السبت، 26 مايو 2018

الحُب الأول ومزاعم إحسان !

الحُب الأول ومزاعم إحسان !
======




صباح الخير
اليوم ١٥ / ٤ 
في مثل هذا اليوم منذ عقود طويلة أمسك صلاح طالب كلية التجارة بقطعة من الحجر الطباشيري و كتب بها إسم محبوبته سميحة طالبة الثانوي و إسمه على أحد الأعمدة الأثرية بصحراء مصر الجديدة و غنى لها أعذب الكلمات و الألحان ، لكن كل هذه المشاعر التي جاش بها قلب صلاح الغض ، و كل تلك العذوبة و الجمال الذي يطل من خلف عيون سميحة البريئة الساحرة ... كل ذلك لم يشفع لهذا الحب البكر لدى الكاتب إحسان عبد القدوس رغم الرومانسية التي بها اشتهر ، فأصدر من برجه العاجي حكما جائرا على حب سميحة و صلاح بالفشل ، و لم يكتف بذلك بل أصدر " قانونا" ما أنزل الله به من سلطان حين اقترف مقولته الشهيرة :"في حياة كل منا وهم كبير إسمه الحب الأول "!
و كنت أفضل أن يترك لنفسه خط رجعة ما فيقول مثلا :"في حياة البعض " لكنه أبى إلا التعميم المخل و كأنه لمجرد أنه كاتب بارع كثيرا ما رصد بصدق أدق المشاعر الإنسانية ، قد امتلك ناصية الحقيقة المطلقة فكان حكمه هذا الجائر .
لكن شابا صغيرا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي جلس على دكة خشبية تطل على بحر الأسكندرية الساحر عند شاطيء ميامي و صرح إلى إبن عمه و ابن جيله الجالس إلى جواره بكل سخط و ثقة مهاجما إحسان عبد القدوس بأن : ما تصفه أيها الكاتب الكبير بأنه وهم كبير هو الحقيقة الأولى ، و أحيانا الوحيدة ،في حياة الكثيرين .
منذ ذلك اليوم و بسبب ذلك التصريح تراجعت و لو قليلا مكانة إحسان عبد القدوس كأحد أمراء الرومانسية العالمين بخفاياها و أسرارها ، أمام فتى عشريني غر يجلس مواجها البحر و يملك قلبا ينبض و فطرة لم تكن قد علقت بها أية شوائب .
المجد لسميحة و صلاح و لكل سميحة و لكل صلاح و المجد للحب الأول سواء توج بالوصال أو سقط صريع الفراق لكنه يبقى أبدا لحظة الميلاد الحقيقية لقلوب تتهيأ لبدء طريق الآمال و الآلام على درب الحياة .
طارق فهمي حسين
إبريل ٢٠١٨

شاعرٌ يكتُبنا .

شاعرٌ  يكتُبنا.
======

حقا لم يرزقني الله موهبة الشعر ، لكنه سبحانه الرزاق عوضني بأن دلني قبل فوات الأوان على أشعار أمين حداد ، و لماذا أمين حداد تحديدا و لدينا من جواهر شعراء العامية آخرون منهم من يعتبر أمين حداد نفسه تلميذا لهم أو إمتداد " ينتحل " التواضع لهم كفؤاد حداد و صلاح جاهين و بيرم التونسي ... فلماذا أمين حداد تحديدا ؟
الإجابة ببساطة و صدق أن أولئك العظام الذين ذكرتهم ، و آخرون سواهم شعراء كبار أقرأ لهم مجلا منبهرا طربا ، أما أمين حداد فشاعر يقرأني ( و غيري ) فيكتب عني ( و عنا ) ما يحول غياب الموهبة و الأدوات بيني و بين كتابته !
حتى أنني تراودني صورة طريفة أرى فيها نفسي فلاح بسيط لا يقرأ و لا يكتب و لكن يجيش صدره بالمشاعر و خبرات الحياة و مذاقاتها المتنوعة ، جالسا إلى جوار مكتب على رصيف الحياة و يملي مكنونات نفسه و ذكرياته و هواجسه على " الباش شاعر " أمين حداد الجالس خلف المكتب مبتسما يهز رأسه بهدوء العارفين ليضع كل ذلك شعرا على الورق ، و ألاحظ أنه يكتب ما أقول حتى قبل أن يسمعه بل و قبل أن أمثل أمام " مكتبه " هذا ! إذ يبدو أن واقع الأمر أننا ، ربما لأننا أبناء جيل واحد و وسط إجتماعي و سياسي و ثقافي واحد ، فقد ركبنا معا ذات القطار الذي يسير بنا في ذات الطريق و توقف بنا حينا في ذات المحطات ، و فوت بنا معا محطات أخرى ، و عشنا سويا ، و من قبل سابق معرفة ، حوادث و مآسي و طرائف ذات الرحلة ، و نشأنا و نما وعينا على إيقاع ذات الحركة لذات القطار الذي يسير بنا - فيما يبدو - إلى ذات الوجهة ...
خلاصة الأمر أنني لو كنت شاعرا لكنت : أمين حداد !
حتى شوفوا :
=====
أمين حداد - موال المنام

أبوياَّ جانى فى منام وسمعت تنهيده
قلّب عليَّ اللى راح بقديمه وجديده
وفضلت أقول المثل وأعيده وأزيده
عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ
راح الزمان اللى ماسك جمرته فى إيده
وجه زمان نشوان فرحان بأناشيده
فتح البيبان صبيان بيبيعوا ويتاجروا
وكل واحد أخد بقشيش على أجره
فجرُ بأية حالٍ عدت يا فجرُ
وحبايبك السهرانين قبل السحر هاجروا
لما القمر قالهم "انفجروا أو موتوا"
ثم اختفى فى ظلامه وموته وسكوته
والكشافات نورت أصفر على الساحات
والطبله دقت وشقت صوتها فى السماوات
نزلوا بنات الحانات على الواحده يتمايلوا
ليلُ بأية حالٍ عدت يا ليلُ
يا ليل حبيبى اللى كان فى إيديا مش طايله
عدت جنازته على البساتين وكان شايله
عصافير حمام ويمام وكناريا وبلابل
أبكى عليه يا ريح واتشاهدى يا سنابل
أبكى عليه يامّاىَّ وخديه فى أحضانك
سحى عليه الدموع واقرى فى قرآنك
حاسبى عليه من الهوا واحميه من الزحمه
قلبه اللى كان خافض جناح الذل والرحمه
إيده اللى ماسكه الفانوس بتنور العتمه
حسّه الجميل العميق ساكن ورا الكواليس
قاعد بينشد ويحكى بنطلون وقميص
حسّه اللى ساكن ضلمه فى المعتقل
لسّه صداه الطويل فى المغارات فى الجبل
ينزل جميع القرى ويدق فوق بابها
ويقعد فى وسط الجنود اللى حموا ترابها
لابسين خوذات بالشبك واقفين على الجبهه
ويغنى وسط الفرح يوم خميس والحد
والميّه فوق القزاز فى محل بيع الورد
ويغنى لاجل الضنى بحلاوته وغلاوته
ويبكى لاجل الفراق المُر وقساوته
موتُ بأية حالٍ عدت يا موتُ
رجعت اللى راح بقديمه وجديده
وفضلت أقول المثل وأعيده وأزيده
عيدُ بأية حالٍ عدت يا عيدُ .
من ديوان : " ريحة الحبايب "
للشاعر أمين حداد
طارق فهمي حسين
إبريل ٢٠١٧

حسن حداد وطعم الحياة .






نص كلمتي التي تشرفت بالمشاركة بها في ندوة المجموعة القصصية "طعم الحياة" للكاتب الصديق الجميل حسن حداد.
#طعم_الحياة
#حسن_حداد
#أتيليه_القاهرة
الثلاثاء ٢٤ إبريل ٢٠١٨
=======
بسم الله الرحمن الرحيم
مساء الخير جميعا
في البداية أحب أوضح إني لما تلقيت الدعوة الكريمة من صديقي الكاتب الأُستاذ / حسن حداد ترددت كثيراً و حاولت الإعتذار لإني لم أتوسم في شخصي الضعيف المؤهلات الكافية للتصدي لمسئولية الجلوس على منصة في منارة ثقافية مثل أتيليه القاهرة الذي أتشرف بأن والدي الراحل كان أحد أعضائه القدامى ، و إن أمسك بالميكروفون متحدثاً من فوق المنصة إلى جمهور من المُثقفين و الكتاب الذين هم أجدر مني بالحديث و أنا أولى منهم بالإنصات و الاستفادة.
كذلك و من قراءتي المُتكررة لهذه المجموعة القصصية لحسن حداد و التي أضافت إلى وجداني الكثير ، وجدت أيضاً أنني لستُ في موقع يسمح لي بالتعليق أو التقييم لمثل هذه الموهبة الكبيرة
لكني في نهاية الأمر ، و بعد مُلاحظة ذكية أبداها لي أحد الأصدقاء من النُقاد المُهمين للأدب قال لي فيها أن د. يحيى الرخاوي في صالونه الأدبي يرفع شعار " القاريء ناقداً " ، فكأنما ألقى صديقي الكبير هذا إلي بطوق نجاة ، إذ اتخذتُ هذا الشعار كتكئة إستند إليها و أنا أسمح لنفسي بالجلوس إليكم متحدثاً ، بل و مُعلقاً على هذا العمل القصصي " طعم الحياة " للكاتب الموهوب حسن حداد .
نعم أنا إذاً أتحدثُ إليكم مُمثلاً للقاريء العادي و مندوباً عن جمهور القراء الذين ربما لا يعرفون قواعد النقد الأدبي أو شروط بناء القصة القصيرة ، لكننا نبقى نحن الجمهور الذي يتوجه إليه المُبدعون ، و يزعُم النُقاد المُتخصصون – خطأً أو صواباً – أننا نُريد كذا و لا نُريد كذا .
قبل الدخول إلى موضوع الندوة و هو المجموعة القصصية " طعم الحياة " لحسن حداد أود – إستغلالاً لهذا المنبر المُتميز – أن أتوقف في عُجالة عند مقولة متداولة في الوسط الأدبي و الثقافي على نحو منحها ما يُشبه " قوة القانون " دون أن نُستشر فيها نحنُ القُراء البُسطاء جمهور الأدب و موضوعه ومادته الحية ، وهي مقولة " الرواية ديوان العرب " ! حتى أن شاعرنا الكبير أمين حداد سُئل عنها مؤخراً في أحد اللقاءات التلفزيونية .
هذه مقولة أتمنى على أهل الوسط الأدبي و الثقافي أن يتمهلوا قليلاً و يعودوا لمُراجعتها ، لا ليصلوا إلى أن الشعر مثلاً هو ديوان العرب أو القصة القصيرة أو المسرح ... إلخ ، بل ليراجعوا أساساً جدوى فكرة المُقارنة بين أشكال الإبداع و التحقق من ضرورة الوصول إلى تتويج أحد هذه الأشكال على قمتها دون غيره و هي فكرة لا أرى لها ضرورة أو منطقاً ، فكما يقولون في القمة مُتسع للجميع ، و الجمهور المُتلقي للآداب و الفنون لديه ذائقة عريضة و متنوعة تتسع لتلقي كافة أشكال الإبداع ، و ليكن الأولى بالسعي هو توسيع قاعدة هذا الجمهور لا حصره في شكل من أشكال الإبداع دون سواه أو قبل سواه .
و حتى إذا سمحت لنفسي بالإنزلاق لفحص و اختبار هذه المقولة " الرواية ديوان العرب " بشكل سريع أجدني و قد استوقفتني مُلاحظتان :
الأولى أن الكُل يتحدث عن أننا في عصر السُرعة و الوجبات السريعة ... إلخ ، فهل الرواية التي تستغرق مئات الصفحات هي الأقرب لإيقاع العصر أم القصة القصيرة و القصيدة القصيرة و مسرحيات الفصل الواحد مثلاً؟
المُلاحظة الثانية : أنه على مستوى القاريْ أو " المُستهلك " للأدب إن جاز التعبير ، فأنا أدفع بضعة جنيهات في رواية أو مجموعة قصصية و أمنح جانباً من وقتي و اهتمامي للجلوس لقراءتها ، فإن كانت رواية فأنا بين إحتمالين لا ثالث لهما : أن تكون الرواية جيدة و تتفق مع ذائقتي و مستوى فهمي كقاريء أيا كان هذا المستوى ، و هنا فقد " ربح البيع " إن جاز التعبير أيضاً
أو لا يحدث التوافق بيني و بين الرواية سواء لعدم جودتها أو لتواضع قدرتي كقاريء على التذوق و الفهم أو لأي سبب ، و هنا فقد خسر البيع إذ أهدرت جنيهاتي ووقتي و فوتت نُسخة من الرواية على قاريء آخر كان يمكن أن يتذوقها و يفهمها .
أما في مجموعات القصص القصيرة أو دواوين الشعر مثلاً ففرصة التذوق و الاستمتاع و التوافق بين القاريء و الكتابة تُتاح و تتكرر بعدد قصص المجموعة أو قصائد الديوان مثلاً ، فهذه قصة أخفقت في تذوقها ، و تلك قصة عصفت بوجداني إعجاباً و هكذا .
و أخيراً فهذا الإختبار السريع أبعد ما يكون الهدف منه أن أزعزع مقولة " الرواية ديوان العرب " لصالح شكل آخر من أشكال الإبداع ، و إنما أهدف إلى هدمها تماما لصالح كافة أشكال الإبداع بما فيها الرواية نفسها .
نأتي إلى موضوعنا الأساسي الليلة و هو المجموعة القصصية " طعم الحياة " للكاتب حسن حداد و الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب و التي تشتمل على عدد 35 قصة قصيرة ، أطولها لا تجاوز التسع صفحات و بضعة سطور(نبض الذاكرة) ، وبعضها يبلغ به القصر إلى أنها لا تكمل صفحة واحدة ، و لكننا لا نجد في هذا القصر أي اقتضاب أو بتر للمعنى ، فالتركيز شديد وعالي وجميع قصص المجموعة مغزولة كالعقد في خيط واحد بما يشبه التنويعات على لحن واحد . البيت و العائلة والجيرة و حياتنا المصرية البسيطة كما عرفناها في زمن ذهبي رحل و لم يبق منه سوى نماذج إنسانية بديعة مثل حسن حداد نفسه و كذا شخصيات قصصه التي بقيت لتسجل لنا جانباً من تلك الحياة ، و تحفظ لنا روحها الصافية ، لكن يبقى " الموت " هو التيمة الأساسية التي تتعامل معها وربما تدور حولها هذه المجموعة ، لكن على نحو أبعد ما يكون عن القتامة أو السوداوية و إنما بنوع من التعايُش مع الموت كحقيقة " تعيش " بيننا وتترك آثارها على نفوس الأحياء الذين يستمرون بعد رحيل الأحبة .
بعد القراءة الأولى للمجموعة قلت لحسن حداد مُداعباً : إذا كان هذا هو " طعم الحياة " فكيف يكون إذاً " طعم الموت " ؟ إذ أن جٌل القصص حاضر فيها الموت بقوة و تخيم ظلاله الثقيلة على الأحداث و الأشخاص ، لكني لما عاودت القراءة بدأ يتسلل إلى نفسي طعم الحياة كما تذوقه الكاتب ووضعه بين سطور مجموعته القصصية ، الحياة بواقعيتها و بالموت يسير معها جنباً إلى جنب ، الكاتب و شخصياته يتعايشون مع هذه الحقيقة بواقعية وفلسفة في ذات الوقت، و مذاق الموت في قصص حسن حداد أشبه بالملح الذي يضبط طعم الأكل ، فنجد الكاتب يستهل المجموعة بقصة " زيارة " التي نكتشف أن الراوي فيها راقد في قبره منذ سنوات سبع ، و يصف لنا " مشاعره" حول زيارة ابنته و حفيده لقبره ، بل وفخره بهذا الحفيد وسعادته بهذه الزيارة التي تخفف عليه وحشة القبر .بهذا الاستهلال يُصارحنا الكاتب و يؤهلنا للرحلة التي نحن مقبلون عليها عبر صفحات و قصص المجموعة ، فنمضي معه نتلمس طعم الحياة و قد تخللها الموت و ضبط إيقاعها و فرض عليها حقيقته الأزلية .
من بدائع قصص المجموعة قصة " بالأحضان " ، ليس فقط لأنها مُعطرة بذكر واحد من أجمل من أنجبت مصر و هو شاعرنا الكبير صلاح جاهين ، و لكن أيضاً لما تنطوي عليه من فلسفة ( تليق بصلاح جاهين بالمناسبة ) فنجد الراوي ( وهو الكاتب نفسه كما هو واضح) تجتاحه ذكريات عُمر و منذ الطفولة مع " عمو صلاح " فيتجاوز وصية صلاح جاهين لولده في إحدى رباعياته "وقبري إوعك تزور " و يذهب ليزوره في قبره لكنه ينسى مكان القبر و بعد جهد كبير يصل إلى شيخ الحارة ليسأله عن قبر صلاح جاهين فيسأله شيخ الحارة : " ما قلكش إسم التربي إيه ؟ " يعلق المؤلف / الراوي مُختتماً بعبارة : ليعود مهزوماً و قد رأى الموت و عرفه .
بهذه العبارة العبقرية تنتهي القصة لتلخص لنا ما يُمكن أن يستغرق صفحات في ذكر الموت و وطأته و سطوته و انهزام كُل قيم الحياة أمامه ، فشُهرة الشاعر التي طبقت الآفاق و حُب الحياة و جمالها الذي أفنى عُمره في نشره بين البشر ، كُل ذلك لم يشفع له أمام سطوة الموت ، و أضيف – للإنصاف – و جهل شيخ الحارة أيضاً ، و هنا أثير قضية ربما لم يقصدها الكاتب في هذه القصة تحديداً لكنها أحد الهواجس التي تسري بين جنبات المجموعة و تتجلى بوضوح في القصة الأخيرة "الرواية " و هو هاجس انقضاء العُمر قبل أن يُحقق الإنسان رسالته و رؤاه كاملة ، فهل لنا أن نلوم صلاح جاهين صاحب الفوازير و الرباعيات و الليلة الكبيرة و نهر متدفق من الإبداع الملتحم بالشعب ، هل لنا أن نلومه إذ رحل تاركاً شيخ حارة ما لا يعرف من هو صلاح جاهين حتى يستدل على قبره بإسم التُربي ؟ ام نعترف بصحة رؤية المؤلف لنعود باللوم ( إن جاز التعبير ) على الموت الذي ليس له عزيز ؟ بالأحضان قصة شديدة العُمق و المغزى و تضع حسن حداد في مكانة رفيعة على تخوم القصص والفلسفة معاً ، و الحقيقة أن هذه المكانة التي أزعمها لا تصنعها هذه القصة وحدها و إنما تبنيها كُل قصص المجموعة تقريباً بتؤدة و أناة ، لكن " بالأحضان " و كذا قصة الختام كما ذكرت " الرواية " ربما تمثلان أعلى تجليات رؤية الكاتب و نظرته الفلسفية .
