النادي.
في بدايات عام ١٩٧٠قرر أبي أن يشترك لنا كأُسرة في أحد الأندية الرياضية الاجتماعية، بدأ التشاور مع الأصدقاء والجيران حول النادي الأنسب لنشترك فيه، وقد كانت جميع الأندية في ذلك الوقت مُتاحة تمامًا للاشتراك، حيثُ لم تكُن هُناك وقتها "رسوم" بالآلاف يتم دفعها كشرط للعضوية كما حدث بعد ذلك بعقود ويحدُث الآن، لكن حتى مع تلك التيسيرات المادية الشديدة التي كانت تجعل عضوية الأندية الرياضية مُتاحة للجميع؛ فإن الإقبال أو الحرص على ذلك كان مُنحصرًا في شرائح بعينها من الطبقة الوسطى المُتعلمة، وتحديدًا في المُدن وعواصم المُحافظات فضلًا عن بعض الشروط التي كانت تضعها الإدارات" المُنتخبة" لمُعظم تلك الأندية كضرورة حصول رب الأسرة وزوجته على مؤهل عال حتى يُمكن قبول الأسرة كأعضاء في النادي، وما شابه من شروط، ومثل هذه الشروط كانت بمثابة مقاومة من فئات بعينها لروح ورياح التغيير التي هبت علي المُجتمع المصري بعد مُنتصف عام ١٩٥٢وحتى بداية السبعينيات عندما بدأت تلك " الفئات " تسترد- للأسف- زمام الأمور شيئًا فشيئًا.
لكن على أية حال كانت هُناك في تلك الفترة مراكز الشباب والساحات الشعبية التي كانت تُغطي باقي قطاعات المُجتمع طبقيًا وجغرافيًا لشغل أوقات فراغ الأطفال والشباب على أفضل ما هو مُتاح، وكذا تكتشف من بين صفوف أبناء الشعب بمُختلف طبقاته المواهب الرياضية الكبيرة.
**
اصطحبنا أبي يومًا بعد يوم مع هذا الصديق أو ذلك الجار في زيارات استكشافية لبعض الأندية الأقرب جُغرافيًا لسكننا في "وسط البلد"، فذهبنا مع جارنا العزيز "عمو" عياد أسعد إلى نادي الصيد المصري بالدُقي، وكان عمي عياد يحمل رقمًا فريدًا لعضوية نادي الصيد، كان وأسرته العضو رقم (١٠)! لكن تلك قصةٌ أُخرى أحلم بأن أرويها قريبًا بإذن الله...
تجولنا في نادي الصيد فلاحظ أبي وأُمي معًا أن النادي يقع بين البيوت في حي سكني هو حي المُهندسين، وتُطل عليه " بعض " العمارات بشكل غير مُريح، كما أن النادي نفسه – في ذلك الوقت- كان يكاد ينحصر في المبنى الاجتماعي العريق ومنطقة" التيرو" حيثُ يُمارس الأعضاء هواية الرماية على الأطباق أو ما شابه، وبعض مرافق رياضية محدودة جدًا، وفيما عدا ذلك مساحات شاسعة “قفرا"!.. طبعًا بعد ذلك بسنوات طويلة تطور نادي الصيد على أيدي إداراته المُتتالية وصار من أجمل الأندية...
**
اصطحبنا عمي أحمد حمروش، وهو- كما هو معروف- أحد أبرز الضُباط الأحرار ومن كبار الصحفيين حيثُ كان رئيسًا لتحرير روز اليوسف، فضلًا عن كونه أحد أساتذة أبي وأصدقاءه المُقربين، كان حمروش يصف أبي بأنه" في معزّة ابني علاء" وكانت أُمي تروي لي أنه عند زواجها من أبي (وكان قد باع سيارته الأولى " البيتل السوداء" ليستعين بثمنها على إتمام الزواج مُعتمدًا على نفسه كما اعتاد) أرادا أن يُسافرا لقضاء شهر العسل، فلجأ أبي إلى أحد أشقاءه ليُعيره سيارته؛ فاعتذر! وروى أبي الواقعة مُتأثرًا أمام بعض أصدقاءه المُقربين وبينهم بالطبع أحمد حمروش، فما كان من حمروش إلا أن أخرج مفاتيح سيارته وناولها لأبي ليُسافر بها لقضاء" شهر العسل" وقد كان، لكن تلك أيضًا قصةٌ أُخرى...
اصطحبنا حمروش في جولة بنادي الجزيرة، وقد كان من أعضاءه بل كان عضوًا في مجلس إدارته في بعض الفترات، النادي شديد الاتساع والأناقة ولا يكاد المرء يجد ملحوظة سلبية واحدة تتعلق بالنادي ومرافقه وملاعبه ونظامه، لكن أبي لم يسترح إطلاقًا لنادي الجزيرة وأوضح لأُمي على مسمع مني ومن شقيقتي (كنت في سن الحادية عشر وشقيقتي أصغر بنحو أربع سنوات) أن " الوسط الاجتماعي بنادي الجزيرة غير مُناسب لما يُريد تنشئة أبناءه عليه، وأن القيم والمفاهيم التي تُعبر عنها الطبقة التي ينتمي إليها أغلب الأعضاء لا تتناسب مع قيمه وتوجهاته، فضلًا عن أن بعض السلوكيات والمعايير الأخلاقية لبعض أبناء تلك الطبقة ليست هي بالتأكيد ما يود أن يُعرّض أبناءه له خاصة وأن الأكبر( الذي هو أنا) علي أعتاب بدايات المُراهقة.
**
أيضًا رشح لنا الصحفي المعروف الأُستاذ عبد الرحمن فهمي (وهو ابن خال أبي) النادي الأهلي، وكان هو- ومازال- من أعضاءه البارزين حتى أنه ترأس تحرير مجلة الأهلي عند تأسيسها، لكننا وجدنا أن مساحة النادي الأهلي (إذا استبعدنا استاد التتش ومُلحقاته) صغيرة بشكل لافت، بل أنه لم يكُن يحتوي- في ذلك الوقت- على حمام سباحة أوليمبي رغم وجود فريق سباحة من أهم الفرق المصرية يزخر بأبطال مصر والعالم، فضلًا عن رفضي أنا وشقيقتي للفكرة بسبب زملكاويتنا الشديدة!
**
أخيرًا اصطحبنا "عمي " يوسف صبري الصحفي الكبير وتوأم نضال أبي مُنذ نهايات الأربعينيات حيثُ تزاملا في أكثر من جريدة ومجلة، وأدارا سويًا مجلة روز اليوسف قبل منتصف السبعينيات، يوسف صبري كنائب رئيس تحرير وأبي كمُدير تحرير تحت قيادة العظيم عبد الرحمن الشرقاوي، بل أن أبي ويوسف صبري حملا السلاح معًا ليقودا المُقاومة الشعبية في الإسماعيلية منذ يوم ١١ يونيو ١٩٦٧ ولمدة ٩٣ يومًا ولم يعودا إلا بعد أن أعاد الجيش تنظيم نفسه وبدأت قواته تعود بشكل واسع لخط القنال، حتى أن يوسف صبري وفهمي حسين ( أبي) أصدرا سويًا كتابًا صغيرًا عام ١٩٧٢ يتحدث عن هذه التجربة الفريدة وكتب له المُقدمة عبد الرحمن الشرقاوي... وهذه، هي الأُخرى، قصةٌ أُخرى فاعذروني للتشعُب لكنها دواعي تداعي المعاني والذكريات...
أقول: اصطحبنا عمي يوسف صبري إلى " نادي القاهرة الرياضي" وهذا النادي - لمن لا يعرفونه- يقع عند نهاية كوبري الجلاء في أول جزيرة الزمالك بجوار متحف محمود مُختار، وفي مواجهة بوابة" القُبة السماوية" وشباك تذاكرها في ذلك الوقت؛ وكانت تقع داخل أسوار أرض المعارض المُقابلة للنادي، والتي صارت فيما بعد أرض دار الأوبرا المصرية وحتى يومنا هذا.
بمُجرد دخولنا لنادي القاهرة الرياضي انشرحت صدورنا جميعًا، فهو – على خلاف ما استعرضناه من نوادٍ أُخرى- كان" يُشبهنا" تمامًا! يُشبه بيتنا.. نظيف، بسيط، أنيق دون تكلُّف، وناسه، أعني أعضاءه- في ذلك الزمن- كانوا أيضًا يُشبهوننا تقريبًا في كُل شيء.. المظهر والملبس والسلوك، عندما تدخُل من البوابة الرئيسية للنادي يستقبلك مُنحدر عميق يُمثل الطريق إلى داخل النادي لتكتشف أنه " وادي" مُنخفض عن مُستوى الشارع بل وعن مُستوى النيل نفسه، واحةٌ في قلب جزيرة! والنادي مُتاخم للنيل، وتُطل " تراساته" على النيل ليس من أحد جوانبه، وإنما" بالطول" فحين تُطل من أحد "التراسات" تجد نفسك وكأنك على سطح سفينة تمضي على صفحة النيل باتجاه المنبع.
النادي واحة حقيقية وارفة يختفي فيها صوت الشارع تمامًا وكذا تلوثه، المرافق- في ذلك الزمن- أنيقة وبسيطة، كان النادي كما عرفنا وقتها يتميز بواحد من ثلاثة حمامات سباحة أوليمبية فقط على مُستوى مصر كُلها، حتى أن سباحة مصر الأسطورية سحر منصور ابنة النادي الأهلي كانت – في إحدى الفترات- تأتي للتدرب في حمام سباحة نادي القاهرة وقت أن كان النادي الأهلي بصدد تحديث حمام سباحته ليصير أوليمبيًا- كما أن بطل العالم في الغطس" وجيه أبو السعود كان أحيانًا يحضر للتدرب في حمّام الغطس الخاص بنادي القاهرة، والقفز من فوق بُرج الغطس الشهير الذي كان يتميز به النادي، والذي تستطيعون مُشاهدته بالرجوع إلى فيلم " النظارة السوداء" وعدد كبير من الأفلام المصرية التي تم تصوير مشاهد منها في نادي القاهرة ، فهذا البُرج قد تمت إزالته في عقود تالية " مُباركة" وتم رفع أرضية حمام الغطس نفسه لينخفض عُمقه من خمسة أمتار إلى أقل من مترين بما لم يعد يسمح باستخدامه للغطس، ففقد النادي إحدى الألعاب التي كان مُتميزًا فيها وتُحقق له بطولات!
**
اكتشف أبي وقتها أن ابن عمه (لواء طيار صلاح التهامي حسين) من أعضاء هذا النادي، بل وكان رئيسًا لمجلس إدارته في إحدى الفترات التأسيسية، والتي تم تحويل النادي خلالها من نادٍ للعاملين بالبلدية (وكان بالفعل يحمل اسم: نادي البلدية) إلى نادي رياضي مفتوح للعضوية العامة وصار اسمه نادي القاهرة الرياضي.
**
في الفقرة السابقة تعمدت ذكر الصفة العسكرية لعمي صلاح التُهامي حسين، ليس على سبيل التفاخُر، وإنما لارتباط صفته هذه بواقعة شهيرة في أوساطنا العائلية لطالما تجنبتُ أن أرويها لشدة غرابتها (لمن لا يعرفون طبائع رجال "آل حسين") فدائمًا ما أتوقع عدم التصديق أو ظن المُبالغة، وإني لأعذُر من لا يُصدقها لشدة غرابتها بالفعل- وأُكرر- خاصة لمن لا يعرفون" الحساينة"! وإن كُنت أؤكد أن الواقعة صحيحة تمامًا بحذافيرها، وبالمُناسبة فهي ليست أغرب وقائع وحكايا هذه العائلة!!!
**
يُغريني هُنا، وبشدة، الخروج عن السياق لأروي الواقعة سريعًا:
في نهايات الخمسينيات وبدايات الستينيات، وثورة يوليو في عنفوانها، كانت "لجنة تصفية الإقطاع" تقوم بعملها لإعادة توزيع الأرض الزراعية على الفلاحين، وكذا تشجيع صغار المُستأجرين على تسجيل عقود الإيجار لدي الجمعيات الزراعية بالقُرى، وكان هذا التسجيل يعني وقتها أن يتمتع الفلاح الصغير المُستأجر بحقوقه التي أقرّها له قانون الإيجارات الزراعية الجديد مثل تحديد الإيجار بسبعة أمثال الضريبة، وعدم فسخ عقود الإيجار من طرف واحد، فضلًا عن التمتُع بخدمات الجمعيات الزراعية من بحصص البذور والأعلاف وتوجيهات ومشورة المُهندسين الزراعيين بالجمعية وكذا خدمات بنوك التسليف الزراعي التي أنشأها الوزير د. حسن عباس زكي ونشر فروعها في ربوع الريف المصري... إلخ ، هذه البنوك التي حضرت الوفود من كُل الدول الإسلامية لمصر لتدرس تجربة إنشائها، وذاك الوزير الذي قال عنه عبد الناصر- مُحقًا- أنه يستحق تمثالًا من ذهب.
كانت عائلة حسين( عائلة أبي) من متوسطي الملكيات الزراعية، لذا لم يتم تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي المُتتالية على أي من أفرادها حيثُ لم تتجاوز ملكية الفرد الواحد منهُم ( في حدود علمي) الحد الأقصى المسموح، لكن للأمر وجه آخر، ففي قريتنا" بني حسين" لم يتم تسجيل حالة واحدة يتقدم فيها أحد المُستأجرين لأراضي العائلة الزراعية لتسجيل عقد الإيجار لدى الجمعية الزراعية، ولفت هذا انتباه لجنة تصفية الإقطاع، وبالبحث، وبسهولة، اتضح لهم أن نفوذ العائلة لدى أهل القرية يحول دون الإقدام على هذه الخطوة، أعني تسجيل العقود والبقاء في الأرض، واستقر في يقين اللجنة أن مركز هذا النفوذ في تلك الفترة يتركز في اثنين من أشقاء أبي هُما أحمد فهمي حسين، وعبد الرحمن فهمي حسين، فصدر أمر باعتقالهما تحت بند" إقطاع النفوذ" وتم بالفعل ترحيلهما إلى مُعتقل جبل الطور، الطريف أنه حتى بعد اعتقالهما لم يتقدم أحد للجمعية الزراعية في بني حسين لتسجيل عقد إيجار! ، والأكثر طرافة، والأبعد مغزى أيضًا أن أعمامي هذين بالتحديد ، وفي عقودٍ تالية ، تعاقبا علي منصب عُمدة بني حسين وبقي كلاهما في منصبه سواء في فترات انتخاب العُمد أو فترات التعيين حتى وفاته ليتولى أخوه من بعده حتى وفاته أيضًا، ثُم الأبناء .. حتى يومنا هذا!
عاد الطيار الحربي الشاب (وقتها) صلاح التُهامي حسين إلى قريته لقضاء إجازة العيد، وفي زيارة واجبة مُعتادة لبيت عمه الملاصق لبيت والده وَجَدَ أرملة عمه حزينة باكية إذ يقضي اثنان من أولادها العيد في المُعتقل بعيدًا عن حنانها وطعامها وعن دفء" البيت الكبير"... تأثر الطيار صلاح جدًا للموقف وطلب من " نجيّة هانم" أن تُجهز كُل ما تُريد إرساله لإبنيها وتعهد أمامها أن يُسلمهما ما سوف ترسله بنفسه!
عاد الطيار صلاح التُهامي حسين إلى القاعدة الجوية التي يخدم بها مُحملًا بما حملته إياه زوجة عمه وتخير ساعةً للصفر وأقلع بطائرة حربية دون تصريح ليهبط في قاعدة جبل الطور، وبهيبة بدلة الطيار وصل إلى مكتب قائد المُعتقل، ثم التقى بابني عمه وسلمهما ما ارسلته الوالدة وأبلغهما تحياتها، وعاد إلى القاعدة ليُلقى القبض عليه بالطبع ويتم تحويله للنيابة العسكرية تمهيدًا لمُحاكمته.
وبتماسك شديد أوضح الطيار صلاح التُهامي حسين دوافع ما فعل وأكد أنه لو تكرر الموقف ألف مرة لفعل نفس ما فعل!
بعد تحقُق النيابة العسكرية من خلفيات الواقعة، والتأكد من أنه ليس وراءها "أمرٌ" آخر، فضلًا عن اعتبارات أخرى كثيرة منها انتشار أفراد هذه العائلة في شتى فروع القوات المُسلحة وفي مختلف الأسلحة والرُتب، لم يتم تحويل الطيار صلاح التُهامي حسين للمُحاكمة، بل وأكمل خدمته العسكرية وخاض حروب مصر حتى تقاعد، وبالمُناسبة فقد أخبرني " عمي صلاح" رحمه الله، حين زارني في بيتي ليُعزيني في أبي عام ٢٠٠٤، وفي معرض ذكريات كثيرة، أنه مثّل مصر في شبابه في إحدى الدورات الأوليمبية في مُسابقات "العُشاري" وهي عبارة عن منافسات في عشرة ألعاب رياضية، قبل أن يتم تقليصها لتُصبح فيما بعد " الخُماسي الحديث"، ورُبما كان هذا أيضًا أحد الاعتبارات التي أعفته من المُحاكمة !
عفوًا، فإن آفة كتابتي الإسهاب، فاعذروني؛ أو... لا تفعلوا!
**
عضوية يوسف صبري وأُسرته تحديدًا كانت عاملًا حاسمًا تمامًا لاشتراكنا في نادي القاهرة الرياضي، إذ كانت" طنط إخلاص" الفنانة التشكيلية والأُستاذة بكُلية التربية الفنية وزوجة يوسف صبري، صديقة حميمة لأُمي، كما كان أبنائهما إسماعيل ونُهى ومحمد (أو ممش كما كنا نناديه في طفولته) أصدقاء، بل إخوة لي ولشقيقتي أمل، وكيف لا وقد أقمنا سويًا إقامة كاملة في بيتهم بشارع ُهدى شعراوي -غير البعيد عن بيتنا بشارع رُشدي- على مدار الـ ٩٣ يومًا التي حمل فيها ربا الأُسرتين السلاح والأرواح على الأكُف على خط النار.
فضلًا عن ذلك فقد اكتشفت بمُجرد التحاقنا بالنادي بوجود عدد كبير من الأعضاء من زملاء ورفاق أبي سواء من أُسرة روز اليوسف وصباح الخير أو من خارجها، منهُم مثلًا: حسن فؤاد وزهدي العدوي وعبد المنعم القصاص وأمينة شفيق وشقيقتها الصحفية أيضًا بهيرة التي كانت تبرع في لعبة تنس الطاولة، والمُحامي المُناضل أحمد الرفاعي والناقد المسرحي الكبير فؤاد دوارة وأبناءه الذين من بينهم صديقيّ هشام وعمرو الذي سار فيما بعد على خُطى والده فأصبح من أهم النُقاد والمُخرجين المسرحيين أيضًا. والإذاعي عبّاس أحمد والتلفزيوني صلاح زكي والصحفيين أحمد فوزي عطا الله ومحمد سليم، وسكينة فؤاد التي كانت تجلس ليلًا وحدها في مكان محدد على حمام السباحة لتكتب مقالاتها... وغيرهم كثيرين، وكذلك الفنان محمد عوض صديق أبي وزوجته السيدة قوت القلوب صديقة أُمي، وأبنائهما الثلاثة عادل وعلاء وعاطف الذين نشأت معهم في النادي ولعبنا فيه كثيرًا سويًا خاصة كُرة القدم، والذين شق كُلً منهم فيما بعد طريقه في الفن في مجالات الإخراج والتمثيل والباليه (على الترتيب). أيضًا كان من بين أعضاء النادي فنان الكاريكاتير الكبير بهجت عُثمان ( بهاجيجو) وفي رؤية أخري له:" بهجاتوس الأعظم" صديق أبي وزميله، وزوجته فنانة العرائس العظيمة بدر حمادة أو " طنط بدر" زميلة أُمي في مسرح القاهرة للعرائس وإحدى أعز صديقاتها؛ والتي مازال عدد من عرائسها يُزين بعض أركان بيتي حتى اليوم، أما ابنيهما هشام ووليد فقد تزاملنا في المدرسة الابتدائية وفي النادي فضلًا عن الصداقة العائلية التي جمعتنا، وإن كُنت أعترف الآن بأنني كُنت أول من وشى لدى أُمي بتدخين وليد للسجائر، وهي الوشاية التي نقلتها أُمي من فورها بالتأكيد لطنط بدر ، ربما فعلتُ ذلك لأبدو في صورة" الولد المؤدب" مما يُتيح لي تمويهًا جيدًا يُتيح لي هامشًا أوسع لمُمارسة "شيطنتي" الخاصة، ورُبما فعلتُ ذلك لموقفي المُبكر جدًا الرافض لآفة التدخين رغم أن أبي كان – رغم كُل سلوكياته الصحية جدًا- مُدخنًا كبيرًا يستهلك ثلاث علب سجائر في اليوم وعلى مدار مُعظم عُمره!
كان من بين أعضاء النادي أيضًا الكاتب الرقيق، أو" الكائن النوراني" كما أحب أن أُسميه، وكما كنت أراه بالفعل: عبد الله الطوخي وزوجته الكاتبة والمناضلة فتحية العسّال، أُمي التي أرضعتني حتى الفطام، وأبنائهم: الفرسان الثلاثة إيهاب وصلاح وشريف (أخي الذي اقتسم معي حقه في الرضاع)، وآخر العنقود أُختي الجميلة صفاء التي صارت فيما بعد النجمة الموهوبة صفاء الطوخي.
كما عرفت مؤخرًا أن المُناضل زكي مُراد كان من أعضاء هذا النادي أيضًا.
كان نادي القاهرة الرياضي في ذلك الوقت، وصمد على ذات النحو لعقود، مُجتمعًا مُتجانسًا وتجسيدًا بديعًا لأجمل شرائح الطبقة الوسطى المصرية، كان " الوسط العدل" بين شرائح تلك الطبقة، كما كان مُجتمعًا محدودًا بحُكم عدد أعضاءه فكان الكُل يعرف الكُل، ولو بالشكل وتبادُل التحيات، كان التقسيم " الطائفي " لمُجتمع النادي يتمثل في الفرق الرياضية وعائلات لاعبيها، فكانت مثلًا " شلة الجُمباز" ويتمثل قلبها الأساسي في عائلتي" الجدّاوي" و" الهجرسي" واللتان ينتمي لهما معظم اللاعبين والمُدربين وبعض أعضاء اتحاد اللعبة، فعائلة الهجرسي مثلًا( والتي من أبنائها الفنان الراحل نبيل الهجرسي) كانت تضُم الكابتن عبد الرؤوف الهجرسي(شقيق نبيل رحمهما الله) مُدرب فريق النادي ومُدرب مُنتخب مصر في ذات الوقت، والذي كان أغلب لاعبيه من فريق نادي القاهرة الذي كان دائمًا بطل الجمهورية في لعبة الجُمباز، وكذلك كانت زوجته " الكابتن" هدايات حسنين أو " كابتن دِدّه" كما نُناديها جميعًا حتي اليوم؛ مُدربة فريق البنات للنادي والمُنتخب أيضًا، والتي خرجت من تحت يديها بطلات للجمهورية وإفريقيا لعل من أبرزهم ناريمان الخطيب وغادة حسن أصغر بطلة لإفريقيا وابنة " أبلة" سنية المُدرسة بمدرسة الأورمان الابتدائية وأول مصرية تقفز بالمظلة، والتي جمعتها بأمي صداقة كبيرة من خلال النادي كما جمعتني وشقيقتي الصداقة بأبنائها غادة وأخوتها محمد وعمرو وهشام.
