السبت، 30 نوفمبر 2019

٠٠٠ كُنتُ سادسهُم.

٠٠٠ كُنتُ سادسهُم.




#ومضة_من_الذاكرة:
مُنذ يومين قرأتُ منشوراً على الصفحة الجميلة بالفيسبوك : Classic  يُذّكر بسلسلة " المُغامرون الخمسة" الشهيرة، فومضت في ذاكرتي مشاهد:
في عام ١٩٦٩ أو ١٩٧٠، لا أتذكر علي وجه التحديد إتصل الأُستاذ مُنير حافظ مُدير مكتب وزير الإعلام بوالدي الكاتب الصحفي فهمي حسين، ودعاه لمكتبه ليُخبره بقرار الوزير محمد فائق بانتدابه من عمله  بمجلة روزاليوسف ليعمل مُستشاراًَ لتحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، وكان رئيس تحريرها الكاتب والصحفي محمود سالم مؤلف سلسلة المُغامرون الخمسة، وهي السلسلة التي لاقت نجاحاً عظيماً وشعبية كبيرة على مدار أجيال من النشء ، وربما كان جيلي هو أول تلك الأجيال بحُكم تزامُن الانطلاقة الأولى للمُغامرين الخمسة مع نشأتنا .
في أحد أيام العُطلة المدرسية اصطحبني أبي معه إلى مكتبه بمجلة الإذاعة والتلفزيون، وكعادته كان يُقدمني لزملائه وزوار مكتبه بصفتي المُستقلة أولاً: طارق - تلميذ بالابتدائية - رسام هاوي وقارىء جيد... إبني الكبير!
وكان من حظي في ذلك اليوم أن التقيت بالأُستاذ محمود سالم الذي استقبلني ببشاشة وود كبير، وسألني إن كُنت أقرأ " المُغامرون الخمسة" ؟ فأجبت بالنفي وبأنني أسمع الإسم للمرة الأولى، فمد يده في حقيبة جلدية وأخرج كتاباً صغيراً وأمسك بقلمه وكتب لي إهداءاً رقيقاً قبل أن يناولني الكتاب ، حين أمسكت بالكتاب ذو الغُلاف الجذاب والقطع المُحبب في اليد لاحظت أن هذا هو العدد الثالث من السلسلة، فظهر على وجهي الإحباط وسألته عن العددين السابقين، ومن أين يُمكن أن أحصل عليهما؟ فتهلل وجهه لاهتمامي ووعدني بأن يُرسل لي مع أبي العددين ،كما وعدني أبي بالمُداومة على تزويدي بقادم الأعداد، والتي كانت تصدر شهرياً.
حين عُدت إلى البيت لم أشرع فوراً- كعادتي - في قراءة الكتاب، وذلك انتظاراً لوصول العددين السابقين أولاً، فتلك كانت- ومازالت - عادتي في القراءة، الالتزام بالترتيب حتى في نفس الكتاب: دواوين الشعر ، ومجموعات القصص القصيرة...إلخ ، لا أسمح لنفسي بمُخالفة الترتيب الذي اختاره المُبدع وارتضاه لكتابه، حتى وإن سمحت طبيعة الشعر والقَصص القصير بذلك، فيقيني مُنذ الصِغر أن الكاتب بذل جهداً ما، ويملك حكمةً ما في ترتيب ما يكتُب، وأنني إذا خالفت هذا الترتيب في قراءتي، فسينطوي هذا،أولاً، على عدم احترام للكاتب، وهذا أمرٌ لا يليق ، وثانياً سأكون أنا - كقارىء- الخاسر الأساسي إذ ستفوتني الحكمة التي انطوى عليها هذا الترتيب.
ظللتُ بقية اليوم أتحرّقُ شوقاً لقراءة اللُغز، أروح وأجىء لأُمسك بالكتاب، أتفحص غلافه، والغُلاف الخلفي مُتفحصاً رسوم الشخصيات والأسماء المكتوبة تحتها، وأفتح الغُلاف لأقرأ الإهداء الرقيق الذي خصّني به الأُستاذ محمود سالم، ولا أجرؤ على أكثر من ذلك...
لم يطل انتظاري إذا عاد أبي من "المجلة" في اليوم التالي مُباشرة ومعه العدد الأول والثاني مصحوبان بتحية من الأُستاذ محمود ، وإهداء جديد أكثر رقة ووداً على العدد الأول: لُغز الكوخ المُحترق" حسب ما أتذكر...

انكببت على قراءة اللُغز تلو الآخر الأمر الذي سحبني إلى داخل عالم الصبية الخمسة أبطال المُغامرات حتى صرتُ سادسهم، أو هكذا ظننت في ذلك الوقت، وعشت مع عالم "المُغامرون الخمسة" على مدار سنوات صدور السلسلة.
***
في سنوات الثمانينيات والتسعينيات جذبني حُب فن التمثيل، والتحقتُ بالقسم الحُر بالمعهد العالي للفنون المسرحية- قسم التمثيل ، وخُضت بعض تجارُب التمثيل على مُستوى الهواية والاحتراف معاً، وفي إطار طرق أبواب البحث عن فُرص لمُمارسة هوايتي الجميلة علمت أن المُخرج أشرف سالم ( وكان وقتها مُساعداً للإخراج) هو إبن الأُستاذ محمود سالم صديق طفولتي وكاتبي المُفضل لسنوات، فطلبت من أبي أن يتصل بالأُستاذ محمود سالم ليُعرفني بإبنه، وكالعادة تململ أبي من طلبي مُستنكراً لجوئي للوساطة، حتى لوكانت وساطته الشخصية لدى صديق وزميل له.
- ماتكلمه انت، هو مش كان صاحبك انت كمان؟
- يا بابا الكلام ده من ميت سنة، وبعدين أنا ما عنديش وسيلة اتصال به.
 - خلاص إكتب رقم تليفونه:......
اتصلت بالأُستاذ محمود سالم، وما أن ذكرت له اسمي ثُلاثياً حتي انطلق مُرحباً بحرارة:
- أهلاً أهلاً أهلاً
- ...
- طبعاً فاكرك ، حد ينسى واحد من قُرائه الأوائل ؟!
.....
ضرب لي الأُستاذ محمود سالم موعداً في اليوم التالي مُباشرةً في مكتبه الشخصي في ٢ - أ -شارع طه حسين بالزمالك( حسب ما أتذكر )
وصلت في الموعد لأجده في انتظاري بنفس بشاشته ووده القديم، استقبلني بالأحضان رغم أن كُل ما جمعني به من قبل كان ذلك اللقاء الوحيد القديم ، رسم الزمن الكثير من الخطوط على ملامحه الطيبة، كما لم يترُك في شعر رأسه مجالاً لغير اللون الأبيض، لكن تلك النظرة الطفولية المُفعمة بالحياة لم تُفارق عينيه.
جلستُ إليه طويلاً، وأشعرني كما لو أنه قد خصص يومه بالكامل فقط للقائي!
أسرّ لي في ذلك اليوم أنه حين شرع في كتابة المُغامرون الخمسة، واختار حي المعادي الهادىء مقراً لسُكناهُم، وساحةً لمُغامراتهم بسبب طبيعة الحي وشوارعه ومُناسبتها لجولات خمسة من الصبية المُستمرة بالدراجات ، قرر اختيار المعادي رغم أنه لم يكُن من سُكان هذا الحي أبداً ، بل لم يكُن حتى قد زاره من قبل !!!
لكنه ظل شهوراً قبل الشروع في الكتابة يركب " قطر حلوان " يومياً وينزل في محطة المعادي أو محطة ثكنات المعادي ، ويتجول بالساعات يقرأ أرقام الشوارع ويتعرف علي المعالم الرئيسية ويتحدث مع الباعة في المحلات والأكشاك ويُدون كُل ذلك  فجاءت المُغامرات بكُل هذا النجاح في نقل أجواء المعادي على هذا النحو المُبهر والذي يعرفه جيداً الملايين من جمهور المُغامرون الخمسة!
فاجأني أيضاً في ذلك اليوم بمعلومة أنه - إحصائياً- الكاتب العربي الأكثر مبيعاً في العالم مُتجاوزاً نجيب محفوظ نفسه وذلك بفضل هذه السلسلة!
كما حكى لي أن الرئيس القذافي دعاه لزيارة ليبيا واستقبله وطلب منه أن يكتُب سلسلة مُغامرات للأطفال تدور أحداثها في ليبيا وتكون شخصياتها من الأطفال الليبيين، فأوضح له الأُستاذ محمود سالم أن هذا يستدعي أن يُقيم في ليبيا على الأقل لعدة شهور يكون خلالها حُر الحركة تماماً بعيداً عن القيود الرسمية حتى يُلم بالأجواء ويستطيع الكتابة، فوافق القذافي علي الفور.
تتداعى الذكريات علي نحو لايبدو له من نهاية، وألمح قارئاً يتململ، فلا بُد إذاً من خاتمة ... بعد المُغامرون الخمسة أبدع الأُستاذ محمود سالم سلسلة أُخرى ناجحة أيضاً بعنوان " الشياطين الـ ١٣ " ، لكنّي كُنتُ قد غادرتُ الطفولة فلم أكُن يوماً " الشيطان الرابع عشر"...
طارق فهمي حسين
نوفمبر ٢٠١٩

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

عزاء واجب ، و ربنا يتمم بخير !!!

                          عزاء واجب ، و ربنا يتمم بخير !!!
                            =================
ذهبت لأداء واجب العزاء في إحدى قاعات المناسبات الملحقة بأحد المساجد الجديدة ، و الذي أذهب إليه للمرة الأولى ، علي الطريق ظهرت عن بُعد أسوار عالية ظننتها أسواراً لقلعة أو حصن ما ، و حين أقتربت بنا السيارة أكثر هالني حجم بوابات ضخمة عالية و مكتوب أعلاها بالأضواء الإلكترونية إسم المسجد ، دخلت بنا السيارة عبر البوابة الضخمة ، إستوقفنا حاجز أمني حيثُ فتح لهم السائق صندوق السيارة و دار رجل الأمن حولها ثم سمح لنا بالدخول ، و بعد مسافة إستوقفتنا بوابة أخرى داخلية يتوسطها كُشك " تحصيل لرسوم الإنتظار" بباحة المسجد ! و للتيسير على رواد المكان وُضِعت أعلى الكُشك شاشة " شريطية " توضح قيمة الرسوم : ( العسكريين ٢ جنيه / المدنيين ٥ جنيه / الميكروباص ١٠ جنيه ) .
كلا من رجل الامن و محصل الرسوم يتعاملان بأدب فندقي من فئة النجوم الخمس !
بعد عبور بوابة الرسوم تظهر مساحات شاسعة من أماكن الإنتظار و مسجد كبير و مآذن تنبثق من الأرض مباشرةً مُستقلة عن جسد المسجد و مًشيدة على طراز فرعوني سابق علي ظهور الإسلام ، تحديداً تنتهي بتيجان على شكل زهرة اللوتس !!!
و مجموعة من المباني الضخمة المُستقلة و التي تحوي عدد من قاعات المُناسبات لم أستطع تحديد عددها ، إذ يتطلب الأمر الكثير من المشي و الدوران حول المباني للوصول إلى بوابة كُل قاعة لقراءة إسم كُل منها، و المكتوب أعلي البوابة بالإضاءة الكهربائية ، و بالتالي حصر عددها .
علب المناديل الورقية الموضوعة على الموائد الصغيرة الموزعة بين مقاعد المُعزين مطبوع عليها إسم المسجد .
للمسجد و " دور مُناسباته " المتعددة صفحات على " الفيسبوك " منشور عليها أرقام التليفونات و " أسعار " الحجز ، الإعلان بشكل دوري عن " فتح باب الحجز لشهري كذا و كذا " ، هذا طبعاً بالنسبة لمناسبات عقد القران ، فهي التي يمكن تحديدها مُسبقاً ، على عكس حالات الوفاة و مايتبعها من عزاء .
لا أعرف تحديداً إذا كان هذا المسجد و قاعاته مسجلين في موسوعة جينس أم لا ، لكنه في كُل الأحوال مشروع تجاري ضخم يدر بالتأكيد الكثير من الأرباح علي " أصحابه " ، و أظنه الأضخم في مجاله ( في حدود ما رأيت ) مقارنة بأقرانه في سلسلة مشروعات المساجد و دور المُناسبات الناجحة المُربحة التي انتشرت في السنوات الأخيرة .
رحم الله موتانا ، و ألف مبروك للعروسين !
طارق فهمي حسين
أكتوبر ٢٠١٩

الخميس، 26 سبتمبر 2019

فاطمة عادل يا جماعة !

فاطمة عادل يا جماعة !
==========
عندما تذهب للإستمتاع بفريق غنائي جميل إسمه " رترو " تجد فاطمة عادل نجمة مُنألقة في قلبه ، و عندما تسمع عن فريق غنائي إسمه " إتنين من شُبرا" تجد أن " فاطمة عادل" هي واحدة من هذين الإثنين ، و عندما يُسعدك الحظ بسماع و مُشاهدة فرقة " حبايبنا " تجد " فاطمة عادل " أيضاً جوهرة مُتلألئة في هذه الفرقة الجميلة !
أمرٌ مُثير للدهشة و التساؤل : لماذا و كيف تتقاطع كُل هذه الفرق عبر صوت فاطمة عادل و طلتها الجميلة و أدائها العذب ؟! لكنك مع تكرار السمع و التعمُق في ملامح هذا الصوت تكتشف ، و بسهولة ، أن فاطمة عادل تمتلكُ فائضاً من موهبة و جزالة في الصوت ، يفيض عن أن يستوعبه نشاطٌ موسمي أو دوري لفريق غنائي واحد ، أو حتى حفلاتٌ مُتباعدة تُغني فيها بشكل فردي ، حين أتأملُها علي المسرح و هي تهيم مع الغناء و تغيب في عالمها الطربي أكاد أظُن أنها لا تُدرك أين هي أو أن هُناك جمهوراً يستمعُ إليها ، بل أظُن أن فاطمة عادل تُغني في طريقها للذهاب إلى المسرح الذي ستُغني عليه ، و تُغني في طريق عودتها ، و تُغني لأطفالها حين توقظهم و حين تُهدهدهم ليناموا ، تُغني حين تفرح و تُغني حين يمسها حُزنٌ ما ، و رُبما تتسلل إلى طابور الصباح في إحدى مدارس البنات مُستغلةً وجهها الطفولي لتذوب بين التلميذات و تُغني معهن في طابور الصباح ! أغلبُ ظني أن هذه الشابة المصرية الجميلة " ممسوسة " بالغناء علي نحو ما ، لذا فمن البديهي ألاتخلوا ساعة من يومها من الغناء ، و ألا يخلو الغناء من فاطمة عادل !
و لعل السطور السابقة توحي بأن هذه المُطربة الموهوبة كثيفة الحضور واسعة الإنتشار ، في حين أن الواقع هو على العكس من ذلك تماماً ، فرغم كُل ما ذكرت فإن الساحة الفنية الغنائية تشهد " نُدرة " ظهور فاطمة عادل ، و تلك مُفارقة عجيبة لا أجد لها تفسيراً !!!
أما فاطمة عادل المُمثلة الموهوبة ، فقصةٌ أُخرى و مُعضلةٌ من نوعٍ آخر ، و إن تشابهت مع لُغز " المُطربة " ،إذ أنه رغم ما حققته فاطمة عادل من إسم و مكانة فنية كمُطربة و مُمثلة موهوبة و قديرة ، إلا أن الفجوة بين ما حققت و ما تستحق مازلت كبيرة حتي الآن.

طارق فهمي حسين
سبتمبر ٢٠١٩
=======
الصورة بعدسة شاعر مصر الكبير : زين العابدين فؤاد .

د. جلال أمين .


أعزي وطني العربي وأعزي الفكر الإنساني وأعزي نفسي في واحد من أعز الكتاب والمفكرين إلى عقلي وقلبي د. جلال أمين .
كان لقائي الأول معه عبر كتابه الرائع "ماذا حدث للمصريين" وهو الكتاب الذي لم يكتبه من برج عاجي كأكاديمي وأستاذ بالجامعة الأمريكية ، وإنما بعين مصرية راصدة وغارقة في واقعنا الإجتماعي حتى الثمالة ، وما أن فرغت من القراءة الثانية لهذا الكتاب حتى صرت كالمندوه أسعى وراء كل مانشر له من كتب فأقرأه .
ولما كان من حظي أنني أسكن في ذات الحي الذي يقطنه هذا المفكر الكبير ، بل وعلى بعد شارعين فقط من بيته ، فقد أسعدني الحظ غير مرة بمصادفته في الطريق يسير بجسده الضخم المهيب بخطى النساك والزهاد ، وفي إحدى المرات إستوقفته لأثني على أحد كتبه و أقول له - صادقا - أنني من شدة إعجابي بالكتاب أشتريت عددا من النسخ وصرت أهديها لمن يهمني أمرهم وأمر وعيهم ، فلمعت عيناه واتسعت إبتسامته الودودة وأجابني مداعبا : " يبقى إنت السبب في زيادة توزيع الكتاب " .
بدأت هذه السطور ساعيا إلى رثاء الراحل العظيم ، لكن إبتسامته الطيبة الواسعة وعيناه النافذتان المطمئنتان بالعلم والوعي والرضا وروح الدعابة عنده والتي لمستها بشدة في المرتين اللتين أسعدني الحظ بالتحدث معه فيهما ، فرضت نفسها على الموقف فوجدتني أبتسم ، كما أن تداعيات ذكريات حياته الشخصية على مدار عمره والتي أشركنا فيها جميعا بكل رحابة صدر ونقاء سريرة عبر أكثر من كتاب مثل "ماذا علمتني الحياة ، ورحيق العمر ، بعض هذه الذكريات وتلك المواقف التي رواها بتلقائية وصدق شديدين في تلك الكتب ، بعضها يجعلني في هذه اللحظة أقهقه عاليا حتى تغرورق عيناي بالدموع !
لكني أعود فأستشعر فداحة الخسارة التي وقعت علينا برحيله فيثقل الحزن العميق قلبي ، ثم أسأل نفسي : أليس الموت حق ؟ بلى ، أليس هو المحطة الأخيرة والأكيدة لنا جميعا في هذه الدنيا قبل بدء رحلة الأبدية ؟ بلى .
ففيم إذن كل هذا الحزن ؟ و أين هي الخسارة ؟
الواقع أن الخسارة الحقيقية والفادحة بحق ليست في رحيل رجل عظيم مثل د. جلال أمين ، وما أكثر من رحلوا من عظماء ، وإنما في أن مثل هذا الرجل كان حتى الأمس يعيش بين ظهرانينا - وغيره من العظماء في شتى المجالات - لكنهم يهمشون ويتم التعتيم عليهم وتجاهل علمهم ودراساتهم و طرحهم للحلول فلا تستفيد الأمة من نعمة وجودهم بيننا .
يوما قرأت مقولة فحواها أنه : "من الصعب على ذوي العقول الكبيرة أن يدركوا مدى ما يثيرونه من فزع في نفوس غير الموهوبين "
وقد كان د. جلال أمين عقلا كبيرا بحق ، وأظنه قد أثار الكثير الكثير من الفزع في تلك النفوس الضئيلة .
واليوم يرحل جلال أمين كما رحل عبد الوهاب المسيري وجمال حمدان ورشدي سعيد وأحمد مستجير وسرب طويل من الطيور البيضاء الناصعة لتبقى مصر وأمة العرب أسيرة ضفادع المستنقع حتى إشعار آخر ...

