الأحد، 19 نوفمبر 2017

عند صياح الديك .

عند صياح الديك !


قمت بإلتقاط هذه الصورة بالأمس أثناء جولة على الأقدام بشوارع وسط البلد – القاهرة بعد طول إنقطاع و جفاء فرضتهما متغيرات لا أجد في نفسي هوى للخوض فيها الآن ، خلال جولتي و تحديدا في شارع صبري أبو علم ،( و صاحب الإسم – بالمناسبة – واحد من ثوار سنة ١٩١٩) ، وقع بصري على هذا الجرافيتي الذي يزين السور الجانبي للكنيسة العريقة الموجودة بالشارع ، و هو يمثل صور بعض شهداء الشعب المصري قبل و أثناء ثورة ٢٥ يناير ، و بالطبع قصد من رسمه أن يكرم ذكرى هؤلاء النبلاء الذين بذلوا أرواحهم في جذوة الشباب في سبيل ما حلموا به من غد أفضل و أكثر كرامة لبلادهم فتلقوا – فضلاً عن فقدان الحياة – جزاء سنمار من تشويه و تلطيخ للسمعة و السيرة و إنكار تام من جانب من الذين بذلوا أرواحهم من أجلهم ، و يبدوا أن البعض لم يكتف بكل هذا فعمد على التلطيخ – بالمعنى الحرفي – لصورهم التي يمثلها هذا الجرافيتي إمعانا في التنكر لهم و لما ضحوا به ، و هو جد نفيس ، و للثورة ذاتها و التي كان هؤلاء الشباب بعض وقودها .
لو كان السور قد تم دهانه بالكامل لربما فهمنا أن ذلك قد يكون بمنطق إحترام جلال دار العبادة و أنه من غير اللائق الكتابة أو الرسم على سورها حتى و لو كان رسما لوجوه يليق أن يرتفع الدعاء لأرواح أصحابها داخل الكنيسة ذاتها – و كل دور العبادة و ليس فقط أن يتزين سورها الخارجي بوجوههم المضيئة ، لكن ليس هذا ما حدث ، أعني دهان السور و إزالة الجرافيتي كاملا ، و بالتأكيد لا أعني أن هذا ما أطالب به ، و إنما إكتفى أولئك “ البعض “ بإستخدام بوية سوداء – و منطقي أن تكون سوداء – لتلطيخ تلك الوجوه المضيئة .
و لا أدري تحديدا هل كان الغرض من تلك “ الفعلة” إخفاء وجوههم مثلا حتى لا يعرفهم أحد فتسقط أسمائهم و بالتالي ذكراهم و ذكرهم من تاريخ الوطن ؟ لو كان هذا هو الهدف فقد خاب إذ – للمفارقة – أرى أن هذه الفعلة قد زادت ملامحهم وضوحا و رسوخا في الوجدان ، ذلك أن المار بجوار السور يجد نفسه مضطرا لأن يستدعي ملامحهم من الذاكرة ، فيستدعي مع الملامح أحداث و أيام و معاناة ، ليدرك أن هذا هو مينا دانيال و ذاك هو خالد سعيد ( و آخرون على إمتداد السور لم تدركهم عدستي القاصرة) …إذن فقد خاب التدبير إن كان هو ذاك !
أم ربما لم يتحمل ذلك “ البعض “ النظر إلى تلك الوجوه المضيئة التي تشعره بالضآلة و الدنو ، أو ربما تصور أنهم ينظرون إليه و يرونه فيعتريه ذات الشعور بالضآلة و الدونية في مواجهة تلك العيون الغائبة الحاضرة ، و هذا إحتمال كبير إذ أن البعض حتى الآن لا يطيق نظرات أحمد حرارة الغائبة الحاضرة أيضا ، ربما ظن البعض أن عيون الشهداء المطلة من وراء الجرافيتي سوف تدركهم و تعرفهم و تشاهد ما فعلوا و يفعلون بجسد الوطن و بثورته و أحلامه فتصب عليهم لعنة ما أو تستجلب عليهم عقابا سماويا ما ، أليست دعوة المظلوم لا ترد ؟ فما بالنا بمن قتل مظلوما ؟!
على أية حال فإن هذه الفعلة الصبيانية لم تلطخ صور أولئك الشهداء الأخيار بقدر ما لطخت سمعة و كرامة وطن و شعب بذلوا أرواحهم في ريعان الشباب من أجل غد أفضل له ، فقام جانب من ذات الشعب بتشويههم و محاولة تلطيخهم … و إنكارهم عند أول صياح للديك !
                                                                                  طارق فهمي حسين

                                                                                   نوفمبر 2015

سينما مترو

سينما مترو
مازال المنظر الخارجي لسينما مترو العريقة في قلب القاهرة كما هو حتى اليوم ، لكن المُشكلة في داخل السينما الذي سمعت أنه تم تقسيمها منذ سنوات إلى عدد من قاعات العرض الصغيرة بعد أن كانت قاعة واحدة لها صالة كبيرة وبلكون وعدد من ” البناوير ” ، و وفقاً لبعض من ارتادوا سينما مترو بعد التغيير فقد أفادت انطباعاتهم بأنه قد تم تشويهها بشكل مؤسف، أما عن نفسي فأنا حريص على عدم الاقتراب منها حتى لا تتغير صورتها الجميلة المُبهرة المحفورة في ذاكرتي عبر مئات المرات – دون مُبالغة – التي ارتدت فيها سينما مترو على مدار عقود مُنذ الطفولة والصبا والشباب وبحُكم أنني كُنت على مدار ثلاثين عاماً من سُكان وسط البلد حيثُ ولدت ونشأت وشببت، كُنت من رواد سينما مترو مُنذ كانت أُمي تصحبني كُل يوم جُمعة تقريباً في طفولتي المُبكرة إلى الحفلة الصباحية الخاصة بالأطفال والتي كانت تسبق – على ما أذكر – حفلة العاشرة صباحاً وكانت تعرض فيها أفلام الكارتون الشهيرة وتقدم فقرات ترفيهية للأطفال على خشبة المسرح التي تتقدم شاشة العرض، ثُم يتم السحب على أرقام التذاكر وتوزع جوائز على الأطفال، ولا أنسى يوم فُزت بسمكة زينة ملونة تسبح في وعاء شبه كروي من الزُجاج الشفاف … يومها عُدت مع والدتي إلى البيت بدلاً من استكمال برنامج يوم الجمعة المعتاد إلى حديقة الحيوان، و ذلك لتعذر استكمال الخروج بصحبة البلورة والسمكة السابحة فيها، يومها عُدت ووضعت لي والدتي السمكة في غرفتي فكانت سعادتي كمن حاز الدُنيا بما فيها … أذكُر أيضاً و أنا في المرحلة الإعدادية حين كان أبي يصحبني وحدي إلى سينما مترو و يُعلمني كيف أقف في طابور التذاكر، وكيف أقطع تذكرة صالة ثمنها 16قرش ونصف، وأختار موقعي في المشاية الوسطى في موقع متوسط بين الصفوف وأن أختار أول كرسي في طرف الصف ( غالباً حرف Q ) حتى إذا جلس أمامي من هو أطول مني (وهذا متوقع في تلك السن ومع قصر القامة) فيكون عندي الفرصة لأن أميل إلى الجانب الخارجي للصف لأرى الشاشة بسهولة، علمني أبي أيضاً أن أجهز في يدي قرش صاغ واحد لأدسه في يد ”البلاسيير” حامل البطارية الذي يجلسني في مقعدي، وكان يشغل هذه الوظيفة في سينما مترو رجُلان يرتديان يونيفورم أشبه بالردينجوت و كانا شديدي الأناقة ويتصرفان بمُنتهى الجدية واللباقة والبشاشة في ذات الوقت، مازال وجهاهما محفورين في ذاكرتي بلا مُبرر واضح وكأنما كانا مُدرسين في مدرستي تعلمت منهما الكثير مثلاً !!، ويبدو في الحقيقة أنني بالفعل تعلمت منهما قيمة الجدية في العمل وحُب هذا العمل وأن احترام النفس والآخرين يٌضفي على أي مهنة قيمة وهيبة واحترام مهما كانت المهنة متواضعة، هذه قيمة تعلمتها بالفعل من مراقبتي على مدار سنوات لأداء هذين الرجلين وكذا من “عم حسان” ماسح الأحذية بحديقة نقابة الصحفيين، لكن تلك قصةٌ أُخرى ….. علمني أبى كذلك كيف أخرُج في الاستراحة من السينما –وكان ذلك مسموحاً في ذلك الزمان الآمن رغم أنه كان زمن الحروب مع العدو الصهيوني– وكيف أنتظر الإشارة الخضراء للمُشاة وعبور الشارع إلى ”البُن البرازيلي” وكيف أطلُب مشروبي المُفضل ”شوكولاجلاسيه” وأدفع للكاشير ثُم أستلم المشروب من ذلك الرجُل المحفور وجهه هو الآخر في ذاكرتي حتى اليوم برداءه الأبيض وصَفَّيّ الأزرار على جانبيه و”البيريه” المُثلث المائل على جبهته، فكان يبدو كجندي في البحرية وهو واقف خلف البار المعدني النظيف وأمامه الأجهزة المعدنية اللامعة لصنع أنواع القهوة والشوكولاته وهو يتنقل بينها ليعد ويصب المشروبات في براعة ورشاقة … وهذا الرجل كان أسعد حظاً من رجُلي سينما مترو في أن العديد من أفلام سنيما الخمسينيات والستينيات ”وثّقت” ملامحه حيثُ يظهر في خلفية العديد من المشاهد التي تم تصويرها في البُن البرازيلي أحد أماكن التصوير المُفضلة في تلك الفترة لعدد من كبار مُخرجي السنيما المصرية في ذلك الزمن… أتناول منه شوب "الشوكولاجلاسيه" وأنتقل إلى الجانب المواجه من المحل لأضع الكوب على الرف السفلي المعدني البارد والذي يتناسب مع طولي في ذلك الوقت وأبدأ في ارتشاف المشروب باستمتاع ونشوة بالغة عبر ”الشاليموه” أو ”الشفاطة” كما كنت أعرفها في ذلك الزمن مُتأملاً عبر زُجاج المحل الجانبي روائع فنانة السلويت ”فتنة مؤمن” المُعلقة على الجدران الخشبية لمعرضها المجاني المفتوح في الممر المُتاخم للبُن البرازيلي، فأتعرف على ما أبدعه مقص الفنانة الفذة من وجوه على الورق الأسود الموضوع على خلفية بيضاء … فهذا بروفيل عبد الناصر، و ذاك الإمبراطور هيلاسلاسي إمبراطور أثيوبيا، و هذا الأسقف مكاريوس، و تلك أم كلثوم …. كل هذا مع مراعاة التوقيت –كما علمني أبي– بحيث أنتهي من المشروب و التأمل في اللوحات وأعبر الإشارة (الخضراء بالطبع) وأعود إلى مقعدي في سينما مترو قبل انتهاء الاستراحة وإطفاء الأنوار، ولا مانع من شراء كيس من ”السوداني المملح” من "مقلة حسن مُرسي" الشهيرة التي تقع بين البن البرازيلي وسينما ميامي … علمني أبي – رحمه الله – كُل ذلك في سن مُبكرة، و طبقته عملياً مرات كثيرة خصوصاً حين كان يبدأ في سينما مترو أسبوع من تلك الأسابيع التي كانت تشتهر بها ”مترو” من وقت لآخر كأسبوع أفلام الكاوبوي، أو أسبوع أفلام السيف، أو أسبوع أفلام طرزان … و هكذا، حيث كانت تعرض كل يوم فيلم مختلف في إطار الموضوع الرئيسي لعنوان الأسبوع، فكان أبي يصحبني في اليومين أو الثلاثة الأول ثُم يوكل إلى مسألة استمرار المُتابعة وحدي لظروف عمله بالطبع، و لكونها أفلام مُعادة بالنسبة له شاهد مُعظمها من قبل حين لم يكُن مُحملاً بأعباء الأبوة إلى جانب أعباء الوطن التي حملها على عاتقه مُنذ صباه وحتى رحيله، لكن تلك أيضاً قصةٌ أُخرى ……. فشاهدت في تلك الفترة صولات جون وين و كلينت إيستوود و تشارلز برونسون وفرانكو نيرو وحتى جوليانو جيما، كما انبهرت بأفلام السيف من بطولة ستيوارت جرينجر وغيره من النجوم مثل سكارموش وسجين زنده و الفرسان الثلاثة … ناهيكم عن روائع جوني ويسملر الخالدة في سلسلة أفلام طرزان … تلك كانت سينما مترو و ذاك كان زمانها قبل
سلسلة هجمات الانحطاط والتدني والخصخصة و”الترييف” على حد التعبير العبقري لمحمد حسنين هيكل … ذاك زمان ولى وإن بقيت أنا و جيلي ومن تبقى من أجيال سبقت شهوداً على ذلك الزمن وذكرياته وشجونه ما كتب الله لنا من أجل … تبقى مُشكلة بسيطة لطالما عانيتُ منها مع مسألة السينما ككل ألا وهي كيفية كتابة لفظة ” سينما ” في حد ذاتها، بقيت هذه اللفظة مُنذ بداية علاقتي بالورقة و القلم في الابتدائي وحتى اليوم تُمثل الكلمة الوحيدة التي لا أتذكر حين أضطر لكتابتها هل الياء قبل النون أم العكس ، مع مُلاحظة أنني ظللتُ أفخر طيلة عُمري بأنني ”منزوع الأخطاء الإملائية”، قد أقع في أخطاء نحوية أو إعرابية، أما إملائياً فكُنت أحصل دائما –و على سبيل الحصر– على 10/10 في الإملاء، لكن كان عزائي دائماً أن كلمة سينما أو سنيما ليست في الأساس كلمة عربية لذا فجهلي بصحة كتابتها لا تنتقص من غروري اللغوي !!! تبقى مُلاحظة لمن يقرأ سطوري هذه –بفرض وجود من لم يقتله الملل من الإطالة– أقول: إذا وجدت أخطاء في” هجاء” كلمة أو أكثر في سطوري السابقة فاعلم أنها نتيجة أنني أكتب ولا أنظر إلى الشاشة! هي إذن أخطاء طباعية وليست” إملائية” مما لا ينتقص من” غروري اللغوي” أو للدقة:” غروري الإملائي” وإن كان يفضح عدم صبري على مُراجعة ما أكتب!

طارق فهمي حسين

السبت، 18 نوفمبر 2017

شارعنا زمان كان فيه تروماي .


شارعنا زمان كان فيه تروماي
شارعنا زمان كان رايح جاي
ورغم ده كله ... كان واسع جدا
بيقضي جيراني ... و أبويا و أمي
و كمان زوار
بيساع أحلامي ... و أماني كبيرة 
     و حكاوي كتار 
***
كان عبد الناصر بيعدي ساعات 
و لحد ما مات ... ماعرفتش أشوفه
لا من البلكونة ... و لا من شباك !!!
مع إن شارعنا   كان واسع جداً
كان رايح جاي ...
 كان فيه تروماي !
  طارق فهمي حسين
2015

٣ شارع رُشدي - د. علي ( منزل السيد الوزير ) !


3 شارع رشدي(2) :            
عودة إلى بدعة المهندس نعوم شبيب المعمارية القاطنة في 3 شارع رشدي بوسط القاهرة ، فإن البناية التي كانت – ومازالت – تشق عنان السماء بإرتفاع عشرين طابق ،وتقف منفردة لا تستند لا يستند إليها كذلك أي مبنى مجاور، تضم بين جدران كل طابق منها ثلاث شقق ، فهي بذلك تضم ستون شقة بالتمام والكمال، ولطالما كانت الطوابق الأربع الأولى على مدارعمر العمارة تشغلها دائما جهة ما، ولا تسكنها أية عائلات، ففي فترة ما، ومع بدايات نشأة التلفزيون المصري شغلت الطوابق الأربع الأولى مكاتب إدارية تابعة لإتحاد الإذاعة و التلفزيون والتي كانت تشغل أيضا أغلب محلات أحد جانبي الممر الخارجي للعمارة،ومع بداية الإرسال التلفزيوني وإنتشار أجهزته في البيوت أعلنت الدولة عن تحصيل رسوم سنوية تحت مسمى” رخصة التلفزيون ” على غرار تراخيص السيارات، و حددت مقرا وحيدا للسداد خلال فترة محددة من كل عام في تلك المكاتب الواقعة في مدخل العمارة ( 3 شارع رشدي) وكان ذلك من أسباب شهرة العمارة في تلك الفترة ، كما تحول الأمر إلى وسيلة تعريف ووصف : ” العمارة اللي بتتدفع فيها رخص التلفزيون ” أو:عمارة التلفزيون، ولا أدري حتى اليوم ماذا كانت العقوبة التي يمكن أن توقع على من يتقاعس عن سداد رسوم تلك الرخصة السنوية ، وماذا كانت أدوات الدولة في توقيع تلك العقوبة ، بل ما هي الكيفية التي كانت ستمكن الدولة أساسا من حصر مالكي أجهزة التلفزيون( بإمكانيات ذلك الزمن )، بل و عدد أجهزة التلفزيون داخل كل بيت ، إلا أن الثقة الكاملة من المواطنين في الدولة في تلك الحقبة الناصرية – خاصة قبل نكسة 67 – وفي مصداقيتها وقدراتها على الحصر وتوقيع العقوبات، فضلا عن الثقة المطلقة – في ذلك الزمن – في رشادة الدولة في إنفاق ما يدخل خزينتها من إيرادات، كُل ذلك كان كفيلاً بالتزام كافة مالكي أجهزة التلفزيون في ذلك الوقت بالتوافد على مكاتب إتحاد الإذاعة و التلفزيون القابعة في ممر العمارة( 3 شارع رشدي) في الفترة المحددة من كل عام حيث كانت الطوابير تملأ ممر العمارة الطويل و تمثل عائقا لدخول وخروج السكان على مدار أيام سداد” الرخصة ” ! في مرحلة تالية ، وبعد إعلان الدولة أخيرا : إلغاء” رخصة التلفزيون ”، تحولت المكاتب في مدخل العمارة إلى مخازن مغلقة، وحلت مكاتب “الشركة المصرية العامة للدواجن” محل إتحاد الإذاعة و التلفزيون في الطوابق الأربع الأولى من العمارة ، ومن طريف الذكريات أن فنان الكاريكاتير رمسيس صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير ( يا تلفزيون … يا ) كان في تلك الفترة موظفا بشركة الدواجن ، وكان في ذات الوقت ينشر رسومه بمجلة صباح الخير فجمعت الزمالة بينه و بين أبي – الصحفي بروزاليوسف و مدير تحريرها في فترة من الفترات – و بموجب تلك الزمالة ، حيث كنا نقطن بالطابق الخامس ، و مكتب الفنان رمسيس في الطابق الثالث ( على ما أذكر )  كانت أمي ترسلني إليه بعد أن تزودني بالنقود الكافية لشراء عدد من أزواج الدجاج منبهة علي :    -سلم على الأستاذ ” فرنسيس ” و قوله ماما عايزة كام جوز فراخ 
- رمسيس يا ماما رمسيس !
فكنت أنزل إلى الرجل الجالس إلى مكتبه في هيبة موظفي القطاع العام في نهايات عصره الذهبي، وأنا أغالب الضحك لأكثر من سبب، أولها بالطبع خلط أمي لإسم رمسيس بـ فرنسيس ( و كان خلط الأسماء أشبه بهواية غير متعمدة لدى أمي رحمها الله ) ، وكذا بسبب المفارقة الواضحة في شراء ” الفراخ ” من موظف محترم جالس إلى مكتب في مؤسسة حكومية فضلاً عن كونه فنان ، إلا أن السبب الذي كان خافيا علي في تلك السن الصغيرة أنه في تلك الفترة –  في أوائل السبعينيات – و في أجواء المواجهة مع العدو الصهيوني ، كانت هناك حصص محددة لكل مواطن من بعض المواد التموينية و منها ” الفراخ ” ، فكان إرسالي للفنان الموظف رمسيس يتيح لنا كأسرة عدد من ” أزواج الفراخ ” أكثر عن المقرر لكل أسرة ، ورغم أننا بالطبع كنا ندفع السعر المحدد – لا أكثر ولا أقل – إلا أن هذا كان أقصى ما يمكن أن تمارسه أمي من صور” إستغلال النفوذ ” في سبيل تحصين مطبخها المقدس دون علم أبي ، الذي كان يعلم فيما بعد بالطبع و يعبر عن إحتجاجه بخليط من الغضب و مغالبة الضحك : 
-” يا ستي ده راجل فنان مش بياع فراخ و ما يصحش كده و بعدين إيه فرنسيس اللي إنتي مُصرة عليها دي ؟! ”
في مرحلة تالية، ومع هبوب خماسين ” الإنفتاح ” وتقلص حجم القطاع العام في مصر، ورحيل نعوم شبيب باني العمارة  ومالكها الأول عن مصر وشراء ” صندوق تأمين ضباط الشرطة ” للعمارة، إختفت مكاتب هيئة الدواجن وقام الملاك الجدد بإعادة صياغة الطوابق الأربع الأولى فأزالوا حوائط وأضافوا أخرى ، وهي العملية التي أسفرت فيما أسفرت عن تعطيل نظام التخلص من القمامة الذي كان أحد مميزات العمارة على النحو الذي شرحته في حديثي السابق عن ” البناية و الباني “،إذ قاموا بالتخلُص من أنقاض الحوائط المُزالة بإلقائها في ماسورة القمامة مما أدى لانسدادها إلى الأبد، وعاش السكان فترة لا بأس بها من ضوضاء العمل في الطوابق الأربعة حتى إنتهى الأمر إلى ظهور لافتة كبيرة على واجهة العمارة تشير إلى ” إستراحة ضباط الشرطة ” ، وهي اللافتة التي ساهمت في إكتساب العمارة لإسم شهرة جديد هو ” عمارة الشرطة ” وهو الإسم الذي شاع إستخدامنا – كسُكان – له فيما بعد لوصف العمارة خاصة مع تزايد نفوذ الشُرطة وتغول دورها في المُجتمع فيما تلا من عقود الزمان ، فأصبح بعضنا يشير إلى سكنه في” عمارة الشُرطة ” في محاولة للإيحاء بأنه ينتمي إلى ” السُلطة ” على نحو أو آخر، خاصة في مواجهة من لا يعرفون تاريخ العمارة وحقيقة علاقتها وسكانها بالشُرطة !
بالإضافة إلى الطوابق الأربع الأولى دائماً ما كانت الشقة الملاصقة لشقتنا بالطابق الخامس تابعة للجهة التي تشغل تلك الطوابق الأربعة ،و إن كانت أمي تذكر أنه في البداية كانت تقطنها راقصة شبه مشهورة ، وتحولت بعدها إلى مكتب مكمل لمكاتب الإذاعة والتلفزيون ثم إلى شركة الدواجن حتى آلت إلى صندوق الشرطة ثُم تحولت فجأة إلى عيادة طبية لزوج إبنة واحد من أشرس وزراء الداخلية في عهد السادات ، و إن كانت تقلبات الزمان فيما بعد ونسبية الأمور جردته في الأذهان من تلك الصفة وربما ينظر إليه البعض الآن على أنه كان أكثر رحمة وعقلانية من سواه !
إلا أن ذلك الطبيب الشاب صهر الوزير الحديدي كان – للمفارقة – شديد الأدب و الوداعة فكان نعم الجار حتى أنه أخلى لنا العيادة تماماً يوم زفاف شقيقتي ليوضع فيها بوفيه الفرح كإمتداد لشقتنا التي لم تكن لتتسع بأي حال من الأحوال لحفل زفاف ” أمل ” الصبية الأكثر شعبية في العمارة والعائلة والمدرسة والكلية ( على خلاف كاتب هذه السطور بطل العالم في الإنطوائية ) !!!
كان ” الدكتورعلي …” شاباً طويل القامة عريض المنكبين واسع النفوذ بحكم وضعه الأُسري المهيب ، لكنه على خلاف المعتاد ممن هم في مثل وضعه ، وبإستثناء حصوله على هذه الشقة ذات الموقع العبقري في أطول عمارة في وسط القاهرة وذات الثلاث مصاعد : 3 شارع رشدي ليفتتحها كمعمل للتحاليل الطبية في باديء الأمر ثُم يحولها فجأة إلى عيادة عيون ( وفي الحالتين كان هو الطبيب المختص )، وأيضاً بإستثناء تركه لسيارته يومياً حين وصوله للعيادة في عرض الطريق غير مبال بأدنى إحتمال لتحرير مخالفة مرورية أو حتى سحبها بالونش ( لم تكن كلبشة الإطارات قد دخلت مصر بعد في ذلك الزمن ) ذلك أن السيارة بالتأكيد كانت معروفة لكل من يرتدي زي الشرطة في القاهرة في ذلك الوقت ، بل  ولكل من يراها ولو مرة ويعرف أنها سيارة زوج بنت وزير الداخلية ، ذلك أن السيارة كانت ماركة بيجو 504 و تحمل لوحة مرورية رقم 504 أيضاً ! أمر لا تسقطه أي ذاكرة مهما ضعفت خاصة في بلد كمصر يعتبر أهله أن أرقام السيارات أحد أشكال الوجاهة الإجتماعية وإستعراض النفوذ، إستطراداً أقول أن ” الدكتور علي …  بإستثناء فوزه بهذه الشقة و تركه اليومي لسيارته في عرض الطريق لم يكن يمارس أي من أشكال إساءة إستغلال النفوذ، على الأقل تجاهنا نحن جيرانه من سكان العمارة والشارع، بل على العكس فإنه كان كثيراً ما يستخدم نفوذه إستخداماً يحمده له جيرانه ،  قد نالني أنا شخصياً في بدايات شبابي نصيباً لا بأس به من هذا الإستخدام الحميد للنفوذ، من ذلك أذكر يوم إشترى لي والدي سيارة صغيرة مستعملة من أحد ضباط الجيش من خلال إعلانات جريدة الأهرام المبوبة ، وبعد حيازتي للسيارة بشهور طويلة إتصلت بالبائع ليصحبني إلى المرور للتسجيل وتجديد الرخصة كما سبق ووعدني حيث كنت بعد طالبا بالجامعة وكان أبي خارج البلاد ، فتنصل مني – الضابط / البائع – وأوضح لي أنه لا ضرورة لوجوده حيث سبق وأن وقع كبائع في الشهر العقاري ، وحين توجهت للمرور وحدي وعند فحص السيارة تبين أن الموتور سبق تغييره دون إتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ‘ مما ترتب عليه إحتجاز السيارة في مقر مرور الدراسة تحت إحتمال أن الموتور مسروق ،  لما طال الأمر لأكثر من ثلاثة أسابيع لم تنقطع خلالها رحلاتي شبه اليومية بين مرور الدراسة وإدارة البحث الجنائي في باب الخلق و خلافه ، كان اللجوء إلى جارنا واسع النفوذ نسيب الحكومة الدكتور علي هو السبيل الوحيد للخلاص من هذا الموقف ، وبالفعل إستقبلني الرجل بوجهه الذي لا تفارقه البشاشة وإستمع بصبر للمشكلة ثم تناول من أحد أدراج مكتبه دليلا صغيراً للتليفونات مطبوع عليه شعار الشرطة ، وإلتقط من بين صفحاته رقما ثم أدار قرص التليفون ليعرف عن نفسه لمستقبل المكالمة بهدوء :
أنا فُلان … فقط إسمه الثنائي دون أي تعريف آخر، وسرد المشكلة بهدوء وفي أقل عدد من الكلمات ثم أغلق الخط و إلتفت إلي مبتسماً : 

- النهارده الساعة سبعة مساء تروح مكتب مدير مرور القاهرة اللواء فلان ، تسأل بره لو قالوا موجود أخرج كلمني من أي كشك او محل.
في الموعد المحدد ذهبت و سألت وأجريت المكالمة فأجابني الدكتور علي وطلب مني رقم تليفون الكشك الذي أتحدث منه ! ( كنا قبل زمن الموبايل بسنوات طويلة ) فسألت صاحب الكشك ، وكان من أكشاك كتب سور الأزبكية العتيد فأملى علي الرقم لأردده على أسماع الدكتور علي الذي طلب مني إغلاق الخط و الإنتظار قليلا ، وبعد دقائق لم تتعد الخمسة دق جرس التليفون وأجاب صاحب الكشك ثم ناولني السماعة وهو في ذهول من يتابع فيلما بوليسيا ، وضعت السماعة على أذني فأجابني الدكتور علي : 

روح له دلوقت فوراً وإذكر إسمك الثلاثي على الباب وستجده في إنتظارك .
- حاضر وشكراً يا دكتور
إنتفض السيد اللواء مدير مرور القاهرة واقفا و خرج من وراء مكتبه مادا يده طالبا المصافحة ليلقاني في منتصف الغرفة ويشد على يدي في ترحاب مبالغ فيه دون أن تبدو على وجهه أية إمارات للدهشة أو إستصغار شأن الطالب الذي لم يكد يتخطى العشرين من عُمره والواقف أمامه!
أجلسني بترحاب لا ينقطع وسالني:

- تشرب إيه ؟ لأ قبل أي حاجة لازم تشرب .
تناول سماعة أحد التليفونات العديدة التي تزين مكتبه ، تحدث إلى أحدهم ، دون أن يسألني عن أي تفاصيل شرح بنفسه المشكلة بإيجاز شديد، أملى – من الذاكرة – إسمي الثلاثي على متلقي المكالمة ثم تقوقع قليلا بجذعه حول السماعة وأخفى حركة شفتيه بيده الأخرى مقترباً بصوته من الهمس: 

- منزل السيد الوزير.
 أغلق الخط ، توجه إلي طالباً برقة أن ” أتفضل” بالتوجه في الصباح إلى مرور الدراسة لإنهاء الإجراءات وإستلام السيارة ، خرج معي حتى باب المكتب وهو يحييني مودعاً:
- أرجو إبلاغ تحياتي للدكتور علي .
في صباح اليوم التالي وبعد القليل من الإجراءات الورقية كنت أنطلق بالسيارة البيتل الخضراء خارجاً من أوسع أبواب مرور الدراسة عائداً إلى البيت … إلى 3 شارع رشدي .