وهنا أتذكر واقعة طريفة خاصة بالكابتن هدايات(دِدّه) وأراها ذات دلالة بل دلالات:
كانت كابتن هدايات، شابة جميلة ذات شعر قصير ناعم، وفي إحدى المرات وهي في طريقها إلى النادي سار خلفها بعض الشباب الذي يسمح لنفسه بمُعاكسة الفتيات والسيدات في الشارع، مضت هي صامتة، وما أن وصلت إلى باب النادي، وأولئك الشباب يتبعونها، حتى أومأت لموظف البوابة أن يتركهم يتبعونها، وبالفعل دخلوا ورائها إلى النادي ونزلوا المُنحدر المُفضي إلى الداخل حيث كان وقتها ملعب الجُمباز هو أول ما يواجه الداخل للنادي، وهنا نادت على زوجها كابتن عبد الرؤوف مُدرب المُنتخب الشاب مفتول العضلات ففهم الموقف واندفع نحو هؤلاء الشباب المُستهترين، وبالطبع اندفع خلفه لاعبو فريق النادي ومنتخب مصر ، ولكم أن تتخيلوا ما نال أولئك المُستهترين، وكأنما وقع فوقهم جبل أو ابتلعهم إعصار! والطريف في الأمر أن كابتن عبد الرؤوف الهجرسي رحمه الله كان معروفًا في النادي، وكذلك كُل أفراد فريق الجُمباز، بالوداعة الشديدة والتهذيب وكانوا بالفعل نموذجًا لحُسن الخُلق وطيبة القلب، لكن اتق شر الحليم إذا غضب، وليس هناك أغلى من العِرض والكرامة، ومع ذلك وبعد أن رأى كابتن عبد الرؤوف الدماء تنهمر من وجوه أولئك التُعساء؛ رق قلبه لهم وأوقف الضرب بل وأجلسهم على كراسي وأرسل من يحضر لهم العصائر والإسعافات الأولية، ولم ينس- قبل أن يصرفهم- أن يعطيهم محاضرة قصيرة في الأخلاق والنخوة والشهامة!
**
كان النادي أيضًا يتميز بفريق قوي وكبير العدد للسباحة، وكان مُعظم السباحين مجموعات من الأشقاء، فهُناك عائلة " إسماعيل متولي " الشهيرة والتي أمدت الفريق بأربعة سباحين أفذاذ: چيهان وأحمد وإيمان وطارق ( كان جدهم لأمهم الفيشاوي الكبير صاحب مقهى الفيشاوي الشهير)، چيهان متولي هذه هي البطلة العالمية التي عبرت المانش فيما بعد، وعلى نفس المنوال عائلات طنطاوي ( التي كان عميدها سعيد طنطاوي أحد أعظم مُديري النادي في عصره الذهبي) وعائلات " شِرّة" والطنبولي والفولي و " نايل " وغيرها، أما أصدقائي أبناء المُحامي المُناضل أحمد الرفاعي الثلاثة: حازم والتوأم عادل وجمال، فقد التحقوا على استحياء بفريق السباحة ، وحاولوا جهدهم المواظبة علي التدريبات في " حارة ثمانية" وهي الخاصة بالمُهمشين من السباحين، لكنهُم أخفقوا إخفاقًا سُمع دويه في الفضاء الخارجي! وكان والدهم العظيم كُلما مررتُ من أمامه في النادي يستدعيني بإعجاب ويُلقي عليهم مُحاضرة في القوام الرياضي كيف ينبغي أن يكون، كان يُداعبني بقوله أنه يكاد يظُن أن شنطة الملابس الرياضية التي لا تُفارق كتفي في غير أوقات التدريب، يكاد يظنها جزءًا من تكويني الجسدي، إذن لم يُفلح ثُلاثي الرفاعي في الرياضة بأي حال من الأحوال، فاكتفوا من الغنيمة بالإياب وقنع كُل منهم بما اختطه من طريق في الحياة، فأصبح حازم طبيبًا لامعًا لأمراض النساء والولادة بإحدى أشهر مُستشفيات إنجلترا، فضلًا عن كونه حارسًا أمينًا لأفكار وتُراث اليسار يؤلف الكُتب وينشر المقالات في أكبر الصحف، كما تستضيفه الفضائيات مُحللًا سياسيًا مُتميزًا، أما جمال فقد صار أُستاذًا ورئيسًا لقسم اللُغة العبرية بكُلية الألسُن، يُعلم الأجيال، ويُحذر بكتاباته وأبحاثه وترجماته الهامة لكتابات العدو الصهيوني، أما عادل فقد علمت أنه أصبح ناشرًا مُتميزًا... لا بأس على الإطلاق يا أبناء الرفاعي، فالفشل الرياضي ليس نهاية العالم!!!