طارق فهمي حسين
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨
في عشق ماجده ...
==========

هذا البوست بمُناسبة جدل مرح و ضاحك بيني و بين صديقات و أصدقاء أعزاء حول الفنانة ميرفت أمين إتسع ليشمل أسماء بعض جميلات السينما حتي ذكرتُ أنا إسم الجميلة ماجده الصبّاحي فتحفظ البعض على جمال ماجده و مُقارنته بالجميلات سُعاد حُسني و ناديه لُطفي و ميرفت أمين ، و كُلهن في رأيي كمُراهق قديم في السبعينيات عاصر سطوعن جميعاً ، كُلهن جميلات بل جميلات جداً ، و محاولة ترتيبهن من حيثُ الأكثر و الأقل جمالاً تصطدم بالضرورة بعائق اختلاف الأذواق ، أما محاولة إستبعاد " ماجده الصبّاحي " من بينهن ، أو حتى إزاحتها لمسافة ، فتصطدم بالتأكيد و بالضرورة بشخصي الضعيف العنيد ... القديم ، لذا لزم عليّ أن أمتشق قلمي أو - للدقة - " كي بوردي " مُدافعاً عن بعض " ثوابتي :
====================
أختلف مع كثيرين سواء حول جمال الفنّانة ماجده الصبّاحي ، و التي أراها من أجمل الوجوه في تاريخ السينما المصرية ، أو حول أدائها التمثيلي الذي يرى فيه الكثيرون مُبالغة لا يستسيغونها ، في حين أرى في أداء ماجدة و ارتعاشة صوتها ما يُناسب ما أدته من أدوار ، و من يُريد أن يتأمل عبقرية الأداء عند ماجده الصبّاحي فليُراقب تطور أدائها في فيلم " أين عُمري " مثلاً و كيفية فهمها للتحول من التلميذة البريئة الساذجة إلى الزوجة المُعذبة لرجُل كهل شديد القسوة ، و ترجمتها لهذا التحول في كُل تفاصيل الأداء للشخصية .، و لُنشاهد أيضاً دورها في فيلم الغريب أمام العملاق يحيى شاهين ( المُتهم هو الآخر بالمُبالغة ) حيثُ أن كلاهُما - في رأيي المتواضع - جسد ببراعة معنى الأداء الكلاسيكي كما ينبغي ، و هو الإسلوب الوحيد الذي يُناسب تجسيد مثل هذه الأعمال الروائية الكلاسيكية كمُرتفعات وذرينج المأخوذ عنها الفيلم ، و قد شاهدتُ الفيلم الإنجليزي المأخوذ عن نفس الرواية و تابعت أداء أبطاله فتأكدت لي عظمة أداء و موهبة ماجده الصبّاحي و يحيى شاهين .
ناهيك عن الدور الذي أدته ماجده الصبّاحي كُممثلة و مُنتجة في تاريخ السينما العربية ، و بل و في تاريخنا الإجتماعي أيضاً ، و هو دورٌ أزعُم أنه لا يوجد من يطاول قامتها فيه سوى رُبما المُنتجة آسيا ، لكن تبقى ماجدة متفوقةً عليها بفارق تفوقها عن آسيا في الأداء التمثيلي ، فضلاً عن الجمال الظاهر و الكامن والذي ليس بالضرورة أن يفهمه الكثيرون .

                                                                                                    طارق فهمي حسين
                                                            سبتمبر ٢٠١٩
 

بوح المُبدعين / أُسامة الرحيمي .

#هذا_الكتاب #بوح_المُبدعين #أُسامة_الرحيمي



و كأن الكاتب الصحفي أُسامة الرحيمي واحدٌ من كتيبة الجيل الذهبي للصحافة المصرية ، و كأنما إدخره الزمان و "أجّل " ظهوره عن ذلك الجيل لنُعاصره الآن فتسقُط حُجة بعضنا في الترحُم علي الصحافة المصرية والشكوى من اختفاء الموهوبين المُلتزمين مهنياً و أخلاقياً المتمكنين من أدواتهم و المُدركين لدور الصحافة الأوسع و الأشمل من " الخبرية " و المتجاوز حدود الخبر إلى الثقافة و التثقيف .
عن كتابه الهام " بوح المُبدعين " أتحدث ، حيثُ يضُم الكتاب ثلاثين حواراً صحفياً مع ثلاثين من المُبدعين و المُفكرين في مُختلف المجالات .
المُقدمة التي وضعها الكاتب أُسامة الرحيمي للكتاب جديرةٌ في حد ذاتها بأن تشملها مناهج التدريس بكُليات الإعلام و أقسام الصحافة ، فهي دليلٌ حقيقي لكُل صحفي أو طالب صحافة يأخُذ هذه المهنة على محمل الجد و الاحترام للمهنة و للقاريء و لنفسه ، فلم يبخل أُسامة الرحيمي في مُقدمته بأي من أسرار و حرفيات و آداب الحوار الصحفي كما يلتزم هو بها ، و كما ينبغي أن تكون ، ذلك علي عكس ما يفعله الكثير من الكبار - ليس في مجال الصحافة وحده - من الإحتفاظ بأسرار النجاح لأنفسهم بُخلاً بها و حرصاً على الإحتفاظ بما يظنونه " سر تميزهم " ، لم يفعل أُسامة الرحيمي مثلهم ، و إنما فتح خزانة أسرار تميزه الكبير في إجراء الحوارات الصحفية لكُل قاريء للكتاب ، و لا أظنه فعل ذلك عن " سذاجة " ، بل رُبما يتهمه البعض " بالدهاء " إذ يفعل ذلك ليتلقى المديح و الثناء ، و هو مُدرك و مُطمئن تماماً أن " بوحه " بكُل أسرار " الصنعة " ليس كافٍ وحده لمطاولة ذيل ثوب نجاح أُسامة الرحيمي ، فإرشاداته في المُقدمة مسكونة بتوافر شروط قد تكون " تعجيزية " للكثيرين ، من ذلك التمتُع بالدأب و الصبر على قراءة او مشاهدة  كُل أعمال الشخصية التي سيُجرى معها الحوار، و أن يتمتع الصحفي بمخزون ثقافي كالذي بناه لنفسه أُسامة الرحيمي على مدار عقود ، فضلاً عن الحس الإنساني و الالتزام الأخلاقي الذي يتمتع به أُسامة الرحيمي ، و الذي لايتوافر إلا لقلة نادرة من البشر فما بالنا بالصحافيين ؟!
إنتقاء ضيوف حوارات أُسامة الرحيمي في هذا الكتاب إنتقاءٌ عجيب و مُثير للدهشة و الإعجاب معاً ، فكأنما شكل أُسامة الرحيمي داخل ذاته لجنة مُحايدة متنوعة الآراء و الاهتمامات و الانحيازات أيضاً فلا نجد الأسماء المُختارة تحكُمها الشُهرة مثلاً ( بالمعنى الجماهيري الواسع ) و هذا لا ينفي أن أغلبهم من المشاهير بل من الأوسع شُهرة و في مُختلف مجالات الإبداع ، من نجيب محفوظ إلى محمود حميدة ، لكننا نجد أيضاً بين الأسماء من هُم من ذوي القيمة الكبيرة و الهامة و إن لم ينلهم بريق الشُهرة الجماهيرية العريضة ربما لطبيعة إهتماماتهم و تخصصاتهم حيناً ، أو لزهدهم و ترفعهم أحياناً ، فيأتي حوار أُسامة الرحيمي ليُسلط الضوء و يُزيح الظل عن شموس جديرة بالسطوع .
كما أننا لانجد أن أُسامة الرحيمي يقتصر على التحاور مع شخصيات يؤمن بها و ينحازُ إليها مُسبقاً ، بل تتسع دائرة حواراته لتشمل البعض ممن له تحفظ أو آخر عليهم - كما يُفصح في بعض مُقدمات الحوارات ، و لعل بعضنا كقُراء يُشاركه هذا التحفُظ أو ذاك تجاه هذه الشخصية أو تلك ، و هُنا تظهر - و على مدار الحوار - التركيبة أو الوصفة السحرية لحوارات أُسامة الرحيمي الذي يأتي لمحاوره حاملاً " تحفظاته و محولاً إياها إلى " تساؤلات " محُملة بكُل التهذيب و الانفتاح علي كُل الإجابات- مُفسحاً بنعومة شديدة - المجال لضيفه لتفسير نفسه و شرح دوافعه ، و قد لمستُ كقاريء أن انفتاح المحاور أُسامة الرحيمي و استعداده لتفهُم الدوافع لدى ضيفه ، هو انفتاح حقيقي مُفعم بالإنسانية خالي من الأحكام القاسية و المثالية المزعومة ، و ليس مُجرد حيلة صحفية أو فخ منصوب للضيف ، حتي أن ذلك جعلني أنا كقاريء لديه أحياناً ذات التحفُظات تجاه هذه الشخصية أو تلك ، جعلني أخرُج من بعض الحوارات بنظرة مُختلفة للضيف عما كانت لدي تجاهه قبل قراءة الحوار !
الكلام عن هذا الكتاب / المرجع الهام يُمكن أن يطول بل و أن يُقارب عدد صفحات الكتاب ذاته ، و ذلك لشدة أهميته و لتعددُ مستويات الفهم و المعاني التي تشملها دفتي هذا الكتاب " بوح المُبدعين ".
ثلاثون حواراً مُتميزاً مع ثلاثين مُبدعاً في مُختلف مجالات الإبداع الفني و الأدبي و الإنساني ، من الشيخ أبو العنين شعيشع و د. محمود حافظ إلى سعيد شيمي و محمود حميدة و داوود عبد السيد و المُخرج المسرحي أحمد إسماعيل ، و من محمد سلماوي و أحمد عبد المُعطي حجازي إلى إبراهيم عبد المجيد و محمد المخزنجي و منى الشيمي و حتى بطرس غالي ، ثلاثون حواراً لن تجد فيها أسئلة مما عهدناه أحياناً كثيرة ، جميع أسئلة هذه الحوارات ، و بالتالي إجاباتها " منزوعة السطحية " لذا لزم التنويه .
حوارات أُسامة الرحيمي في هذا الكتاب تُعرفنا من جديد على بعض من ظننا أننا عرفناهم طويلاً و جيداً من المُبدعين ، و تُقدم لنا بعض ممن لم نعرفهم و كان يجدر بنا أن نعرفهم ، حوارات هذا الكتاب تستفزنا و تحفزنا للإطلاع علي ما لم يسبق لنا الإطلاع عليه من أعمال هؤلاء المُبدعين ، بل و إعادة الإطلاع على ماسبق لنا الإطلاع عليه من جديد ، و هاأناذا مثلاً أسعى وراء كُل ما تصل إليه يدي من إبداعات د. محمد المخزنجي ، و كذا إعادة الإستماع لكُل ما يُمكنني من قراءات الشيخ أبو العنين شعيشع للقُرآن الكريم...
            
                                                                                                   طارق فهمي حسين
                                                                                                     سبتمبر ٢٠١٩

السبت، 31 أغسطس 2019

#شوارد_حرة .

إمبارح إبني اللي ما خلّفتوش
زارني ف منامي و ما عرفتوش
كان جاي يحكي لي عن أحفادي 
اللي للدُنيادي .. ماجوش ! 
====
مات الحفيدُ و الولد
ماتوا قبل أن يولدوا
فما أتاني منهُم أحد 
و لم يتعسوا، و لم يسعدوا !
==== 

                         طارق فهمي حسين
                                    أغُسطس ٢٠١٩  

الخميس، 29 أغسطس 2019

عرائس " طنط بدر "


                                                              عرائس" طنط بدر "
                                         ===========





أينما تجولتُ في شقتي الصغيرة صادفتُ إحداها تنظُر لي و تبتسم! إنها عرائس الفنانة الكبيرة" بدر حمادة" أو" طنط بدر" كما عرفتُها طيلة عُمرى عبر زمالتها وصداقتها الوطيدة مع أُمي على مدار عقود  وحتى رحيل إحداهُما ثُم الأُخرى ... عرائس"طنط بدر" التي ظلت تُزودني بها علي مدار حياتي واحدةً تلو الأُخرى، مُنذُ نعومة أظافري وحتي حين زارتني مهُنئةً بزواجي، وبعد ذلك أيضاً وحتى رحلت عن دُنيانا تاركةً خلفها أجيال ممن شكلت عرائسها الجميلة جانباً هاماً من وجدانهم وذائقتهم، بل وأخلاقهمم التي كانت بعض قدوتهم فيها شخصيات صنعتها أيدي الفنانة بدر حمادة وأصابعها الطويلة الرقيقة، ووضعتها على خشبة مسرح القاهرة للعرائس لتنبض بالحياة وتخفق معها قلوبنا نحنُ أطفال ذلك الزمان، واليوم وأنا أفتح إحدى" دُرف النيش" لأُحضر لنفسي طبقاً استوقفني" الغفير النظامي" المصنوع هو وكوفيته وعمامته وشاربه جميعاً من القماش، والذي كلفته" طنط بدر" مُنذ زمن بحراسة محتويات النيش في بيتي ... إستوقفني وألقى علي بعض أسئلة سريعة في صمتٍ مهيب،  فلما اطمئن إليّ وتحقق من أنني أحد أولئك الصغار الذين كانوا يملأون جنبات مسرح العرائس بالضجيج والأسئلة، سمح لي بفتح النيش والتقاط ما جئت لأجله !
هذا الغفير وصبيةٌ فلاحة خشنة الشعر، وطفلةٌ ذات شعرٍ أحمر .. هؤلاء الذي قُدوا من قُماش لكنهم ينبضون بحياة صامتة صاخبة،  ينطوي صمتهم على عُمر من الذكريات ...  هُم بعضُ ما تبقى من طفولةٍ سأظلُ أتمسك بها ما بقي في صدري نَفسٌ يصعد ويهبط، أما " طنط بدر" فستبقى بوجهها الصبوح وعيونها الملونة الجميلة وعُنقها المصري القديم الطويل، ستبقى واحدةً من صُناع بهجة طفولتي ومن أنقى ما علق بوجداني من قيم وذكريات ...

طارق فهمي حسين
أغُسطُس ٢٠١٩

الخميس، 15 أغسطس 2019

أهلا بكين... أهلا محمود الشنواني .

#أهلاً_بكين.
#محمود_الشنواني.
==========

إعتدتُ مُنذ سنوات ألا أخرُج في الأعياد سوى إلى زيارة عائلية أو أخرى في اليوم الأول للعيد ،ثُم ألوذ بجدران البيت طيلة العيد ، لكني هذا العيد قُمت بشيء مُختلف تماماً ، إذ سافرتُ إلى الصين ، نزلتُ في أحد فنادق بكين و تنقلتُ بين معالمها التاريخية و السياحية، زرت المعابد و المتاحف و الحدائق ، دخلتُ المدينة المُحرّمة ، و تجولتُ في الشوارع الواسعة و الميادين الكبيرة ، و كذا الأزقة الضيقة و الأسواق و الأحياء الفقيرة  ، راقبتُ أحوالها و أحوال أهلها ، كما ركبتُ القطار " الطلقة " إلى مدينة تيانجين حيثُ قضيت يوماً بين معالمها ،و سبحت في تاريخ الصين و حضارتها و تساؤلات مُستقبلها و مُستقبل العالم معها ، كانت بحق أجازةُ عيد مُمتعة و مُفيدة روحياً و ثقافياً و على جميع المستويات .
الرحلة من المفروض أنها استغرقت إسبوعين ، لكنني عشتها في نحو الساعتين كما أنني لم أُفارق خلالها مقعدي في بيتي ، ذلك أنني عشتها  بين دفتي الكتاب الرائع " أهلاً بكين " الذي سجل فيه الصديق الرائع د. محمود الشنواني وقائع و انطباعات رحلته هو الشخصية إلى الصين في عام ٢٠١٤ .
هذا هو الكتاب الثاني الذي أقرأه للدكتور محمود الشنواني بعد كتابه الرائع أيضاً " ثلاثون عاماً في صُحبة نجيب محفوظ " ، و بذلك أكون قد قرأت " كُل " ماصدر للكاتب حتي الآن من كُتب ، و إن كان بعكس الترتيب الزمني للصدور !
و على غلافي كلا الكتابين لاحظتُ حرص د. محمود الشنواني على إغفال وضع ( د. ) التي تُشير إلى صفته كطبيب أو كحامل للدكتوراة كما يحرص أغلب من يملكون إحدى الصفتين أو كلتاهما ( كما في حالة الدكتور محمود ) ، و هذا الإغفال العمدي يتسق تماماً مع شخصية محمود الشنواني الإنسان المتواضع ، و المتواري في خجل يليقُ بالحُكماء الذين أحسبه واحداً منهم بكُل تأكيد ، كما أن هذا الإغفال لحرف الدال المتبوع بالنقطة يُشير أيضاً إلى أن الكاتب حريصٌ على أن يُقدم لنا مايكتب بأكثر من حرصه على أن يُقدم لنا نفسه ، و لو أوكل الأمر لي شخصياً لوضعت قبل إسم " محمود الشنواني " حرف " الألف . " ليس بمعنى الأُستاذ ، و إنما بمعنى " الإنسان ".
الكتاب كما يبدو من عنوانه و موضوعه ينتمي لما يُعرف بـ " أدب الرحلات " ، لكننا حين نقرأه نكتشف أن في هذا الوصف تحجيم لايليق بالكتاب و مضمونه ، فأدب الرحلات بالفعل موجود بين صفحات الكتاب ، لكنه ليس بالتأكيد كُل ما في الأمر ، و لا حتي " جُله " ، إذ نلمس بوضوح في تناول الكاتب لكُل ما يراه بُعداً إنسانياً و فلسفياً لاتُخطئه العين ، و نلمس بوضوح معنى أن يكون الإنسان حتى و هو في حالة السائح الذي يقضي أجازته ، معنى أن يكون مُثقفاً واعياً ، وقارئاً فاهماً للحياة و البشر و التاريخ ، فالرحلة عبر صفحات هذا الكتاب المُمتع بحق ، و المُفيد بحق ، لم تكُن إلى الصين فقط ، و إنما كانت أيضاً إلى التاريخ و الفلسفات الشرقية ، و مع ذلك كُله و قبله و بعده : رحلة مع الإنسان إبن حضارته و بيئته ، و المُسلح بثقافته الشخصية و مواقفه الواضحة من قضايا الكون ، حين يتصل مع الإنسان و تاريخه و حضارته في بلد آخر و ثقافة أخرى على بُعد آلاف الأميال .
الرحلة مكتوبة بوعي و إنسانية ، و بعذوبة مُمتعة ، و أيضاً بحضور موهبة روائية لا تخفى علي القاريء ، و تدفعنا لتوقع و ترقُب الإنتاج الأدبي و الفكري المنتظر للكاتب محمود الشنواني ، و الذي يمتلك إسلوباً سلساَ و حميماً يحسده عليه كتاب كبار محترفون ، كما يمتلك قُدرة مُدهشة على " التكثيف " إن جاز التعبير حيثُ استطاع أن يصحبنا في رحلته المُمتعة بتفاصيلها و يصف لنا مازار من أماكن و ما شاهد من نماذج بشرية ، و كذا يبثنا إنطباعاته و تأملاته الهامة و العميقة بالفعل، و ربما أيضاً بعض آراءه السياسية و انحيازاته الاجتماعية  ، كُل ذلك بين دفتي ١٣٨ صفحة فقط دون أي اختزال أو بتر ، و بالتأكيد دون أي "مط " أو تباطؤ ، و هو نفس ما استطاع أن ينجزه أيضاً في كتابه الثاني " ثلاثون عاماً في صُحبة نجيب محفوظ " و الذي لم يكد يُتم  صفحته رقم ١٤١ .
قد يلاحظ البعض أنني لم أناقش تفاصيل مضمون الكتاب بقدر ماتحدثت عن الكاتب و إسلوبه و ثقافته المُنعكسة بوضوح إيجابي علي كتابته ، ذلك أنني لم أرد أن أفسد عليكم متعة قراءة الكتاب ، و الذي لن يستغرق من أكثر القُراء تململاً و عدم صبر على القراءة أكثر من جلسة واحدة  ( ليس عن خفة تعتري الكتاب و إنما لشدة سلاسته و استرساله )يخرج منها وقد سيطر عليه نهم القراءة و البحث عن المزيد من كتابات محمود الشنواني و صُحبته المُمتعة عبر السطور و الورق المطبوع.