طارق فهمي حسين

٣ شارع رُشدي - المبنى و الباني .

٣ شارع رُشـدي (أو الساحة سابقا) بوسط البلد بالقاهرة، هو عنوان العمارة التي عشت في إحدى شُقـقها طفولتي وصباي ومطلع شبابي في كنف أبي وأُمي، ومازالت شقيقتي تعيش فيها حتى يومنا هذا.
باني تلك العمارة ومالكها الأول هو المهندس نعوم شُبيب – وكان أُستاذاً للخرسانة المُسلحة ورائداً مُبتكراً لبعض نظريات البناء الحديث -وقد إستأجر أبي منه شخصياً تلك الشقة في مطلع الستينيات من القرن الماضي، وكان أبي دائماً يذكر أنه كان رجُلاً مُهذباً وبشوشاً وأنه لم يتقاض منه أي " خلو " كما كان شائعاً مُقابل تأجير الشقة، بل على العكس سأل نعوم شبيب أبي إن كان أحداً كسمسار أو غيره قد تقاضى منه أية مبالغ !!، ويذكُر بعض جيراننا أنهم عند إستئجار شُققهم راجع العديد منهم المهندس نعوم شبيب في قيمة الإيجار الشهري شارحين له ظروفهم المادية فكان أن قام بتخفيض قيمة الإيجار في العقد لأكثر من ساكن وفقاً لظروف كل منهم، وكان هناك سباك للعمارة يتقاضى راتباً شهرياً من المُهندس نعوم ويمر على الشقق كلها مرة في الشهر ليقوم بالصيانة ويُصلح أية أعطال " على حساب صاحب العمارة " وذلك حفاظاً على العُمر الإفتراضي للعمارة من تأثير أي تسرب للمياه ! زود نعوم شبيب عمارته بثلاث مصاعد أحدها  شديد الإتساع و أبطأ في الصعود و النزول من المصاعد الأخرى إذ أنه مخصص لنقل " العفش " ، كذلك زود الرجل عمارته أيضا ببدعة لم تكن شائعة في وقتها و لا هي بالشيوع الكافي حتى يومنا هذا إذ جعل بين كل طابقين بابا كباب المصعد لكنك حين تفتحه تجد سلم الطوارئ الحديدي و إلى جواره ( و هذه هي البدعة ) ماسورة ضخمة بطول العمارة تتفرع منها بين كل طابقين فوهة كبيرة يلقي فيها السكان أكياس القمامة فتنزلق داخل الماسورة الضخمة لتسقط في النهاية إلى صندوق القمامة الكبير الموجود في " المنور"  الخلفي للعمارة  و الذي تأتي إليه عربة القمامة يوميا لتفرغ ما فيه دون أن تقع عليها أعين السكان ، و الأهم : أنوفهم !
إلتزاماً منه بقوانين البناء ، والتي تُحدد إرتفاع أي عمارة بثلاثة أضعاف عرض الشارع كحد أقصى ، قام نعوم شُبيب بالتراجع ببنايته للخلف في الأرض المملوكة له بنحو خمسين متراً مما أتاح له الإرتفاع بالعمارة أو " البُرج " إلى عشرين طابقاً دون أن يُخالف القانون ، أما تلك المساحة الكبيرة المتروكة أمام العمارة فقد قام بتبليطها و بنى على جانبيها صفين من المحلات ( دور أرضي فقط ) لتأجيرها للأنشطة التجارية ، كما لم يقُم ببناء شُقق بالطابق الأرضي ، و إنما إرتفع بالطابق الأول و البُرج ككُل فوق أعمدة إسطوانية الشكل يبلغ إرتفاعها خمسة أمتار أو أكثر مما أتاح له مد صفي المحلات علي الجانبين حتى قُبيل منطقة المصاعد و التي فصل بينها و بين المحلات ببوابات زُجاجية شفافة و ضخمة و ذات مفصلات نحاسية لامعة ، مما منح مدخل البُرج هيبة و وجاهة كبيرة ، أما تلك الساحة الكبيرة أو " ممر العمارة " فقد كانت أرضيتها المُبلطة في نفس الوقت سقفاً لخندق كبير تحت الأرض بكامل مساحة الأرض تحت الممر و العمارة معاً ، و ذلك لاستخدام السُكان في حالات الطواريء ، و جعل مدخل الخندق عبر سلم خلف منطقة المصاعد و بجوار غُرفة البواب ، بينما جعل المخرج عبر سلم يصعد إلى فتحة مربعة في رصيف الشارع مُغلقة بسواء الرصيف بغطاء كالذي يُغطي البالوعات ، كما وفر تهوية جيدة جداً للخندق عبر صفين من المُربعات الكبيرة من الحديد المُفرغ تُغطي فتحات في أرضية " الممر " و تسمح بمرور الهواء بكميات كبيرة  إلى داخل الخندق ، كما جعل فيه توصيلات للإضاءة ، و الخندق على هذا النحو و بهذه المواصفات يتسع لأكثر من عدد السُكان ، و يسمح بنزولهم إليه دون أن يخرجوا إلى الشارع ، كما يسمح بخروجهم منه إلى رصيف الشارع حتى لو انهارت العمارة بالكامل ( لاقدر الله ) فوق بعضها و فوق الممر ، و كان هذا تصميماً عبقرياً لطالما أمدنا نحنُ السُكان بشعور عام من الثقة و الاطمئنان عبر سنوات الحروب الطويلة التي عاشتها مصر وعاصرناها نحنُ سُكان ٣ شارع رُشدي .

ذكر لي أبي أيضاً أنه حين إنتهى المُهندس نعوم شُبيب من بناء تلك العمارة  فإنها كانت أعلى مبنى في مصر كُلها في ذلك الوقت الذي كانت توصف فيه عمارة الإيموبيليا -11/13 طابق -بأنها ناطحة سحاب في حين كان برج نعوم شُبيب مكوناً من 20 طابق فظل الناس لفترة  عازفون عن التقدم للاستئجار والسُكنى بها  تهيُباً من إرتفاعها غير المألوف ،وتخوفاً من تحذيرات جهات عديدة بشأن إمكانية وصول المياه للأدوار العُليا، وتصريح هيئة الدفاع المدني وقتها عن عدم توافر وسائل لإطفاء أية حرائق بالأدوار العُليا لعمارة بهذا الإرتفاع، وكذا التخويف من عدم صمودها في حا وقوع زلازل! ثم بدأ إشغالها تدريجياً، وتحدياً من المهندس نعوم شبيب قام فيما بعد ببناء بُرج أعلى منها - أكثر من 30 طابق - على كورنيش جاردن سيتي اشتهر بإسم " عمارة بلمونت " حيثُ كان يعلوه إعلان كبير لسجائر "بلمونت" الشائعة في ذلك الوقت ، وكان الإعلان يُرى بالعين المُجردة من كافة أنحاء القاهرة تقريباً لضخامة حجمه من ناحية وإرتفاع العمارة من ناحيةٍ أُخرى و الذي لم يكن له مثيل في كُل مصر والعالم العربي وإفريقيا، ثُم كانت قصة بناء المهندس نعوم شُبيب لبُرج الجزيرة بتكليف من الدولة بعد أن ذاع صيت كفاءته.
من الطريف أنني حين عشتُ في بيروت جانباً من سنوات السبعينيات وأثناء زيارة لبعض الأصدقاء لاحظت التشابه الذي يقترب من التطابق بين العمارة التي يقطنها أولئك الأصدقاء في بيروت ) و كان إسمها "الحمرا سنتر"  و بين بيتنا في القاهرة ( ٣ شارع رُشدي )  نفس البُرج العالي المُستقيم الخطوط ، و نفس الممر المؤدي إلى مدخل العمارة و المحلات التجارية على جانبيه و إن كانت " الحمرا سنتر" أقصر كثيراً  ، و أبديت هذه المُلاحظة لوالدي اللذين وافقاني تماماً ، و لشدة العجب  فقد عرفنا من أصدقائنا ساكني " الحمرا سنتر " أن باني هذا البُرج هو نفسه المُهندس نعوم شُبيب " إبان وجوده في لبنان بعد مغادرته لمصر عام 1971 بعد رحيل عبد الناصر ... وفي عام ٢٠١٥  حين زرت بيروت بعد انقطاع تجاوز الثلاث عقود من الزمان أدهشني و أسعدني أن أرى " الحمرا سنتر " مازالت قائمة ( كشقيقتها الكبرى في القاهرة ) و إن كان الزمن قد وضع عليها هي الأخرى أقسى البصمات ...