كان النادي أيضًا يضُم فريقًا للعبة الكروكيه احتكر بطولات الجمهورية لهذه اللعبة لسنوات وعقود طويلة، وكانت ملاعب الكروكيه تقع في أقصى أطراف النادي، وكانت أيضًا تتكون من عائلات بعينها مثل عائلة" الدكتور مظهر" و عائلة الفنّان الكبير المُمثل محمود عزمي وزوجته المُمثلة صاحبة الصوت الساحر عايدة كامل وكان ابنهما هشام عزمي أحد نجوم فريق الكروكيه، وكان الشاب الوسيم " خالد زكي " واحدًا من أبطال الجمهورية في هذه اللعبة، فضلًا عن كونه بطل النادي في تنس الطاولة، كان خالد مُنذ صباه يتمتع بنجومية طاغية بين أعضاء النادي، شاب جميل الطلعة رياضي القوام، بطل في أكثر من لعبة، وشديد التهذيب يبتسم في وجه الجميع ولا تكاد تراه يأتي أي تصرف يضعه موضع اللوم، كان حلمًا للعديد من فتيات جيله وربما أجيال تالية، لذا كان منطقيًا أن يصبح خالد زكي بعد ذلك أحد نجوم فن التمثيل في السينما والتلفزيون بمجرد تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية... وواقع الأمر أن نادي القاهرة الرياضي، فضلًا عن وجود بعض نجوم الفن بين أعضاءه مثل محمد عوض ويحيى شاهين وكمال ياسين ومحمود عزمي وعايده كامل ونبيل الهجرسي وفنان المسرح القومي الرائع أحمد الناغي والمخرج المسرحي أحمد راضي وغيرهم، فإن النادي أيضًا قد أمد المُجتمع المصري بالعديد من النجوم في شتى المجالات من بين أبناءه الذين نشأوا بين ربوعه، من هؤلاء مثلًا كما ذكرت: خالد زكي ، والإخوة عادل وعلاء وعاطف عوض، وفنان التصوير الفوتوغرافي الكبير شريف سنبل، وسحر وعُلا رامي وصفاء الطوخي والمخرجة أمل أسعد والصحفية إيمان رسلان التي سارت على خُطى والدها الأُستاذ أحمد رسلان الصحفي الكبير بالمصور ،والذي اختار الاشتراك في نادي القاهرة دون النادي الأهلي أيضًا بسبب زمالكاويته الشديدة... وكذلك زميلتي في المدرسة والنادي الصحفية منى فوزي و المُذيعة شافكي المُنيّري والتي كان والدها الأُستاذ حليم المنيري واحدًا من أنجح مُديري النادي، وكذلك الشقيقات الثلاث اللامعات إسعاد وإيمان وأحلام يونس ، واللائي كانت والدتهم صديقة لأمي من خلال النادي وكانت تضمنا جميعًا، وبشكل يومي، طاولة واحدة في رُكن محدد حول حمّام السباحة الكبير، كانت إسعاد يونس وقتها مُذيعة بالراديو، كنت أستغرب جدًا كيف تكون "أبلة إسعاد" مُذيعة؟ كيف تؤدي عملها وهي بكُل هذا الهدوء! كانت بالفعل تجلس معظم الوقت هادئة لا تكاد تسمع لها صوتًا، وعندما تضحك كانت لا تجاوز الابتسام، فيما بعد تفجّرت مواهب " أبلة إسعاد" لتصبح نجمة الكوميديا التي نعرفها في السينما والمسرح والتلفزيون، ومؤخرًا مُقدمة البرامج التلفزيونية الأكثر براعة وقبولًا في وقتنا الحاضر ،أما شقيقتيها الأصغر إيمان وأحلام فقد كنا ومعنا شقيقتي أمل نلهو معظم النهار سويًا في حمام السباحة، وأتذكر أنني عندما " تخرّجت " من مدرسة السباحة واجهتني مُشكلة وحيدة تحول بيني وبين التقدم للانضمام إلى فريق السباحة بالنادي، وهي أنني لا أعرف كيف أقفز إلى الماء وفقًا لقواعد سباقات السباحة، رغم إجادتي التي أصبحت- وقتها – تامة للسباحة نفسها، كانت إيمان يونس هي من قام بحل هذه المشكلة حين آلت على نفسها، ولأيام عدة متتالية، أن تُعلمني كيف أقفز إلى الماء بشكل صحيح، وقد كان، في قادم السنوات صارت إيمان مُطربة كبيرة ونجمة فرقة المصريين الشهيرة ، كما أصبحت أحلام نجمة ساطعة في فن الباليه حتى وصلت – علي ما أظن- إلى منصب رئيس أكاديمية الفنون، كما أن إيمان شغلت منصب عميد الكونسرفاتوار.
كانت سحر وعُلا رامي شقيقتي صديقي شريف رامي، أو شريف" بروس لي" كما كنا نُسميه للشبه الكبير والذي يكاد يصل إلى التطابق في الشكل بينه وبين " بروس لي" فضلًا عن نفس التكوين الجسماني الذي صار إليه شريف بعد أن التحق بفرق الألعاب القتالية كالكاراتيه، كانوا أيضًا أبناء خالة صديقي عُمري الراحل علاء حُسني والرائع ضياء حُسني، والذي صار صحفيًا وناقدًا سينمائيًا هامًا، أما شقيقه الأكبر علاء فقد رحل في ريعان الشباب بعد أن تزوج أنجب وكون أسرة جميلة، كان علاء تجسيدًا عجيبًا للحياة بكُل تناقضاتها ، والواقع أن حلمًا راودني منذ بضعة أيام زارني فيه طيف علاء علي حُسني واستيقظت منه غارقًا في الدموع، هذا الحلم كان هو الدافع الأول لي كي أجلس لأكتب عن علاء، لكن تدافعت ذكريات نادي القاهرة فلم أسمح لنفسي بأن أُغرق ذكرى صديقي الذي زارني في المنام وغمرني بين أحضانه ؛ أن تغرق في بحر كل هذه الذكريات المتلاطم، فقررت أن أكتب عن" النادي" وأختص علاء علي حُسني بكتابة أخرى منفصلة تليق به وبما أحمله له من ذكريات، وأيضًا بما تفضل علّي طيفه به من زيارة ...
لكني هنا أتذكر أمرًا واحدًا طريفًا فيما يخُص علاء: كانت هناك " موضة" في جيلي بين الأطفال والصبية الأكبر قليلًا وهي أنه إذا ما جمعت صداقة قوية بين اثنين فإنهما أحيانًا ما يدعيان أمام باقي الأصحاب أن بينهما صلة قرابة! لذا فقد كنا- علاء وأنا- ندعي في النادي أننا أبناء خالة، وسار الأمر على هذا النحو طويلًا، حتى سألني يومًا أحد الأصحاب وكان دائمًا شديد الفضول:
- هو مش انت وعلاء ولاد خالة؟
- أيوه طبعًا.. طبعًا.
- طيب يعني سحر وعُلا رامي يبقوا برضه بنات خالتك.
- طبعًا.. طبعًا.
- أمال يعني بيبقوا معديين من جنبنا وعُمري ما شفتك بتكلمهم؟!
- أصل فيه خلاف بين ماما وخالتي اللي هي والدتهم.
عندما أتذكر هذا الحوار أضحك طويلًا وأدهش من نفسي ومن هذا الكذب غير المُبرر وغير الهادف أيضًا، إذ لا يقود لأي شيء وليس من وراءه فائدة ما، كما يدهشني أيضًا أن السائل لم يُضيق عليّ أكثر فيسألني مثلًا: " طيب ما شريف أخوهم صاحبك عادي "!!!
كانت سحر وعُلا تلميذتان نجيبتان في معهد الباليه منذ الطفولة، ثم صارتا من نجوم التمثيل كما هو معروف.
قدم نادينا العتيد أيضًا في مجال الرياضة فريقًا مُتميزًا لكُرة السلة ومن بين صفوف هذا الفريق خرج نجم المُنتخب وهداف دورة لوس أنجلوس الأوليمبية محمد سيد سليمان الشهير ب " سلعوة"
تميز النادي أيضًا في عدد آخر من الألعاب، لكن قدم- ورغم عدم وجود اللعبة في النادي- نجمًا كبيرًا في كُرة القدم وهو أيمن يونس نجم نادي الزمالك ومُنتخب مصر.
كان أيمن يصغرني ببضعة أعوام، وكان في النادي ملعبًا لكُرة اليد تم إنشائه كبداية لمشروع تأسيس فريق لهذه اللعبة في النادي لكن الفريق لم يستمر وتحول الملعب إلى سُداسيات كُرة القدم، وكُنت أنا – في غير فترات تدريبات فرق الألعاب التي كُنت أمارسها- أقضي وقتًا طويلًا في ملعب الكُرة، والتي لا أزعم أنني كُنت موهوبًا كبيرًا فيها، رغم تجربة شديدة القصر في أشبال الزمالك، لكني كنت أمارسها مستعينًا بلياقة بدنية عالية أكسبتني إياها تدريبات كرة السلة، وكذا بسرعة ركض فائقة وفطرية!
كان أيمن يلعب معنا وكان يقول أنه في أشبال نادي الزمالك، وكان مُعظم من يلعبون معنا لا يُصدقونه، بل ويتندرون حول " زعمه" هذا لكني كُنت أُصدقه ولعدة أسباب، منها أولًا أنه كان فتى مؤدب ولا يبدو من النوع الذي يميل للكذب، كما أنني كنت ألاحظ أن تمريراته للكرة تتسم بقوة أكبر من أن تتناسب وحجم الملعب والمسافات التي بينه وبين من يمرر له، وهو الأمر الذي خبرته بنفسي في فترة تدريبي القصيرة بالزمالك حيث الملعب الكبير والنجيلة التي تبطئ الكُرة فتفرض عليك أن تضيف قوة كبيرة للتمريرات على خلاف ملعب كرة اليد الصغير ذو التربة الحمراء الصلبة، كذلك كثيرًا ما كان أيمن يونس يلعب معنا مرتديًا طاقم ملابس الزمالك مطابق لما يلعب به فريق الزمالك والمختلف عن المتوفر بمحال الرياضة، كل هذه الحيثيات كنت أحاول إقناع أقراني بها ليصدقوا أيمن، وكان هو يُقدّر لي ذلك تمامًا، حتي جاء يوم كنت أشاهد فيه مباراة للزمالك في الدوري في التلفزيون، ومرت الكاميرا سريعًا على دكة الاحتياطي فلمحت أيمن جالسًا بجوار النجم الأسطوري حسن شحاتة .
في اليوم التالي في النادي ذكرت الأمر للجميع فتلقوه بين مُشكك ومُصدق على مضض! لكن في الأسبوع التالي مباشرة من الدوري العام كان لقاء القمة بين الأهلي والزمالك وشارك فيه للمرة الأولى الناشئ أيمن يونس بل وأحرز هدف المُباراة الوحيد، فانقلب الحال( أو اعتدل) وصار أيمن بين عشية وضحاها نجمًا كبيرًا في سماء الكرة، لكنه لم يكف عن التردد على ناديه الذي نشأ فيه، نادي القاهرة الرياضي، كما ظل يُقدر لي " إيماني" المُبكر به دون باقي رفاق ملعبنا الصغير، ومن الطريف أنني كنت كلما تصادفت وأيمن يونس في مكان داخل أو خارج نادي القاهرة، كان- بكُل نجوميته- يُبادرني بالتحية قائلًا: "إزيك يا كابتن" فأُجيبه- بحُكم ما تعودت وبحُكم فارق السن- : إزيك يا أيمن! مما كان يُثير دهشة المتواجدين أيًا من كانوا ويمنحني " بريستيج" كبير فأمضي بثقة وسط همهمات وتساؤلات: " مين الكابتن ده؟!"
**
دخلتُ نادي القاهرة الرياضي صبيًا غضًا مُحتميًا بصُحبة إخوتي أبناء يوسف صبري الذي – لشدة مودته وعذوبته- تنازل لأبي عن " اللوكر" أو الدولاب الصغير الذي يحوزه في غُرفة الملابس، وهذه" اللواكر" لمن يعرفون الأندية هي عُملة نادرة جدًا، ولا يحوزها إلا من سبق من قُدامى الأعضاء، وهي تُعفي العضو من أن يحمل على كاهله يوميًا العديد من الأشياء ذاهبًا وأيابًا مثل " الشبشب وفرشاة الشعر والكور والمضارب.. إلخ.. وظل هذا" اللوكر" رقم ٧٦ في حيازتي على مدار أكثر من أربعين عامًا وكم كُنت أعتز به لما يحمله من رمزية لصداقة فريدة بين فهمي حسين ويوسف صبري، فضلًا عن أن" جيراني " فيه كان من بينهم مثلًا الإذاعي الكبير عبّاس أحمد، والتلفزيوني العملاق صلاح زكي واللذان كانا يُحملاني السلام، وأحيانًا الرسائل إلى أبي كُلما التقيتهما بغُرفة الملابس وهو الأمر الذي كان يحدُث يوميًا لسنوات طويلة، ترأس صلاح زكي أيضًا مجلس إدارة نادي القاهرة في أحد عصوره الذهبية، وظل يرتاد النادي يوميًا ليُمارس رياضاته المُفضلة : لعبة الراكيت و التي يتميز بملاعبها نادي القاهرة دون مُعظم الأندية، والسباحة، حتي كان اليوم الحزين من نوڤمبر عام ١٩٩٩ الذي صرعته فيه في الشارع أمام النادي سيارةٌ مُسرعة...
**
في عام ٢٠١١ عندما رحلت أُمي عن دُنيانا، وعند التجديد السنوي للعضوية اضطررت آسفًا أن أتنازل عن الدولاب رقم ٧٦ إذ كان تابعًا للعضوية رقم ٨٩٣ التي كانت تحمل اسم أُمي من بعد أبي، واكتفيت بدولاب آخر في غُرفة أُخرى لا تحمل (لا الغُرفة ولا الدولاب) أي من الذكريات التي كان يحملها الدولاب رقم ٧٦ في غُرفة " عم عوّاد" التي صارت غُرفة" عم شعراوي" ولعلها الآن أصبحت تحمل اسم" غُرفة هاني" ابن عم شعراوي...
كان يُمكن لي بعلاقاتي ضاربة الجذور في النادي أن أحتفظ لنفسي بالدولابين، لكنني بهذا كُنت سأحجبه عن عضو آخر على قائمة الانتظار رُبما منذ سنوات، وأنا إن فعلت هذا لا أكون أنا، ولا أكون جديرًا بما أحمله من اسم ولقب، كما لا أكون جديرًا بالانتماء لذلك الجيل من أعضاء نادي القاهرة الرياضي..
**
أخيرًا، وقد أطلتُ كثيرًا دون أن أفي سوى ببعض قليل مما يمور في الذاكرة من ذكريات النادي وزمنه وناسه، أقول بأن نادي القاهرة الرياضي قد شهد لحظات مُغادرتي للطفولة، كُل سنوات صباي ومُراهقتي وشبابي، شهد كذلك صعود ووهج أنبل شرائح الطبقة الوسطى المصرية، كما شهد اضمحلالها وغروب شمسها الحزين.
في نادي القاهرة الرياضي تعلمت السباحة والكرة السلة وكرة اليد وتنس الطاولة وبعض التنس الأرضي... كما تعلمت كيف أنزل من الأتوبيس وهو يسير حتى أنزل أمام النادي مباشرة، تعلمت ذلك بعد السقطة الأولى حين نزلت بكلتا قدماي مواجهًا الرصيف فيلتف جسدي كالنحلة الخشبية وأسقط أرضًا، صرت بعدها محترفًا في النزول مهرولًا من الأتوبيس مهما كان مُسرعًا، وكذا ركوبه وهو يجري، سواء كان الأتوبيس رقم ١٠ أو ١٥ بشرطة أو ١٦٦ أو ١٦٧ بشرطتين أو أي أتوبيس يمُر بمحطة "أبو ظريفة" خلف بيتنا عابرًا ميدان التحرير فكوبري قصر النيل في طريقه إلى كوبري الجلاء حيث أقفز أنا قبل هذا الكوبري مباشرة لأعبر للجهة المقابلة حيث النادي، أما العودة في نهاية اليوم فغالبًا ما كانت سيرًا على الأقدام مع الرفاق نأكُل الممبوذيا التي حصدناها من فوق أشجار النادي وعبأنها في أكياس نتسلى بها في طريق العودة.
طالت بي السطور كثيرًا ، وفي ظني أنني فقدت الكثيرين ممن بدأوا معي رحلة قراءة هذه السطور، لكني لا أملك من الأمر شيء، أحاول التوقف وأنا لم أتحدث بعد عن علب الطعام البلاستيكية البيضاء المضلعة ذات الأغطية الملونة التي كانت تزودني بها أُمي في بداية اليوم، والتي كنت ألتهمها في إحدى مراحل يومي الطويل في النادي، وأكمل وجباتي من البوفيه البسيط النظيف : طبق من الأرز أو المكرونة بخمسة قروش ، وطبق إسكالوب بانيه شهي مكون من قطعتين كبيرتين ومعهما بعض الخضار السوتيه وأصابع البطاطس المحمرة الشهية بخمس وعشرين قرشًا، والكثير من علب الأيس كريم إنتاج مصر للألبان بواقع ستة قروش للعلبة ، وحين كانت تنفد نقودي في نهاية اليوم فلا حرج في استدانة قرش صاغ واحد من عم جعفر أو عم حسين أو عم صابر جرسونات النادي لزوم تذكرة الأتوبيس إذا لم تكن لدي النية في العودة ماشيًا كمُعظم الأيام، وبالطبع أُعيده في اليوم التالي بمجرد وصولي للنادي.
**
في نادي القاهرة الرياضي تعلمت الصداقة، واكتسبت صداقات العُمر المُمتدة على مدار نصف قرن حتى اليوم، ولولا النادي لما كانت تلك الصداقات، فهو المكان الوحيد الذي وفر لي امتدادًا زمنيًا جمعني بأصدقاء كبرنا سويًا وشهدنا سويًا جُل حياتنا معًا، أقول إنه المكان الوحيد الذي حقق لي ذلك، لأن ظروفي الشخصية الفريدة نوعًا ما لم تحقق لي الاستمرارية " الزمكانية" سوى في النادي ، فمدرستي الابتدائية كانت بالمنيل والإعدادية بعابدين والثانوية بالعجوزة والجامعية ببيروت- لبنان ثم بالإسكندرية، فبالله عليكُم أي صدفة هذه التي كان يُمكن أن تجمعني بنفس الأقران عبر هذه الرحلة السندبادية؟!
وفي نادي القاهرة الرياضي عرفتُ مذاق الحُب... ومرارة الفراق وطعم الحزن أيضًا...
**
ما زلتُ حتى اليوم، وفي ظني حتى آخر العُمر، حريص على عضوية نادي القاهرة الرياضي، وما زلت أرتاده من آن لآخر، وإن كان ذلك يُشكل على نفسي عبئًا وجدانيًا كبيرًا إذ أنني بمُجرد أن تطأ قدمي أرض تلك الواحة الرابضة في أحضان جزيرة الزمالك أُدرك بسهولة ما أصاب كلانا- النادي وأنا- من تغييرات كبيرة أغلبها غير مُحبب للنفس على الإطلاق.
فشلتُ تمامًا في الاقتضاب الذي يُحبذه القُراء، ولعلي فشلت في الاحتفاظ حتى النهاية بأحد ممن بدأوا القراءة، خاصةً ممن لا يقفزون فوق السطور أو يمرون عليها بشكل عابر، كما فشلتُ في سرد كُل ما كان من وقائع ومشاعر، لكنني رُبما أكون قد نجحت في الشعور ببعض- وليس كُل – الراحة، فاعذروني، أو... لا تفعلوا...
طارق فهمي حسين
يونيو ٢٠٢٠