الكتاب صادر عن دار " صفصافة " عام ٢٠١٥ ، و التي أصدرت كتابه الثاني أيضاً 
و يقع في ١٣٨ صفحة كما أسلفت ، أتبعها المؤلف بمُلحق في خمس صفحات يعرض فيه نُبذة عن بعض الكُتب التي ساعدته قراءتها  قبل و أثناء رحلته إلى الصين ، و التي يرشحها لأي زائر للصين ، و هي لفتة من المؤلف تؤكد على إحترامه لعقل قارئه من ناحية ، و على حرصه علي نشر المزيد من المعرفة و الثقافة من ناحية أُخرى.
تبقى مُشكلةٍ واحدة هي كيفية العثور علي الكتاب ، و الذي ظللتُ أبحث عنه في عدد من المكتبات و أترك رقم تليفوني بها لإبلاغي حين يتم توفير نُسخة منه دون جدوى حتى أهداني الصيق الغالي محمود الشنواني نفسه هذه النُسخة الغالية بعد أن زادها جمالاً و قيمة فوق قيمتها بأن وضع عليها إهداءاً رقيقاً بخط يده لشخصي المتواضع .
و هذا يُحيلنا إلى دار النشر التي أظُن أنه قد آن الأوان لتُصدر طبعةً ثانية من هذا الكتاب الذي أعلم أن الكثير من القُراء يتلهفون لقراءته .

                                                طارق فهمي حسين
                                                 أغسطس ٢٠١٩

الخميس، 6 يونيو 2019

يا ااااا جييييمي ...

يا ااااا جييييمي ...
====



#سيد_موستا                             هاتوحشنا يااا جيمي ي ي
 
هو الإسم الذي اختاره لنفسه ليشتهر به ، ولعله قد اكتشف الآن أنه قد تسرع وربما تورط في حرمان إسمه الحقيقي من أن يشتهر بعد أول دور كبير له .
رغم أنني لم أتابع - كدأبي منذ سنوات - مهرجان الدراما الرمضانية ، إلا أنني صادفت منذ حوالي إسبوع إحدى حلقات مسلسل "بدل الحدوتة تلاته " للرائعة متفجرة المواهب دنيا سمير غانم ، وبالطبع لم أتوقف عن متابعة الأسبوع الأخير من هذا العمل اللطيف مستمتعا بجمال وتلقائية أداء دنيا وهشام ماجد فضلا عن جاذبية الجميلة سلوى محمد علي وعمرو وهبة ومعظم فريق العمل وكذا العودة المعقولة لسماح أنور ، لكن فرض نفسه وبشدة هذا الممثل المفاجأة " أوتاكا " في دور سيد موستا : حضور وخفة دم طبيعية دون مبالغة في الإستظراف ( كما يفعل ممثل آخر في نفس العمل مثلا ) ، فضلا عن صوته المميز واختياره الذكي لنمط الكراكتر الذي أداه بسهولة ودون أن يحيد عنه طيلة العمل .
ذكرتني هذه البداية الناجحة بل المبهرة ببداية الراحل الجميل محمد شرف في مسلسل أرابيسك في دور سامبو حيث أبهرني تماما وقتها وتساءلت : وماذا بعد ؟ متصورا أن شكل محمد شرف وتكوينه العام ، فضلا عن براعته في تقمص شخصية "سامبو" ، كل ذلك سوف يحصره في خانة محددة ومحدودة من الأدوار ، لكن محمد شرف ، وعلى مدار مشواره الفني ، أثبت أنه موهبة حقيقية وقدم عشرات الأدوار الناجحة والمتنوعة رحمة الله عليه .
والآن أعود لنفس السؤال القديم وأوجهه بكل إعجاب وامتنان كمشاهد إلى " أوتاكا " كما أسمى نفسه : وماذا بعد ؟
وبكل التمنيات الطيبة أتطلع إلى إجابة - عملية - تكون على نفس مستوى بلاغة إجابة الراحل الجميل محمد شرف ، وبعيدة عن سكة الاستسهال "السبكية " .
إتفقنا ياااا جيمي ي ي ي ؟
طارق فهمي حسين
٣٠ رمضان ١٤٤٠

الجمعة، 1 فبراير 2019

المُباراة النهائية

المُباراة النهائية 

رأيتُ فيما يرى اليقظان ملعباً لكُرة القدم و قد إمتلأت مُدرجاته بشباب تضيء وجوههم بالعزة و الكرامة و الجسارة ، بينهم ٧٢ من مُشجعي كُرة القدم ، جميعهم يرتدي ثياباً بيضاء تُخضبها الدماء و تملأها الثقوب ، عدا مُشجعي كُرة القدم الــ ٧٢ إذ تخلوا ثيابهم من الثقوب و إن كان بينهم من مزقت جسده طعنات في أكثر من موضع ، و بعضهم الآخر يجلس و قد تهشمت عظامه و إن بدت أجسادهم من الخارج متماسكة كشرائح البسكويت المُهشمة داخل غُلافها الورقي السليم اللامع فيما يبدو أنه من أثر السقوط من إرتفاع كبير ! لكن وجوه الجميع باسمة يعلوها الرضا ، في حين تمتليء دائرة مُنتصف الملعب و ما حولها بشرذمة من أشباه البشر مُكفهري الوجوه زاغي النظرات ، من بينهم تسعة عشر يرتدون زياً موحداً حائل اللون و يعلو وجوههم كبر بغيض يحاول أن يُغالب ما هُم فيه من فزع !
و في مكان لوحة الإستاد الكبيرة كان هُناك تمثال رمز العدالة الشهير لسيدة ترفع إحد ذراعيها عالياً حاملة ميزان العدالة ، لكنها هذه المرة لم تكُن معصوبة العينين بل كانت عيناها شديدة الإتساع و سوادهما شديد اللمعان بما ينم عن حدة إبصار غير عادية ، و بياض العينين ناصعاً خالياً من أي شائبة ! ألقت بنظرة حانية نحو المُدرجات و إبتسمت فتساقطت من العيون دموع فرحة و جفت كُل الدماء و إلتأمت كُل الجراح و تبادل جمهور المُدرجات التهاني و الأحضان و تعالت أصوات الزغاريد ...
ثُم ألقت بنظرة ساخطة إلى أرض الملعب فأضرمت النيران في دائرة المُنتصف و بدأت شرذمة الأشقياء في تبادُل الإتهامات و التشابك بالأيدي ، و أخرج بعض الـتسعة عشر ذوي الزي الموحد أسلحة نارية و بدأوا في إطلاق النار على بقيتهم ، في حين حاول البعض الآخر أن يلوذ بالفرار لكن النار تعالت بشدة و بدأت جلود وجوههم في التساقط ، و إنصهرت الأسلحة في أيديهم فإختلط الحديد باللحم و ذابت العظام و تعالت صرخاتهم لكنها - للعجب - لم تكن صرخات بشرية و إنما كانت أشبه بنهيق الحمير و نعيق الغربان ، و مع تعالي النيران و إستعارها أكثر فأكثر ذابوا جميعاً و لم يتبق لهم من أثر سوى ما يُشبه روث البهائم فيما عدا أن رائحته كانت كريهة بأكثر مما يمكن تصوره على نحو تبدو رائحة روث البهائم مُقارنة به أشبه بروائح العطور الفاخرة !!!
سكنت النيران في أرض الملعب ، و سادت لحظات من الصمت المهيب ثم رفعت سيدة العدالة عينيها إلى السماء و نزلت على ركبتيها فحذا جميع أهل المُدرجات حذوها و تساقطت من العيون دموع الرضا و الإمتنان ، وتصاعدت في الجو رائحة كالمسك بل أطيب كثيراً ، و تقدم فتى صغير مليح الوجه يجر عربة بطاطا بين المُدرجات حتى إجتاز بها جميع الصفوف بعد أن لقم كُل واحد في فمه قطعة من البطاطا شديدة الحلاوة معسولة المذاق ، فوضع عربة البطاطا في أحد الأجناب و تركت له سيدة العدالة مكانها العالي و تراجعت إلى آخر الصفوف و وقف بائع البطاطا الصغير مُنتصب القامة رغم ضآلة حجمه و رقة جسده ليؤم الجميع في صلاة خاشعة
و ما أن إنتهت الصلاة حتى إنتظم الجميع في صفوف طويلة خارجين من الإستاد الكبير صاعدين في هدوء و جلال إلى السماء ......
إستيقظت من " صحوتي " و وجهي غارق في الدموع مُتمتماً : اللهم اجعله خير ... هو خير ... هو خير ....
                                                                                                               طارق فهمي حسين    
١ فبراير ٢٠١٧

الاثنين، 14 يناير 2019

الشمندر وحيلة خالد الخميسي !

                                                      الشمندر وحيلة خالد الخميسي   !                                                       
============ 

إنتهيتُ بالأمس من قراءة رواية "الشمندر " وكُنتُ أتصور أنني سوف أجلسُ فوراً لكتابة رأيي ، لكن الرواية - بحق - أجهدتني تماماً حتى أنني إحتجتُ لبعض الوقت لاستعادة نفسي واسترداد وجداني من أجواء الرواية وعالم شهاب الشمندر.
الرواية كما يستدرجنا مؤلفها تزعُم أنها تتعلق بالسيرة الذاتية للفنان التشكيلي شهاب الشمندر ، لكن بعد أن يتوغل القاريء في عالم الشمندر يجد أنه يلتقي في كُل رُكن وذكرى بشخص يعرفه ،أو شخص قابله ولو مرة في الواقع ، كما يلتقي الواحد منا داخل هذه الرواية أكثر من مرة بنفسه وجهاً لوجه ، وفي مراحل مُختلفة من العُمر !
لعبةٌ ماكرة مارسها خالد الخميسي في هذه الرواية ، وأفلحت أيما فلاح ، ، أيضاً المستوى غير المحدود للبوح والتصريح لا التلميح في هذه الرواية قد يصدم القاريء المُتحفظ ، لكنه يتسق تماماً مع تفاصيل شخصية بطل الرواية سواء لكونه فناناً تشكيلياً جانحاً سيرياليُ النزعة ، أو على مستوى نشأته إجتماعياً وثقافياً وتعليمياً ، كما يتسق مع دائرة الشخصيات المُحيطة بها وجذورها متنوعة الأعراق والثقافات.
القارىء المُتحفظ ( وهذا ليس وصفاً سلبياً بالمُناسبة) قد يستهجن الكثير من سلوكيات بطل الرواية ، ويتخذ منه موقفاً سلبياً ، لكننا حين نصدقُ أكثر مع أنفُسنا ، خاصة حين تتقاطع ذكرى أو أُخرى من ذكريات شهاب الشمندر مع بعض المسكوت عنه من ذكرياتنا وتجاربنا الحياتية الشخصية ، نجد أنفُسنا مُضطرين لابتلاع حُكمنا الأخلاقي على بطل الرواية إلتزاماً بتوجيه السيد المسيح عليه السلام : " من كان منكُم بلا خطيئة فليرجُمها بحجر "
أعجبني جداً - على مستوى السرد - التنقُل في الزمن بحُرية تامة للأمام وللخلف دون تقيُد بتسلسُل وتوالي أوراق الأيام المُتساقطة من نتيجة الحائط ، وهو الأمر الذي يتسق تماماً مع تداعي ذكريات بطل الرواية وهو يُراجع حياته و آثامه ومُنجزاته الفنية أيضاً وهو يتأهب للرحيل
فقط أتحفظ على أن هذه الرواية رُبما تكون مكتوبة للقاريء المُثقف بأكثر من كونها موجهة للقاريء العادي ، لكنها تظلُ في مُتناول كُل مُحب للرواية بشكل عام حيثُ تتمتع رواية الشمندر بالعناصر الأساسية من قُدرة على "التسلية " والتشويق " والتعاطُف أيضاً مع الشخصيات في أكثر من موضع .
الكاتب خالد الخميسي في هذه الرواية ينتقل - مُجرباً - إلى مرحلة جديدة ومستوى جديد أيضاً كروائي ، وأظنه قد نجح في ذلك إلى حدٍ بعيد ، وإن كُنت أتمنى عليه أن يُفسح مساحة أكبر للقاريء البسيط العادي، ورُبما "المُتحفظ " أيضاً في قادم أعماله ، والتي بالتأكيد بعد قراءاتي المُتتالية لكُل ما أبدع ، أنتظرها - بشوق أكيد.

                      طارق فهمي حسين
١٤ يناير ٢٠١٩