عند مغادرته لمصر باع نعوم شُبيب " عمارتنا " لصندوق تأمين ضباط الشُرطة وأصبحت تُعرف بإسم " عمارة الشُرطة"  و وضع عليها "المالك الجديد" بعض لمساته ، من ذلك أن قام الصندوق بإجراء بعض " التعديلات " على الطوابق الأربع الأولى الخالية من السكان ليحولها إلى " إستراحة للضباط" القادمين من الأقاليم للخدمة بالقاهرة ، و قام بإلقاء بقايا المواد الأسمنتية المستخدمة في ماسورة القمامة فتسبب في سدها و توقف إستخدامها للأبد لتعرف العمارة لأول مرة منذ ذلك الحين رائحة القمامة ... و أشياء أخرى و هكذا آل حال العمارة إلى ما آل إليه حال وسط البلد كله والقاهرة وكُل مصر ...
كان لنعوم شُبيب الكثير من الأعمال الخيرية منها مثلاً تبرعه ببناء مدرسة القُللي الخيرية في إحدى مناطق القاهرة الفقيرة ، ومن أشهر الصروح التي قام بتصميمها وتنفيذها كنيسة سانت كاترين،وكنيسة سانت تريز، ومبنى جريدة الأهرام، وكذا سينما ومسرح علي بابا وغيرها...
 لم يُعرف يوماً بشكل قاطع هل كان نعوم شُبيب ذو الأصول اللبنانية يحمل الجنسية المصرية هل مُنحت له يوماً، أم كان مصرياً بحكم المولد، أم لم يحملها قط؟، لكن المؤكد أنه حين غادر إلى كندا في عام 1971 وحتى  توفي هناك عام 1985،وفي كُل الأحوال- كان مصريا حتى النخاع...
رحم الله نعوم شُبيب ورحم كُل عُشاق مصر الحقيقيين الصادقين المُخلصين ...
هذا عن الباني العظيم، أما عن المبنى ومن عاشوا فيه وملأوه بالحياة وشهد أفراحهم وأتراحهم على مدار عقود فتلك قصة أُخرى ...

 طــارق فهمــي حســـين


عملاقان ... و أنا




عملاقان ... و أنا .

هذه الصورة تحمل خلفها تاريخاً يتجاوز عُمري و يسبق ميلادي.. هذه الصورة تضم عملاقين من عمالقة الصحافة و السياسة و النضال الوطني المصري و القومي العربي ، عملاقان من عمالقة حركة التقدم و الإشتراكية في مصر و العالم العربي هُما – و بدون ترتيب – الأُستاذ / فاروق القاضي أو “ أحمد الأزهري ( إسمه الحركي في الثورة الفلسطينية ) أحد قيادات اللجنة الوطنية العُليا للطلبة و العُمال في مصر عام ١٩٤٦ حين كان طالباً في كلية الحقوق ،و كان أيضاً السكرتير البرلماني لفؤاد سراج الدين النائب و الوزير الوفدي الشهير ثُم تخرج من الحقوق عام ١٩٥٠ حيث أدى في عام دراسي واحد إمتحانات الفرقة الثالثة و الرابعة بقرار من حكومة الوفد ضمن العديد من زملائه تعويضاً لهم عن عام دراسي قضوه في المعتقل . فاروق القاضي إبن مُحافظة المنوفية هو أيضاً واحد من أبناء “ حدتو “ وواحد من الرعيل الأول من شباب الصحفيين الذين واكبوا و دعموا ثورة يوليو ١٩٥٢ و ناضلوا تحت رايتها ، ثُم إنضم للثورة الفلسطينية في منذ السنوات الأولى لإنطلاقتها و كان المُستشار السياسي للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ، ومُهندس العلاقات الفلسطينية مع المُعسكر الإشتراكي والإتحاد السوفيتي … حين دخلت جحافل الغزو الصهيوني إلى العاصمة اللبنانية بيروت عام ١٩٨٢ كان ضمن قائمة أولوياتها البحث عن قائمة من قيادات الثورة الفلسطينية و أسرهم و كان في موقع متقدم من تلك القائمة بالطبع إسم : أحمد الأزهري ( الذي لم يكونوا يعرفون أنه المصري فاروق القاضي ) فحاصروا بيته بالدبابات و أمروا كل سكان البناية بالنزول بعد تكرار النداءات بنزول “ أحمد الأزهري “ دون مُجيب ، لكنه كان قبيل الغزو قد غادر بيروت إلى الأردن في مُهمةٍ قصيرة ولم يمكنه الغزو من العودة … أما العملاق الآخر الذي يزين هذه الصورة فهو الأُستاذ الكبير يوسف صبري الكاتب الصحفي و المُناضل السياسي إبن مُحافظة الغربية الذي بدأ حياته ضابطاً بالشُرطة ، و كان أحد أبطال معركة الشُرطة في الإسماعيلية في ١٧ و ١٨ نوفمبر عام ١٩٥١ حيث كان ظابطاً للمباحث بمحافظة أخرى و تطوع للإنضمام إلى بلوكات النظام بالإسماعيلية ليشارك في مواجهة قوات الإحتلال الإنجليزي هناك ، و هي المعركة التي أسفرت عن خسائر فادحة في أرواح الجنود و الضباط الإنجليز ، و التي حين نفدت خلالها الذخيرة من جعبة الضباط و الجنود المصريين قام أهالي الإسماعيلية بإمدادهم بالذخائر التي يقول يوسف صبري متذكراً أنهم أحضروها في “ غلقان “ أو “ مقاطف “ حيث كان أهالي الإسماعيلية قد دأبوا على خطف الأسلحة من الجنود أثناء سيرهم في شوارع الإسماعيلية و سرقة الذخائر من مخازن المُحتل ، تلك المعركة التي كانت سبباً لإنسحاب قوات الإحتلال من مدينة الإسماعيلية و إلتزامهم بالكمون داخل معسكراتهم ، كما كانت سبباً في معركة ٢٥ يناير ١٩٥٢ الشهيرة و التي ركز عليها “ المؤرخون – مجازاً – و أغفلوا معركة ١٧ و ١٨ نوفمبر ١٩٥١ الباسلة و التي كانت معركة ٢٥ يناير ١٩٥٢ نتيجة لها حيثُ حاول فيها الإنجليز الإنتقام لخسائرهم في المعركة الأولى . كان يوسف صبري – و مازال – وطنياً من طراز نادر ، و كان – و مازال – منذ مطلع شبابه من دعاة الإشتراكية و التقدم فإنضم مبكراً و منذ كان طالباً في كلية الشرطة للعمل الوطني و للتنظيمات اليسارية السرية ، و ساهم وهو ضابط في تهريب عدد من المعتقلين السياسيين لعل أبرزهم المناضل اليساري الراحل ، و نائب دائرة الساحل لدورات عديدة المناضل أحمد طه ، و هو الأمر الذي دفع يوسف صبري ثمنه راضياً بالفصل من الشرطة والإعتقال لفترات ، ليصبح بعد ذلك واحداً من أبرز صحفيي جيله ومحرراً سياسياً كبيراً ثم نائباً لرئيس تحرير روزاليوسف في النصف الأول من السبعينيات تحت قيادة الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي.
 أمضى يوسف صبري عُمراً في النضال تحت راية الإتحاد الإشتراكي و التنظيم الطليعي ، و كان أحد رموز تيار النضال ضد سلبيات تجربة ثورة يوليو من داخل تنظيماتها ذاتها ، وحين وقعت نكسة ١٩٦٧ ، و قبل أن يمضي إسبوع على ٥ يونيو الحزين ، وتحديداً في يوم ١١ يونيو ١٩٦٧ كان يوسف صبري و رفيق عمره و نضاله فهمي حسين ومن تلقاء نفسيهما يتركان مكتبيهما في روز اليوسف و يحملان السلاح و يقفان في قلب مدينة الإسماعيلية ليضعا خبرتهما القتالية السابقة في المقاومة في ١٩٥١ وفي ١٩٥٦ تحت أمر الوطن الجريح فيساهمان في تشكيل كتائب المقاومة الشعبية المسلحة التي كانت القوة المصرية الوحيدة المسلحة على ضفة القنال في مواجهة العدو حتى إستجمع الجيش قواه  نظم صفوفه و عاد إلى الساحة ليسلم يوسف صبري و فهمي حسين ورجالهما السلاح و الراية للجيش و يعودا إلى القاهرة بعد ٩٣ يوماً  ليتسلحا بأقلامهما من جديد مواصلين نضالهما من أجل الوطن ، وليُسجلا فيما بعد هذه التجربة في كتبهم المُشترك “ وكانت البداية من اصفر “ والذي كتب له المُقدمة الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي ووصف فيها يوسف صبري بقوله :
=========
يوسف صبري هو أحد المُفكرين المُناضلين الذين تفخر بهم صحافتنا ويعتز بهم الوطن كُله، فهو أحد أبطال معركة الشُرطة الشهيرة أيام المُقاومة ضد الإحتلال البريطاني سنة ١٩٥١.. وأرجو أن يأتي الوقت الذي يعرض فيه الأستاذ يوسف صبري ذكرياته عن تلك الفترة وعن المُقاومة سنة ١٩٥٦ ، مثلما فعل هو وفهمي حسين في هذا الكتاب عن تجربتهما مع المُقاومة سنة ١٩٦٧.. ففي سنة ١٩٦٧ ترك يوسف صبري مكتبه هو وفهمي حسين، وشكلا كتائب للمُقاومة ونهض كُل منهُما بمسئولية منطقة بأسرها . إن يوسف صبري الكاتب والصحفي كان ضابطاً بالشُرطة وشكل لجنة تحضيرية للكفاح المُسلح مع أصدقاء من المُناضلين الشُرفاء .. وكان مسئول الإعلام في هذه اللجنة التي انبثقت منها الجبهة الوطنية. وكان هذا كله يتناقض مع طبيعته كضابط لشُرطة .. لذا فُصل واعتُقل . وهكذا إتجه للصحافة بعد أن أُفرج عنه .وانتقل من مواقع النضال الأولى إلى موقع جديد . وكُل ماهو إنساني وشريف وباسل هو ما يُحدد للأُستاذ يوسف صبري خطواته في الصحافة والحياة .. هكذا نهض بمسئولياته في مجلة التحرير وفي جريدة الجمهورية .. وهكذا ينهض بمسئولياته في في روزاليوسف . إن القُراء يعرفون من هو يوسف صبري الكاتب والصحفي ولكني أردتُ بهذا التقديم أن أُحييه ..  
===========
( عبد الرحمن الشرقاوي - من مُقدمة كتاب وكانت البداية من الصفر / يوسف صبري وفهمي حسين - الكتاب الذهبي /روزاليوسف/إبريل ١٩٧٢ )


 … هذان هما بإختصار مُخل ، بل – للأسف – شديد الإخلال العملاقان اللذان يظهران في هذه الصورة ، أما لمن قد يلاحظ فسيجدني أنا أقف على إستحياء على هامش الصورة ضئيلاً إلى جوار هذان العملاقان ، أما عن سبب وجودى في مشهد بهذا الجلال فلأن أبي الراحل كان ثالثهما ، إذ جمعت ثلاثتهم صداقة و أخوة و رفقة نضال بالقلم و السلاح إمتدت منذ نهايات الأربعينيات من القرن العشرين و حتى رحيل أبي في صيف عام ٢٠٠٤ يوسف صبري و فاروق القاضي اللذان شهدا عُمري كله حتى قبل أن أولد بل قبل زواج والداي ، و لشدة وفائهما لأخيهما الراحل أبي ، و لأن المرء كلما كان عظيماً كلما إزداد بساطة و تواضعاً ، لكل ذلك فقد حرصا دائماً على إستمرار علاقتهما بأبي و إمتدادها لشخصي المتواضع من بعده ، فهاهو فاروق القاضي ( أو البارون الإشتراكي كما يعرفه اليسار المصري و العربي ) يحرص على الإتصال بشخصي البسيط كلما تواجد بالقاهرة ، و هو المُقيم بالأردن منذ سنوات طويلة ، و هو اليوم يأتي للقاهرة خصيصاً ليعزي رفيق عمره يوسف صبري في رحيل رفيقة حياته ، كما فعل حين حضر خصيصا ليعزينا في رحيل أبي ، ورغم أنه يتقدم بخطى مطمئنة نحو إنهاء العقد التاسع من عمره – بارك الله وأمد فيه – فهو أيضاً يأتي للقاهرة ليضخ دماءاً جديدة و شابة في شرايين اليسار المصري الذي لم يشهد مثل جيل فاروق القاضي و يوسف صبري ! أما يوسف صبري ، و الذي إلتقطت هذه الصورة في بيته الكريم ، فقد تفضل بدعوتي مع فاروق القاضي للغداء في بيته فكانت هذه الصورة ! إتصل يوسف صبري بتليفون منزلي فأجابت زوجتي فسألها : “ فهمي “ موجود ، فأجابت برقتها و ذكائها المعهود : لسه ماجاش من الشُغل … لم تُصحح له الإسم ، و لو كانت قد فعلت لآلمني ذلك شخصياً … لكنه في نهاية المُكالمة أخبرها بصوته الرقيق : لما ييجي طارق خليه يكلمني .

طارق فهمي حسين
ديسمبر 2016


ذكرى زفافهما … مُجدداً




ذكرى زفافهما … مُجدداً

اليوم ١٥ نوفمبر ذكرى زفاف أمي و أبي رحمهما الله .
تزوجا في مثل هذا اليوم من عام ١٩٥٧ و عاشا سويا حتى رحيل أبي في ٢٨ يوليو ٢٠٠٤ ، نحو سبع و أربعون عاما عاشا معا في بيت يظله الحب و الاحترام و السعادة الزوجية ، و كما ذكرت قبلا و أكرر كثيرا ظل أبي و حتى المشوار الأخير يفتح لأمي باب السيارة ، و ظلت أمي طيلة تلك السنوات تتجاهل حقها في " ربع الفرخة "أو حصتها من المانجو أو أطباق الجيلي و أصناف الحلوى التي تجيد صنعها ، و تتنازل عنه لأي من ثلاثتنا : شقيقتي الصغرى و أبي و أنا .
كانا زميلين في كلية الحقوق لكنهما لم يتعرفا في فترة الدراسة رغم أنهما إكتشفا فيما بعد أنهما كانا يعرفان نفس الزملاء المشتركين ! لكنهما إلتقيا فيما بعد حين تزاملا في جريدة الجمهورية و مجلة الرسالة الجديدة و غيرها ، أبي كصحفي و أمي كإدارية ، كانت أمي تحكي لنا أنه كان " أشيك واحد في الجورنال " و أنه كان يمتلك سيارة كابورليه كانت في السابق ملكا للسفير الأمريكي و اشتراها أبي من مزاد السفارة فكان ينزل من الجريدة ليجد أمي و زميلة أخرى تجلسان في السيارة و تطلبان منه توصيلهما فيقول : مش في طريقي ، فتصران على عدم النزول من السيارة فيستسلم أبي لكنه يطلب منهما "تموين" السيارة بالبنزين !
====
هنا يضحك أبي الجالس على كنبته المفضلة يقرأ و يستمع لأمي و هي تروي لنا هذه الذكريات فيقاطعها موضحا : على فكرة هي حصلت مرة واحدة بس لإن يومها ماكانش في جيبي فلوس خالص .
=====
تستطرد أمي : أبوك كان طول عمره "أليط "قوي و كان أنور السادات أيام الجمهورية بيشحت منه السجاير .
يتدخل أبي : 
كان رزل و جهول ، مرة فضل ( السادات و كان وقتها رئيس تحرير جريدة الجمهورية ) مستني بروفة الجورنال علشان يوقع عليها و تنزل المطبعة ، تأخرت البروفة فسأل السادات فقيل له ان المحررين متأخرين في تسليم المقالات و الموضوعات ، فقام السادات يمشي في الطرقة بين المكاتب مصفقا بيديه صائحا : شهل إيدك إنت و هو ... شهل إيدك !!!
تستطرد أمي : 
بس أنا كنت باقول على أبوك رغم أناقته إنه "فلاح أوي " لإنه كان كل يوم بييجي الجورنال دالق على نفسه إزازة كولونيا بالكامل ، كنت باشمها من الدور الخامس و هو لسه واقف على الأسانسير في الدور الأرضي ، فأقول للزملاء : فهمي حسين وصل ، و فعلا بعد دقائق نلاقيه داخل فنضحك جميعا فيندهش و ينظر لنا متسائلا .
و مرة سنة ٥٦ كان هو في القنال في المقاومة الشعبية جانا خبر إن فهمي حسين إستشهد فبكينا جميعا ، ثم اتضح كذب الخبر و عاد سالما ...
يلتقط أبي طرف الحديث : كانت بتحبني و انا مش عارف .
تعترض أمي : ده كنت باقول عليك فلاح .
يعقب أبي بتحفظ : طب ما أنا فعلا فلاح ، مالهم الفلاحين ؟
يستطرد : أمكم دي لما أنا عملت عملية الزايدة جت مع الزملا يزوروني في المستشفى و كانت عندي أمي -جدتكم ، أمكم كانت عامله أكل و جايباه معاها زيارة ، بعد ما مشيوا أمي قالتلي : زميلتك البيضا أم شعر بني دي باين عليها بتحبك و شكلها بنت ناس طيبين و حنينة ، ياريت يابني تكون من نصيبك ...
يكمل أبي : 
في يوم و بدون مقدمات قلت لها : ما تيجي نتجوز ؟
فاجأتني و قد إحمر وجهها : أتجوزك إنت ؟ 
أجبت : أنا باتكلم جد 
أجابت بتحفظ : بس بابا مش هنا ، هابعت له جواب و أرد عليك 
( كان جدي لأمي من أصل مغربي و يحمل وثيقة فرنسية و تم ترحيله من مصر إلى مارسيليا إبان العدوان الثلاثي ) 
بعد نحو إسبوع ردت أمي : بابا بعت قاللي خليه يقابل عمك ( إبن عم جدي و كان يحمل الجنسية المصرية ) ، و بالفعل تقدم إليه أبي طالبا يد أمي ، و كالمعتاد في تلك الأيام طلب عم أمي مهلة " نسأل عليك " 
يقول أبي : 
كانت أمكم أجمل بنات العيلة و الكل يتمناها لأحد من أبناءه ، عمها قال لها إحنا يا بنتي سألنا عليه في جريدة الجمهورية و سمعنا إنه مش صحفي و إنه موظف توزيع ! عارفين أمكم دي اللي بتهزر دلوقت و بتقول عليا فلاح ردت قالت لعمها إيه ؟ 
قالت له : لأ يا عمي هو مش موظف توزيع ده هو ساعي في الجمهورية و برضه هاتجوزه !
و ساعة كتب الكتاب المأذون سأل عن قيمة مؤخر الصداق و جدتكم /حماتي همت بالإجابة فسبقتها أمكم و أجابت : ربع جنيه .
الذكريات كثيرة و الحديث يمكن ألا ينتهي لكن هذان كانا أمي و أبي و هذه كانت لمحة من قصة حبهما التي لم أر لها مثيلا و التي إنعكست علينا شقيقتي و أنا منذ الطفولة في بيت صغير شهد حقبة هامة من تاريخ مصر و المنطقة و معاركها الوطنية و تردد صخب تلك المعارك بين جدرانه التي ضمت أبا مناضلا و مقاتلا بالقلم و الكلاشنكوف أيضا و أما نقابية و سياسية و عضوة -مثل أبي - في الإتحاد الإشتراكي العربي و التنظيم الطليعي -مثل أبي أيضا - و كم صحبتني طفلا إلى بعض المناطق الشعبية حيث كانت تعطي دروسا لمحو الأمية لفصول ليلية من سيدات تلك المناطق ، بيت كانت تعقد فيه إجتماعات خلية أمي في التنظيم الطليعي و التي كانت تضم الفنان عبد الرحمن أبو زهرة و الفنانة الراحلة نادية السبع و غيرهما ، بيت شهد غياب أبي طويلا مرات عديدة في جبهة القتال عام ١٩٦٧ ، و مع حركة فتح في أغوار الأردن ثم في لبنان ثم في تونس ، و غيرها و ظل بيتا مستقرا آمنا يسوده النظام و الحب و حنان أم ترفع قواعده على أكمل وجه ، و حين يعود الأب من أسفاره تقف " تتنطط " حرفيا كطفلة صغيرة و دموع الفرح في عينيها : بابا جه يا طارق ، بابا جه يا أمل ، أما هو فيلقي بنفسه بين أحضان ثلاثتنا ثم يجوب أرجاء شقتنا الصغيرة ذهابا و جيئة مشعلا كل الأنوار قائلا : مش عايز و لا لمبة في البيت مطفأة و يبدأ مباشرة في السؤال عن كل تفاصيل حياتنا و يحكي لنا الأحداث الجسام التي عايشها و شارك فيها ، و يسأل عن شقيقته الكبرى و عن أصدقاءه في حديث لا ينتهي حتى الصباح و لم و لن ينته في ذاكرتي حتى آخر العمر .. 
عيد زواج سعيد في عليين بإذن الله ...
طارق فهمي حسين
١٥ نوفمبر ٢٠١٧