السبت، 26 مايو 2018

عطرٌ قديم .

عطرٌ قديم .


إستيقظت هذا الصباح بعد أن أمضيت جانبا من ساعات نومي مطاردا طيفي أمي وأبي اللذان يمران بي عابرين في بعض الليالي ...
قمت إلى حمامي الصباحي ، ثم حلقت ذقني وتوجهت إلى ضلفة صغيرة تضم بعض العطور لأتناول منها قنينة عطر ما بعد الحلاقة المعتاد .. لكني انتبهت فجأة لغطاء دقيق أبيض يطل من خلف صفوف قناني العطر المتزاحمة و كأنما يشرئب ليلفت انتباهي !
مددت يدي وسحبت تلك القنينة لأعلى ثم قربتها نحوي ليقع بصري على هذا الشكل وذلك الشعار الذي لاتخطئه عين واحد من جيلي ،ذلك المركب الصغير بشراعه الكبير الرفراف وكدت ألمح طيف أبي يقف في مقدمة القارب ملوحا بذراعه اليسرى مرحبا مبتسما كعادته ..
إنها آخر زجاجات عطر مابعد الحلاقة الخاصة بأبي الذي رحل منذ مايقرب من أربعة عشر عاما ،وبقيت -إلى جانب كل مابقي وهو كبير وكثير وعظيم -بعض مقتنياته و تفاصيل أشياءه الخاصة الصغيرة .
تناولت قنينة العطر بحرص ،ورفعت الغطاء وصببت بضع قطرات فوق راحة يدي ثم فركت كفي معا وربتت بهما على جانبي وجهي الحليق ،فانساب بعض عبير أبي في البيت و استدعى معه رائحته الشخصية الفريدة والتي كانت مزيجا من بعض عطوره المفضلة ورائحة دخان سجائره ذات النوع غير الشائع وكذا رائحة نظافته الشخصية التي لم يكن يباريه فيها أحد ، حتى أنني أتذكر أنني كنت أحيانا في سني المراهقة ومطلع الشباب وهي فترة التمرد والأنانية و"الرزالة" (على حد تعبير أمي ) في حياتي ، كنت كثيرا ما أمدد جسدي مستلقيا ومحتلا الكنبة الأساسية وحدي في غرفة المعيشة ونحن نشاهد التلفاز ، فكان أبي يأتي ويزيح بعضا مني برفق ليجلس ويضم إليه -برشاقة فلاح - ساقيه فوق الكنبة ،ثم يبدأ تدريجيا في مد إحدى قدميه لتلامس رأسي ،فأصيح محتجا:
-إيه يابابا ده؟
-إيه ياأخي؟محتاج أفرد رجلي.
-بس يابابا مش معقول كعب رجلك في شعري.
- بذمتك مش أنضف من دماغك؟قوم كده إغسل راسك ووريني هاينزل منها إيه؟
فأنظر إلى كعب قدم أبي المتورد ناصع النظافة ،وأدير الأمر في رأسي ، لأسمعني أجيبه :
- تصدق معاك حق !
وأنتفض جالسا نائيا برأسي عن قدم أبي غيرة على تلك القدم من أن يصيبها بعض مما يمكن أن يخدش نقاءها من شعر فتى سبعينيات متمرد مهوش الشعر كثيرا ما يتجنب غسله حتى لايفسد فعل "سيشوار"الحلاق !

طارق فهمي حسين
مايو ٢٠١٨

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق