارت خشبة القومي في رحابة خشبة المسرح الكبير لدار الأوبرا من حيثُ لا ندري!
تحاشيتُ أن أستخدم في الفقرة السابقة تعبير" المجاميع" فهو تعبير ظالم لباقة الشباب والبنات الذين كانوا مِلح العرض تمثيلًا ورقصًا وغناء، ورغم العدد وجماعية الأداء لكنك تستطيع أن تلمح شخصية كل فرد منهم في إيماءاته الخاصة وإفيهاته المُختلفة فكانوا كالفُسيفساء في لوحة كبيرة جميلة عامرة بالتفاصيل التي يملك كل منها جماله الخاص.
قبل أن أشاهد العرض كنت متشككًا في دقة اختيار الفنان الكبير علي الحجّار مع الفنانة الجميلة رانيا فريد شوقي بسبب فارق السن الذي لا يخفى على أحد، ذلك أني افترضت أنهما غالبًا سيؤديان دور حبيبين، رغم أن عنوان المسرحية يُنبه إلى أن: " مش روميو وچولييت" وهذا في حد ذاته إيفيه " عالي جدًا واختيار عبقري لتسمية العرض.
تبينت خطأ تقديري حين شاهدت علي الحّجار يعتلي خشبة المسرح فتشتعل الصالة حماسة، أما حين بدأ يشدو بصوته الماسي، فحدِث ولا حرج، وماذا عن الأداء التمثيلي؟ جاء تاريخ علي الحجّار المسرحي، وليس الغنائي فقط، وخبراته وحضوره والتيار الساري بينه وبين الجماهير خير مُفتاح للنجاح وحتى للتغاضي عن قدر - غير ملحوظ بشكل كبير- من إيقاع الحركة المُختلف بعض الشيء عن إيقاع حركة باقي المُمثلين ، وإذا وضعنا هذه الملحوظة في كفة ميزان مُقابل كل هذا الحضور والأداء التمثيلي السلس والصوت الغنائي المُتفرد والمتربع في وجداننا لعقود؛ لو فعلنا ذلك لاختفت تمامًا تلك الملحوظة وبقيت حقيقة أن وجود الفنّان علي الحجار في هذا العرض أحد العوامل الأساسية ( وهي كثيرة) لنجاح وجماهيرية العرض.
رحم الله العظيم فريد شوقي الذي بادل جمهوره العريض حُبًا بحُب حتى أنه لم يكتفي بأن يترك لجمهوره إرثًا فنيًا عريضًا وعظيمًا، وإنما أهدى جمهور السينما والمسرح أغلي ما عنده، وأعني الجميلة رانيا فريد شوقي، والتي - رغم أنها تمتلك رصيدًا فنيًا ومسرحيًا كبيرًا- كانت في هذا العرض وجهًا مسرحيًا جديدًا تمامًا، ما كُل هذا الحضور والقبول والخفة واللُطف والألق! فقط، طبقًا لما شاهدتُ في ليلة الافتتاح رُبما أنصح الماكيير بأن يخفف بعض الشيء من وضع المساحيق علي وجه الفنانة رانيا، ألم تُلاحظ يا سيدي الماكيير تلك الإضاءة الذاتية التي يتمتع بها هذا الوجه الجميل؟!
ميدو عادل طاقة مسرحية كبيرة جدًا ويكاد يتحرك على خشبة المسرح مُغمض العينين، يعرف كيف ومتى ينفعل، وكيف يُغالب انفعاله وُيعطي كُل جُملة التون المناسب لها، أما الفنّان المُعاد اكتشافه عزت زين فهو مكسب كبير لجمهور المسرح، ورغم فارق السن فقد كان يُجاري شباب المُمثلين خفة وحركة على نحو مُدهش.
إلى هُنا ونفذت حصيلتي من أسماء نجوم العرض تمثيلًا وغناءً، فكالعادة الجديدة لا يوجد أفيش أو " بامفلت" يحمل صور المُمثلين مقرونة بأسمائهم، وإن كنت قد التقطت من هنا وهناك بعض أسماء المُتألقين مايكل سيدهم وأميرة أحمد وطه خليفة ودينا النشّار، وأعتذر لباقي الشباب والشابات المشتعلين موهبة وتألق في هذا العرض والذنب ليس ذنبي ولكنه ذنب " وزارة المالية" (نعم المالية وليست الثقافة) التي علمت أنها أوقفت بند الدعاية!!!
قد يستوقفني قارئ لسطوري مُنبهًا إلى أنني لم أتطرق لذكر أهم صُناع هذا العرض المسرحي الكبير بل وصاحبه الأول ألا وهو المُخرج الكبير بحق الأُستاذ عصام السيد، ولهذا القارئ أقول بل أعد قراءة سطوري فستجد مُخرجنا الكبير موجودًا في كُل السطور ، وهذا بالضبط ما نجح فيه عصام السيد - كالعادة- على خشبة المسرح إذ أمسك جيدًا بكُل خيوط عناصر العرض، وفي ذات الوقت أخفاها فجعل الجمهور وكأنما يُشاهد حياة حقيقية وأحداثًا واقعية تدور وكأننا شهود عيان على قضية مجتمعية - حقيقية بالمناسبة- عالية التوتر بينما تجري حوادثها في إطار غنائي موسيقي ناعم ومُبهج وضاحك أيضًا في مُفارقة عظيمة لا يصنعها إلا مسرحجي كبير وعتيد كالأُستاذ عصام السيد ، الذي وجد المسرح الغنائي أخيرًا ضالته فيه وفي الشاعر أمين حدّاد وفي هذه الكيمياء التي من الواضح أنها جمعت بينهما في هذا العمل الفريد، والتي نجحت في إخراج المسرح الغنائي الجاد والمُبهج معًا من غفوته وإعادته نابضًا بالحياة على خشبة المسرح القومي العتيد، وأتمنى - وكُل مُحب للمسرح- أن تكون هذه بداية لتعاون مُستمر بين هذين الكبيرين لصُنع غد مسرحي مشرق .
طارق فهمي حسين
يونيو ٢٠٢٤
تكرارًا لما ذكرت في مقال سابق:
- لماذا لا يعتمد المسرح القومي نظام حجز التذاكر " أونلاين" بالإضافة إلى شباك التذاكر؟
- ولماذا لا يتم ربط استمرار موسم العرض المسرحي بالإقبال الجماهيري وليس بأمور إدارية روتينية؟

الخميس، 20 يونيو 2024

الأرتيست.

=========

أسعدني الحظ هذا الشهر بحضور العرض المسرحي الجميل " الأرتيست" على خشبة مسرح الهناجر، فأسعدني كل ما شاهدت في تلك الليلة المسرحية العظيمة. عرض مسرحي على أعلى مستوى نصا وإخراجا وتمثيلا وموسيقى وإضاءة وديكور، أي ان كل عناصر العرض المسرحي الجيد والناجح كانت متحققة في هذا العرض، بل أن كل تلك العناصر كانت تتبارى في الحصول على لقب " نجم العرض" فنجحت جميعها في أن يكون العرض ككل نجما مسرحيا مضيئا لم يخفت ضوءه لحظة واحدة طوال مدة العرض.
كنت أتمنى ان اكون ناقدا مسرحيا متخصصا يمتلك أدواته حتى أستطيع أن أتحدث عن كل من عناصر العرض على حدة مبينا مواطن الجمال فيه، ومتحدثا عن دوره في خدمة الدراما وإثراء العرض، لكني مضطر بالطبع للاكتفاء - إلتزاما بمحدودية إمكانياتي- بذكر انطباعاتي كواحد من عموم المشاهدين.
دون " حرق" للعرض فهو ينطلق من موقف حقيقي لعل بعضنا يتذكره حين اتصلت رئاسة الجمهورية بالفنانة الكبيرة زينات صدقي عام ١٩٧٦ لإخطارها بأنه سيتم تكريمها في عيد الفن في ذلك العام، ثم تدور أحداث المسرحية في الأيام القليلة السابقة على موعد التكريم، والذي يفجر ذكريات الفنانة الكبيرة ، وببراعة ملفتة يعتمد المخرج محمد زكي، والذي هو ذاته صاحب النص، إسلوب الفلاش باك مستعرضا مشوار حياة العظيمة زينات صدقي متنقلا بين مراحل مختلفة في مشوار العمر وبين الحاضر الذي تدور فيه استعدادات الفنانة والمحيطين بها من محبيها وأفراد أسرتها ليوم التكريم المنتظر.
ومابين عذوبة النص وبراعة الإخراج وتميز الدور الجمالي والوظيفي معا لكل من الإضاءة والموسيقى والديكور والملابس يأتي الأداء التمثيلي تتويجا لكل هذه العناصر على أيدي " سرية "من الموهوبين، ليس فقط في فن التمثيل، وإنما أيضا في براعة الوقوف والحركة على خشبة المسرح بوعي وفهم وحب حقيقي لفن المسرح. تتقدم هذه السرية الفنانة هايدي عبد الخالق التي نجحت في استحضار روح زينات صدقي على خشبة المسرح دون أن تقع في فخ التقليد الكاريكاتوري ، وكذا دون أن تطمع في محاكاة كاملة لأداء وخفة ظل زينات صدقي الإسطوريين فكانت الواقعية وحسن الإدراك مفتاح هايدي عبد الخالق للنجاح الكامل في أداء الدور.
أما الفنانة، أو " الأسطى" فاطمة عادل كما أحب دائما أن أصفها؛ فهي بحق، وبلغة قدامى أهل الفن، أسطى في فن التمثيل وعالم الغناء والطرب معا، فصالت وجالت تمثيلا وغناءا على خشبة المسرح ، التي أعتقد أنها تبادل فاطمة عادل حبا بحب فتمنحها حضورا وألقا بقدر ما تغدق عليها فاطمة من جهد وموهبة، كنت أتمنى أن أذكر مجموعة الممثلين كل بإسمه حيث كانوا جميعا- دون استثناء واحد- على أجمل ما يكون من أداء ووعي وفهم لأدوارهم ولفن المسرح كما ينبغي أن يكون، لكن ما منعني هو أنني لم أجد أفيش واحد أو " بامفلت" يذكر أسماء الممثلين مقرونة بصورهم! ولا أدري ما الحكمة في ذلك، خاصة أن معظم أبطال العرض من الشباب الذين مازالوا في بداية الطريق ويستحقون - بجدارة مواهبهم- أن يعرف الجمهور كل منهم بإسمه، عموما كلهم بالفعل كانوا متميزين، لكن مثلا لفت نظري بشدة الشاب الذي أدى دور " سيد" شقيق زينات صدقي ( في مرحلة الصبا).هذا الممثل تحديدا كان كالفراشة على خشبة المسرح، حتى أنه كان يؤدي دوره دون حذاء في قدميه وكأنه يؤكد قداسة المسرح في وعيه أو حتى لا وعيه! هذا الممثل يمتلك مقومات أداء شتى أنواع الفن المسرحي من الكلاسيكي إلى البريختي إلى الاستعراضي، وما لا أعرفه من تصنيفات المسرح، وبنفس مستوى البراعة، في ظني الشخصي المتواضع.
ملاحظة أخيرة بخصوص هذا العرض الجميل هي أنه ذكرني في بعض مشاهد وتيمات بعرض مسرحي بديع كنت قد شاهدته ( عدة مرات) منذ بضعة سنوات وهو الديودراما الجميلة" مفتاح شهرة" من تأليف وإخراج وتمثيل متعددة المواهب دعاء حمزة والموهوب الكبير عماد إسماعيل، والتأثير والتاثر وتوارد الأفكار و" التناص" وكل هذه المصطلحات أمر وارد بالتأكيد، وقد يصل في بعض الحالات إلى حد اختيار ذات الأغنية/ المونولوج التي اختتمت بها " مفتاح شهرة" لختام " الأرتيست أيضا ! لكن هذا بالتأكيد لا ينتقص من قيمة وجمال هذا العرض المسرحي البديع وإنما هي فقط مجرد ملاحظة لا أكثر، فتحية لصناع العرض المسرحي الجميل " الأرتيست" وتمنياتي بأن يتم مد العرض لأيام بل وشهور طويلة حتى يتاح لأكبر عدد من المشاهدين حضوره خصوصا وأن الصالة كانت كاملة العدد على مدار جميع أيام العرض القليلة جدا. فحتى زمن قريب كان تعبير " الموسم المسرحي " يعني غالبا بضعة شهور كموسم صيفي ومثلها كموسم شتوي، فما الذي حدث حتى يقتصر " الموسم الأول" لعمل بهذا الجمال على إسبوع ( ويتم مده ليومين إضافيين فقط) ثم ندخل في " الموسم الثاني " الذي يقتصر على أربع ليال فقط !!!
الفن يا مسئولي الفن لا يجب أن يعامل بمعايير الروتين وبنود الميزانية التي " لا تسمح" وما إلى ذلك، بل يجب أن يكون تحديد استمرارية أي عرض من عدمه مرتبطا بالإقبال الجماهيري، كما يجب أن يتم تصوير العروض الناجحة تلفزيونيا على الاقل للتوثيق المستحق والواجب.
أمر آخر: لماذا لا يتم حجز التذاكر عبر الإنترنت بالإضافة إلى شباك التذاكر التقليدي تيسيرا على الجمهور خاصة في هذا الجو الحار؟ ولماذا لا يتفضل القائمون على مسرح الهناجر بترقيم المقاعد وحجز التذاكر على هذا الأساس بدلا من الفوضى والتدافع في دخول الجمهور، وتخفيفا أيضا على موظفي المسرح الذين يبذلون جهدا بدنيا وعصبيا كبيرا للحفاظ على النظام في الدخول، والذين أوجه لهم كل التحية والاحترام على هذا الجهد وأيضا على اللياقة واللباقة في التعامل مع كل هذا الزحام الذي قد يكون ترقيم المقاعد حلا بديهيا له.
أخيرا: اليوم الخميس ٢٠ يونيو هو ليلة العرض الأخيرة في هذا " الموسم الثاني" للمسرحية البديعة " الأرتيست" لذا أقترح على كل محبي الفن الجميل الحرص على مشاهدة العرض اليوم، فلا نعلم متى " يسمح البند" بموسم ثالث ربما قد يتكون من ليلة واحدة مثلا! ورحم الله مولانا فؤاد حداد الذي نبهنا إلى أن " الدنيا الدواويني عجيبة!!!

طارق فهمي حسين
يونيو ٢٠٢٤