الاثنين، 1 يونيو 2020

فتي المُخيم.. علي حسين.

فتي المُخيم.. علي حسين.

أخي وصديقي علي حسين، رفيق أنبل سنوات العمر، رفيق المقاومة ، عرفته في سبعينيات القرن العشرين شابا فلسطينيا اصيلا، وترافقنا في صفوف حركة فتح وفي الإعلام الفلسطيني، وتزاملنا في رحلة تدريبية صحفية في بودابشت عاصمة المجر حيث عشنا سويا ( مع ١٣ رفيق ورفيقة آخرين من شباب الإعلام الفلسطيني) وتعايشنا على مدار ال٢٤ ساعة لمدة شهرين كاملين ندرس ونتدرب سويا على أشكال الكتابة الصحفية والتصوير الصحفي وتحميض الأفلام وطباعة الصور، والإخراج الصحفي… إلخ، نفطر ونتغدى سويا بالمعهد، وفي الوقت الحر في المساء نخرج سويا نتقافز في المواصلات العامة ونجوب بودابشت طولا وعرضا، نشتري سويا بمصروف جيبنا الزهيد نفس الملابس والهدايا البسيطة، نحلم سويا بيوم التحرير والعودة، وفي آخر يوم لنا في الدورة وفي بودابشت احتفلنا سويا، واحتفل معنا كل الرفاق، وإدارة المعهد بعيد ميلادي العشرين!
ثم عدنا إلى بيروت وعاد كل منا إلى الجهة الصحفية التي ينتمي إليها والتي رشحته أصلا للدورة: عدت أنا إلى وكالة الأنباء الفلسطينية- وفا، وعاد أخي علي حسين إلى مجلة فلسطين الثورة، لكننا لم نفترق بعدها أبدا وحافظنا على التلاقي اليومي كما اعتدناه في المجر… حتى حان وقت الرحيل فعدت إلى مصر وبقي علي في بيروت حيث ولد وعاش وناضل من أجل قضيتنا جميعا، قضية فلسطين ؛ الوطن الذي لم يره علي منذ ميلاده، لكنه رضع حبه والإيمان بقضيته منذ اللحظة الأولى ككل أبناء فلسطين، ثم كان الخروج إلى تونس، ثم كانت أوسلو التي يراها الكثيرون تراجعا وتنازلا، ولعلي أنا واحد من هؤلاء، لكني أرى ذلك وأنا اعيش داخل حدود وطني الصغير حيث لا ينازعني فيه أحد، ولا ينكر علي أحد حدوده أو هويته، أما أخي علي حسين إبن فلسطين الذي لم يكن ،حتى أوسلو، قد رأى أرض فلسطين ولم تطأ قدماه ترابها، ولم يتنسم انفه هواءها، فكانت له نظرة أخرى شرحها لي حين التقيته في القاهرة في التسعينيات بعد طول فراق ، حين حضر ضمن الوفد الصحفي الفلسطيني لتغطية مؤتمر قمة عربي جمعته على عجل الانتفاضة العظيمة لشعبنا الفلسطيني؛انتفاضة الحجارة. جلسنا علي القادم من الداخل الفلسطيني الذي أتاحت له أوسلو أخيرا أن "يعود إليه" فيرى الوطن والدار ويلتئم شمله بالأهل الذين سمع عنهم عمرا ولم يرهم من قبل، و ثالثنا: طاهر الشيخ القادم من تونس حيث المقر الرئيسي لوكالة وفا بعد الخروج من لبنان، و" طاهر الشيخ" هو الإسم الحركي لفتى مصري من حي شبرا العريق، غادر مصر في نهايات السيتينيات أو ربما بدايات السبعينيات لينخرط في صفوف الثورة الفلسطينية مقاتلا جسورا ولم يغادر لبنان إلا بثيابه العسكرية وعلى ذات السفينة التي حملت أبو عمار ورفاقه إلى تونس، ولم يغادر موقعه بالثورة الفلسطينية حتى يومنا هذا، فهو مدير تحرير وكالة الانباء الفلسطينية، وعميد الصحفيين العرب بتونس.