المجموعة ككُل أشبه بمشاهد مُتفرقة من رواية واحدة لكنها مشاهد مُختارة بعناية و ما أن يفرغ القاريء من آخر قصص المجموعة حتى تتجلى له صورة حياتنا المصرية القديمة الحميمة بما فيها من قيم الأُسرة و الأمومة و الحُب و الجيرة و الفقر والحياة الشعبية و لعل أجمل ما في قصص حسن حداد أن البطولة فيها للإنسان العادي جداً و لا مكان فيها للبطل التراجيدي إلا بقدر ما تنطوي عليه حياة هذا الإنسان العادي من تراجيديا كما نرى مثلاً في بطل قصة الرواية ، أو بطل قصة " اليأس جنون " الذي يؤدي الحوار المستمر بينه و بين أحد نزلاء مستشفى الأمراض العقلية الذي يؤرقه البحث عن " الصمت " الذي يرى أنه غير موجود لإن حتى الأفكار في الدماغ لها صوت ، أقول يؤدي التحاور المُستمر بين بطل القصة و النزيل في نهاية الأمر إلى الإنتقال به من صفوف العاملين بالمستشفى إلى صفوف النُزلاء ، و بالمناسبة فنحن لا نكتشف طبيعة وجود الراوي في المستشفى و لا طبيعة هذا الإنتقال التراجيدي إلا من العبارة الأخيرة في القصة ، و هو الأمر الذي برع فيه حسن حداد عبر عدد من قصص المجموعة فدائماً ما يدخر لنا مُفاجأة ما ويُفجرها عبر عبارة واحدة قصيرة موضوعة في مكانها الأنسب من القصة .
هناك خط آخر بالإضافة لما ذكرت يسري خلال هذه المجموعة القصصية ، و لكوني غير مُتخصص في مجال النقد الأدبي كما اعترفت بداية ، فلا أدري مدى دقة أن أصف هذا الخط بالفانتازيا أو بالتجريب مثلاً و نراه في قصص مثل : فضفضة التي تأتي في 3 فصول أو مشاهد قصيرة و الأبطال أو الرواة فيها هم : تذكرة الأوتوبيس / فردة الحذاء / الضلمة ! نعم هؤلاء الثلاثة يحدثوننا مباشرة و يتكلمون عن أنفسهم ورؤاهم و انطباعاتهم ، وهي قصة من أمتع قصص المجموعة أيضاً ، و يستوقفني تعبير ورد على لسان تذكرة الأوتوبيس حين تعدد لنا أشكال تعامل الركاب معها فتقول عن بعض الركاب و خصوصا الستات : بيلفوني و يحطوني في الدبلة و هي عبارة تفصح عن سمة يبدو أنها من خصائص إبداع آل حداد عموماً و هي القدرة على رصد أبسط الأشياء و كذا القدرة على التعبير عنها ببساطة و أقصر العبارات و أجملها ، و معنا على هذه المنصة شاعر حداد هو القائل : العيش المترصص على ست اسبته راسيين بحواية على راس الولد اللي يسوق العجلة .
خط الفانتازيا أو التجريب كما أسميته و لا أدري مدى دقة التسمية يتمثل كما قلت في قصة فضفضة و الباحث عن الموت و شاي الصباح و رُبما مواقيت الصلاة و البلكونة و يصل هذا الخط إلى ذروته في قصة " حديث مع .."
في شاي الصباح مشهد ثابت لسيدة سبعينية تجلس لتشرب الشاي ، وعودة بالزمان عقداً كاملاً في كُل مرة لنراها أرملة مسنة /زوجة ناضجة/ شابة وأم لأطفال و الزوج معتقل سياسي / شابة حالمة بالمستقبل وفتى الأحلام / طفلة دون سن شرب الشاي لكنها تحب لونه و رائحته و يدعو لها الكبار الذين يشربون الشاي بطول العمر لتكبر و تشرب الشاي مثلهم .
مواقيت الصلاة :
سافر فجراً،وعاد قبل المغرب،لأن أُمه توفيت ظُهراً ودُفنت عصراً،وأخذ عزاءها بعد صلاة العشاء.
في سطر واحد دورة الحياة والموت كاملة .
البلكونة
نجد بلكونة بيت الأسرة القديم الذي شهد الطفولة و الصبا و الذكريات نجد هذه البلكونة هي الراوي الذي يناجي بطل القصة إن جاز التعبير و تروي له رحلة عمره معها و شهادتها عليه .
و أخيراً : حديث مع ..
حوار مع ملك الموت حول جدلية الحياة و الموت ، و على مستوى الشكل قد تبدو فانتازيا بينما المضمون درامي واقعي و يحمل فلسفة عميقة فضلاً عن نهاية منطقية أضفت لمسة واقعية على المشهد .
أحب أن أنوه أن التجريب في الأمثلة التي ذكرتها من قصص المجموعة هو تجريب على مستوى الشكل و تكنيك الكتابة لكنها قصص لا تُفارق الواقعية على الإطلاق على مستوى المضمون
يتخلل بعض قصص المجموعة طيف رب الأسرة الغائب في غيابات الإعتقال السياسي ، و هو طبعاً واقع عاشته أُسرة الكاتب ، لكنه لم يقع أسيراً له و لم يلح به على القاريء على الإطلاق ، أو يبتز به مشاعرنا أو يستدر تعاطُفنا كقُراء ،وإن كان قد فعل فلم يكن لنا أن نلومه ، و إنما مر كالطيف الخفيف عبر قصة أو أُخرى و أكاد أشطح بخيالي لأقول أن هذه الومضات لطيف الأب المعتقل لم يكتبها حسن حداد و إنما هو بالفعل طيف الشاعر المُناضل فؤاد حداد كان يمر و أنا كقاريء شعرت به و ظننته مجرد سطور كتبها حسن حداد ... ربما ..
فقط ملاحظة أظن أن الكاتب يسمح لي بها بصفتي " السيد الجمهور " وفقاً لتعبير الفنان الكبير المثقف محمود حميدة ، بصفتي السيد الجمهور أسمح لنفسي بأن أراجع إختيار إسم " الباحث عن الموت" للقصة البديعة التي ترصد لنا حياة جرو يعيش في جراج عمارة و يشرع في استكشاف الحياة خارج الجراج ، فالإسم حكم على الجرو بنهاية ربما لا تكون حتمية بالنسبة لكلاب الشوارع و لكني أرى المؤلف كما لو أراد أن يطوي هذا الجرو المُستكشف المتمرد تحت جناح الحقيقة الأزلية التي تلقي بظلها على المجموعة و لم يشفق على طفولته و تطلعاته البريئة .
آخر إنطباعاتي التي أحب أن أنقلها لكم و للكاتب الصديق حسن حداد عن القصة الأخيرة في المجموعة و التي هي بحق مسك الختام ، قصة الرواية ، و التي أراها رواية كاملة مضغوطة في صفحتين و نصف ، و أدعو حسن حداد إلى النظر في كتابتها كرواية مليئة بالتفاصيل الموجودة إشاراتها بالفعل في طيات القصة ، من ذلك مثلاً الأسباب الكامنة في شخصية بطل القصة أو في ظروفه أو في موقف الأهل منه و التي دفعتهم إلى أن " يتركوه على راحته" حتى دمر بصره و حياته ، القصة تجسد مأساة الإنسان حين يرى في نفسه – مصيباً أو مخطئاً – ما لا يراه فيه الآخرون و يفشل أو يحول المجتمع بينه و بين التحقق إنسانياً و إبداعياً و لو بالتواطؤ بالصمت ،.
هذه القصة " الرواية " لها إرهاصة في موضع سابق من المجموعة في قصة " الكتاب " التي تتحدث عن ذلك الذي رحل عن الحياة قبل أن ينتهي من كتابة أول كتبه ثُم وجدوا بين أوراقه عدداً كبيراً من الإهداءات الحميمة لكُل الأهل توطئة لوضعها على الكتاب الذي لم و لن يصدُر أبداً .
وكأن حسن حداد يمد جسوراً غير مرئية بين قصة و أُخرى من قصص المجموعة ، و هذا الأمر مُتكرر في أكثر من موضع ، و دون أدنى تشابه أو تكرار ،لكننا نجد رابط ما في كُل مرة ،وكأنها نظرات من زوايا مُختلفة لنفس الصورة و هو ما يؤكد ما أشرت إليه في البداية من الترابُط بل التماسك بين قصص المجموعة .
أيضاً الثورة كقيمة و كحدث حاضرة في " طعم الحياة " كما في قصص : المقال / ابتسامة الشهيد / أم الشهيد .، وقصة ابتسامة الشهيد ترسم صورة بديعة لواقعة الشهيد المُبتسم (و المجهول) خلال ثورة 25 يناير النبيلة .
أخيراً و قد أطلت فإنني كنت قد احتشدت لجميع قصص المجموعة الخمس و الثلاثون لإني لم أجد من بينها قصة واحدة يليق بها التجاهل لكن الوقت يحكمني و كذا مخاطر نفاذ صبر المستمعين ، و ختاما أقول أن مجموعة حسن حداد القصصية " طعم الحياة " ربما تتعرض للتمحيص على يد ناقد أدبي متخصص يمتلك أدواته فيفتقد فيها شرطاً أو آخر من شروط القصة القصيرة ، لكنها باتأكيد حين يتلقفها القاريء أو " السيد الجمهور " و يقرأها و يعايشها سيخرج بالنتيجة التي خرجت أنا بها و يشعر بالإضافة الوجدانية التي يقدمها لنا حسن حداد بكتابته الصادقة الحميمة الصادرة عن موهبة حقيقية .
و لا أرى بأساً في أن يستمع حسن حداد لمُلاحظات و نصائح النُقاد ، و أن يطور أدواته ككاتب ، ويُنمي حرفية الكتابة لديه ، لكني – كقاريء – أطلب منه في ذات الوقت ألا يطغى أي من ذلك على مساحة الصدق و الإحساس الشاسعة لدى حسن حداد كقصاص و ألا ينتقص صقل الخبرة و تطوير الحرفية و لو شبراً واحداً من تلك المساحة البديعة.
و في النهاية أتوجه إلى الكاتب الصديق حسن حداد بالشكر أولاً على هذه المُعايشة التي أتاحها لنا كقُراء ، ثُم أوصيه بالتخلي عن الإقلال فتلك جريمة في حق الموهبة و في حق القُراء ، و شُكراً. 
طارق فهمي حسين

محمود حميدة

محمود حميدة.
==========




اليوم قضيت وقتا جميلا ثريا و ممتعا ومفيدا أيضا مع صديقي القديم العزيز و الكبير محمود حميده .
محمود حميده الذي عرفته منذ أكثر من ٣٥ سنة و عبر عقود لم يتغير و لم يتحول ، و إنما - ككل المعادن الثمينة و الأحجار الكريمة - يزداد وهجا و ألقا وأصالة و لم تزده أضواء النجومية إلا تواضعا و حكمة ، و لم تأخذ منه السنوات إلا بعض اندفاع الشباب دون حماسهم .
محمود حميدة قيمة إنسانية و ثقافية كبيرة بأكثر مما يظن الكثيرون .
منذ مطلع شبابي -وشبابه- كان محمود حميده (بعد أبي وصحبه العظام المدهشين) أحد الأبواب الرحبة إلى عالم الثقافة و المعرفة بالنسبة لي ، فكنا في أوائل الثمانينيات نشتري مناصفة من سور الأزبكية عشرون نصا مسرحيا مثلا ، و نقتسمهم و حين ينتهي كلانا من القراءة نتبادل المجموعتين لاستكمال القراءة ليستقر كل نصف في مكتبة أحدنا ( و مازالت في مكتبتي حتى اليوم ) .
وحتى يومنا هذا مازال محمود يفتح لي نوافذ و أبواب جديدة على عوالم أرحب من الثقافة و الشعر و الإنسانية ..
مثلا منذ ما يقرب من سنوات ثلاث إتصل بي نهارا و أنا جالس إلى مكتب الوظيفة ليسألني مباشرة : إنت قريت كتاب "جزيرة الأحياء " لأمين حداد ؟ فأجبت بالنفي محاولا الاستفسار عن طبيعة الكتاب ، فقاطعني : هاته بس و اقراه .
و قد كان ، فقرأت جزيرة الأحياء لتنفتح أمامي عوالم من الشعر و السحر وجميل البشر و لأخرج من كتاب أمين حداد لأجدني وجها لوجه مع أمين حداد بشحمه ولحمه كما يقولون ، لكني وجدته بنوره وصفوه لتصير صداقة شخصية و أخوة وتواصل إنساني يمتد من أمين إلى حسن إلى سليم حداد و كل أفراد أو -للدقة- زهور وزهرات جنة البشر التي يتشكل منها آل حداد و آل جاهين بشرا شعراء وقصاصون و حكاءون و صانعوا جمال بكل أشكاله .
تداعت معي المعاني لكني أعود إلى النبع الرقراق الذي بدأت من عنده كلامي ...محمود حميده منجم النفائس البشرية وصديق نادر الوجود ...شكرا.
طارق فهمي حسين
إبريل ٢٠١٨

عطرٌ قديم .

عطرٌ قديم .


إستيقظت هذا الصباح بعد أن أمضيت جانبا من ساعات نومي مطاردا طيفي أمي وأبي اللذان يمران بي عابرين في بعض الليالي ...
قمت إلى حمامي الصباحي ، ثم حلقت ذقني وتوجهت إلى ضلفة صغيرة تضم بعض العطور لأتناول منها قنينة عطر ما بعد الحلاقة المعتاد .. لكني انتبهت فجأة لغطاء دقيق أبيض يطل من خلف صفوف قناني العطر المتزاحمة و كأنما يشرئب ليلفت انتباهي !
مددت يدي وسحبت تلك القنينة لأعلى ثم قربتها نحوي ليقع بصري على هذا الشكل وذلك الشعار الذي لاتخطئه عين واحد من جيلي ،ذلك المركب الصغير بشراعه الكبير الرفراف وكدت ألمح طيف أبي يقف في مقدمة القارب ملوحا بذراعه اليسرى مرحبا مبتسما كعادته ..
إنها آخر زجاجات عطر مابعد الحلاقة الخاصة بأبي الذي رحل منذ مايقرب من أربعة عشر عاما ،وبقيت -إلى جانب كل مابقي وهو كبير وكثير وعظيم -بعض مقتنياته و تفاصيل أشياءه الخاصة الصغيرة .
تناولت قنينة العطر بحرص ،ورفعت الغطاء وصببت بضع قطرات فوق راحة يدي ثم فركت كفي معا وربتت بهما على جانبي وجهي الحليق ،فانساب بعض عبير أبي في البيت و استدعى معه رائحته الشخصية الفريدة والتي كانت مزيجا من بعض عطوره المفضلة ورائحة دخان سجائره ذات النوع غير الشائع وكذا رائحة نظافته الشخصية التي لم يكن يباريه فيها أحد ، حتى أنني أتذكر أنني كنت أحيانا في سني المراهقة ومطلع الشباب وهي فترة التمرد والأنانية و"الرزالة" (على حد تعبير أمي ) في حياتي ، كنت كثيرا ما أمدد جسدي مستلقيا ومحتلا الكنبة الأساسية وحدي في غرفة المعيشة ونحن نشاهد التلفاز ، فكان أبي يأتي ويزيح بعضا مني برفق ليجلس ويضم إليه -برشاقة فلاح - ساقيه فوق الكنبة ،ثم يبدأ تدريجيا في مد إحدى قدميه لتلامس رأسي ،فأصيح محتجا:
-إيه يابابا ده؟
-إيه ياأخي؟محتاج أفرد رجلي.
-بس يابابا مش معقول كعب رجلك في شعري.
- بذمتك مش أنضف من دماغك؟قوم كده إغسل راسك ووريني هاينزل منها إيه؟
فأنظر إلى كعب قدم أبي المتورد ناصع النظافة ،وأدير الأمر في رأسي ، لأسمعني أجيبه :
- تصدق معاك حق !
وأنتفض جالسا نائيا برأسي عن قدم أبي غيرة على تلك القدم من أن يصيبها بعض مما يمكن أن يخدش نقاءها من شعر فتى سبعينيات متمرد مهوش الشعر كثيرا ما يتجنب غسله حتى لايفسد فعل "سيشوار"الحلاق !

طارق فهمي حسين
مايو ٢٠١٨