… وأنا… جلسنا ثلاثتنا في ذلك اليوم في لقاء بعد طول فراق فرضه الشتات الفلسطيني و"الافتراق" بين النظم العربية؛ جلسنا نستعيد الذكريات ونناقش القضايا كما لو كنا لم نفترق ولا ليوم واحد، وفي ذلك اليوم شرح لي علي حسين ان "أوسلو" هي التي أعادته - ضمن آلاف- من أبناء شعبنا الفلسطيني إلى الوطن الذي لم يكونوا قد رأوه رأي العين، ولم يعرفونه سوى عبر حكايات الأمهات والجدات، فسرى في دمائهم وفداه الكثيرون منهم بارواحهم، قال لي علي أنه لم يعرف في حياته طعما للعيد إلا حين قضاه للمرة الأولى في فلسطين بين الأهل وتحت أشجار الزيتون.
يومها قال لي علي أن إيمانه بقيادة عرفات ، والذي أشاركه فيه، ويقينه بأن هذا المقاتل الذي وهب عمره كله لقضية وطنه، وفرض بالبندقية احترام العالم واعترافه ، هذا المقاتل لا يفرط أبدا، وهذا أيضا ما أتفق فيه مع أخي علي حسين، وأرى-وأنا المعارض لأوسلو-أن أبو عمار إنما وقع أوسلو تعاملا مع "الممكن" الذي فرضه عليه واقع الأنظمة العربية المتردي ، وبعد أن ألقى إخوة يوسف بأخيهم الفلسطيني في "غيبات الجب"!
قال لي علي حسين في ذلك اليوم عن أبو عمار: " الله يعطيه العمر تا يوصلنا للدولة"
لكن أبو عمار استشهد قبل ذلك اليوم، لكن بعد أن أعاد الآلاف من أبناء فلسطين إلى أرض الوطن ليواصلوا الصمود والنضال، ومن بينهم أخي علي حسين ليضربوا جذورهم عميقا في الوطن الذي استردهم، حتى يستردوه هم يوما.
لم ينقطع التواصل بيني وبين أخي علي عبر هذه الوسيلة أو تلك، ولن ينقطع حتى آخر العمر بإذن الله.
من الخصائص اللصيقة بشخصية أخي علي حسين منذ عرفته وحتى اليوم، ولا أظنه مفارقا لها أبدا، ابتسامته وحبه الشديد للنكتة، علي حسين لا يتوقف عن إلقاء النكات تحت أي ظرف، يلقي النكتة ونحن تحت القصف في بيروت، يلقيها ونحن عالقون في مطار بيروت يوما كاملا لا نستطيع المغادرة إلى بودابشت بعد أن ألغت شركة ماليڤ رحلتها إلى ومن بيروت كما فعلت كل شركات الطيران تباعا في ذلك اليوم تحت ظروف القصف الصهيوني، وبعد أن كانت حقائبنا قد تم وزنها ونقلت إلى حيث تنتظر الطائرة، وجوازات سفرنا قد تم ختمها(خروج) منذ السادسة صباحا، فصرنا رسميا ، وحتى قرب منتصف الليل في "اللامكان" حتى أعيد ختم الجوازات "دخول" ووقفنا عند"السير المتحرك" نلتقط حقائبنا من جديد ونخرج من المطار عبر صالة الوصول!!! ( في اليوم التالي تم إغلاق المطار).
خرجنا مرهقون جائعون محبطون، لكن غارقون في الضحك بفضل نكات علي حسين التي لا تتوقف، ولا أتمنى لها يوما أن تتوقف.
حين يشتد. السعار الصهيوني ضد أهلنا في الداخل المحتل، فيستبد بي القلق فأتصل. بأخي علي حيث يعيش بفلسطين للاطمئنان عليه، فلا ينسى قبل إنهاء المكالمة أن يستوقفني قائلا:سمعت آخر نكتة؟بيقولك …

طارق فهمي حسين
١ يونيو ٢٠٢٠

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق