السبت، 18 نوفمبر 2017

عملاقان ... و أنا




عملاقان ... و أنا .

هذه الصورة تحمل خلفها تاريخاً يتجاوز عُمري و يسبق ميلادي.. هذه الصورة تضم عملاقين من عمالقة الصحافة و السياسة و النضال الوطني المصري و القومي العربي ، عملاقان من عمالقة حركة التقدم و الإشتراكية في مصر و العالم العربي هُما – و بدون ترتيب – الأُستاذ / فاروق القاضي أو “ أحمد الأزهري ( إسمه الحركي في الثورة الفلسطينية ) أحد قيادات اللجنة الوطنية العُليا للطلبة و العُمال في مصر عام ١٩٤٦ حين كان طالباً في كلية الحقوق ،و كان أيضاً السكرتير البرلماني لفؤاد سراج الدين النائب و الوزير الوفدي الشهير ثُم تخرج من الحقوق عام ١٩٥٠ حيث أدى في عام دراسي واحد إمتحانات الفرقة الثالثة و الرابعة بقرار من حكومة الوفد ضمن العديد من زملائه تعويضاً لهم عن عام دراسي قضوه في المعتقل . فاروق القاضي إبن مُحافظة المنوفية هو أيضاً واحد من أبناء “ حدتو “ وواحد من الرعيل الأول من شباب الصحفيين الذين واكبوا و دعموا ثورة يوليو ١٩٥٢ و ناضلوا تحت رايتها ، ثُم إنضم للثورة الفلسطينية في منذ السنوات الأولى لإنطلاقتها و كان المُستشار السياسي للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ، ومُهندس العلاقات الفلسطينية مع المُعسكر الإشتراكي والإتحاد السوفيتي … حين دخلت جحافل الغزو الصهيوني إلى العاصمة اللبنانية بيروت عام ١٩٨٢ كان ضمن قائمة أولوياتها البحث عن قائمة من قيادات الثورة الفلسطينية و أسرهم و كان في موقع متقدم من تلك القائمة بالطبع إسم : أحمد الأزهري ( الذي لم يكونوا يعرفون أنه المصري فاروق القاضي ) فحاصروا بيته بالدبابات و أمروا كل سكان البناية بالنزول بعد تكرار النداءات بنزول “ أحمد الأزهري “ دون مُجيب ، لكنه كان قبيل الغزو قد غادر بيروت إلى الأردن في مُهمةٍ قصيرة ولم يمكنه الغزو من العودة … أما العملاق الآخر الذي يزين هذه الصورة فهو الأُستاذ الكبير يوسف صبري الكاتب الصحفي و المُناضل السياسي إبن مُحافظة الغربية الذي بدأ حياته ضابطاً بالشُرطة ، و كان أحد أبطال معركة الشُرطة في الإسماعيلية في ١٧ و ١٨ نوفمبر عام ١٩٥١ حيث كان ظابطاً للمباحث بمحافظة أخرى و تطوع للإنضمام إلى بلوكات النظام بالإسماعيلية ليشارك في مواجهة قوات الإحتلال الإنجليزي هناك ، و هي المعركة التي أسفرت عن خسائر فادحة في أرواح الجنود و الضباط الإنجليز ، و التي حين نفدت خلالها الذخيرة من جعبة الضباط و الجنود المصريين قام أهالي الإسماعيلية بإمدادهم بالذخائر التي يقول يوسف صبري متذكراً أنهم أحضروها في “ غلقان “ أو “ مقاطف “ حيث كان أهالي الإسماعيلية قد دأبوا على خطف الأسلحة من الجنود أثناء سيرهم في شوارع الإسماعيلية و سرقة الذخائر من مخازن المُحتل ، تلك المعركة التي كانت سبباً لإنسحاب قوات الإحتلال من مدينة الإسماعيلية و إلتزامهم بالكمون داخل معسكراتهم ، كما كانت سبباً في معركة ٢٥ يناير ١٩٥٢ الشهيرة و التي ركز عليها “ المؤرخون – مجازاً – و أغفلوا معركة ١٧ و ١٨ نوفمبر ١٩٥١ الباسلة و التي كانت معركة ٢٥ يناير ١٩٥٢ نتيجة لها حيثُ حاول فيها الإنجليز الإنتقام لخسائرهم في المعركة الأولى . كان يوسف صبري – و مازال – وطنياً من طراز نادر ، و كان – و مازال – منذ مطلع شبابه من دعاة الإشتراكية و التقدم فإنضم مبكراً و منذ كان طالباً في كلية الشرطة للعمل الوطني و للتنظيمات اليسارية السرية ، و ساهم وهو ضابط في تهريب عدد من المعتقلين السياسيين لعل أبرزهم المناضل اليساري الراحل ، و نائب دائرة الساحل لدورات عديدة المناضل أحمد طه ، و هو الأمر الذي دفع يوسف صبري ثمنه راضياً بالفصل من الشرطة والإعتقال لفترات ، ليصبح بعد ذلك واحداً من أبرز صحفيي جيله ومحرراً سياسياً كبيراً ثم نائباً لرئيس تحرير روزاليوسف في النصف الأول من السبعينيات تحت قيادة الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي.
 أمضى يوسف صبري عُمراً في النضال تحت راية الإتحاد الإشتراكي و التنظيم الطليعي ، و كان أحد رموز تيار النضال ضد سلبيات تجربة ثورة يوليو من داخل تنظيماتها ذاتها ، وحين وقعت نكسة ١٩٦٧ ، و قبل أن يمضي إسبوع على ٥ يونيو الحزين ، وتحديداً في يوم ١١ يونيو ١٩٦٧ كان يوسف صبري و رفيق عمره و نضاله فهمي حسين ومن تلقاء نفسيهما يتركان مكتبيهما في روز اليوسف و يحملان السلاح و يقفان في قلب مدينة الإسماعيلية ليضعا خبرتهما القتالية السابقة في المقاومة في ١٩٥١ وفي ١٩٥٦ تحت أمر الوطن الجريح فيساهمان في تشكيل كتائب المقاومة الشعبية المسلحة التي كانت القوة المصرية الوحيدة المسلحة على ضفة القنال في مواجهة العدو حتى إستجمع الجيش قواه  نظم صفوفه و عاد إلى الساحة ليسلم يوسف صبري و فهمي حسين ورجالهما السلاح و الراية للجيش و يعودا إلى القاهرة بعد ٩٣ يوماً  ليتسلحا بأقلامهما من جديد مواصلين نضالهما من أجل الوطن ، وليُسجلا فيما بعد هذه التجربة في كتبهم المُشترك “ وكانت البداية من اصفر “ والذي كتب له المُقدمة الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي ووصف فيها يوسف صبري بقوله :
=========
يوسف صبري هو أحد المُفكرين المُناضلين الذين تفخر بهم صحافتنا ويعتز بهم الوطن كُله، فهو أحد أبطال معركة الشُرطة الشهيرة أيام المُقاومة ضد الإحتلال البريطاني سنة ١٩٥١.. وأرجو أن يأتي الوقت الذي يعرض فيه الأستاذ يوسف صبري ذكرياته عن تلك الفترة وعن المُقاومة سنة ١٩٥٦ ، مثلما فعل هو وفهمي حسين في هذا الكتاب عن تجربتهما مع المُقاومة سنة ١٩٦٧.. ففي سنة ١٩٦٧ ترك يوسف صبري مكتبه هو وفهمي حسين، وشكلا كتائب للمُقاومة ونهض كُل منهُما بمسئولية منطقة بأسرها . إن يوسف صبري الكاتب والصحفي كان ضابطاً بالشُرطة وشكل لجنة تحضيرية للكفاح المُسلح مع أصدقاء من المُناضلين الشُرفاء .. وكان مسئول الإعلام في هذه اللجنة التي انبثقت منها الجبهة الوطنية. وكان هذا كله يتناقض مع طبيعته كضابط لشُرطة .. لذا فُصل واعتُقل . وهكذا إتجه للصحافة بعد أن أُفرج عنه .وانتقل من مواقع النضال الأولى إلى موقع جديد . وكُل ماهو إنساني وشريف وباسل هو ما يُحدد للأُستاذ يوسف صبري خطواته في الصحافة والحياة .. هكذا نهض بمسئولياته في مجلة التحرير وفي جريدة الجمهورية .. وهكذا ينهض بمسئولياته في في روزاليوسف . إن القُراء يعرفون من هو يوسف صبري الكاتب والصحفي ولكني أردتُ بهذا التقديم أن أُحييه ..  
===========
( عبد الرحمن الشرقاوي - من مُقدمة كتاب وكانت البداية من الصفر / يوسف صبري وفهمي حسين - الكتاب الذهبي /روزاليوسف/إبريل ١٩٧٢ )


 … هذان هما بإختصار مُخل ، بل – للأسف – شديد الإخلال العملاقان اللذان يظهران في هذه الصورة ، أما لمن قد يلاحظ فسيجدني أنا أقف على إستحياء على هامش الصورة ضئيلاً إلى جوار هذان العملاقان ، أما عن سبب وجودى في مشهد بهذا الجلال فلأن أبي الراحل كان ثالثهما ، إذ جمعت ثلاثتهم صداقة و أخوة و رفقة نضال بالقلم و السلاح إمتدت منذ نهايات الأربعينيات من القرن العشرين و حتى رحيل أبي في صيف عام ٢٠٠٤ يوسف صبري و فاروق القاضي اللذان شهدا عُمري كله حتى قبل أن أولد بل قبل زواج والداي ، و لشدة وفائهما لأخيهما الراحل أبي ، و لأن المرء كلما كان عظيماً كلما إزداد بساطة و تواضعاً ، لكل ذلك فقد حرصا دائماً على إستمرار علاقتهما بأبي و إمتدادها لشخصي المتواضع من بعده ، فهاهو فاروق القاضي ( أو البارون الإشتراكي كما يعرفه اليسار المصري و العربي ) يحرص على الإتصال بشخصي البسيط كلما تواجد بالقاهرة ، و هو المُقيم بالأردن منذ سنوات طويلة ، و هو اليوم يأتي للقاهرة خصيصاً ليعزي رفيق عمره يوسف صبري في رحيل رفيقة حياته ، كما فعل حين حضر خصيصا ليعزينا في رحيل أبي ، ورغم أنه يتقدم بخطى مطمئنة نحو إنهاء العقد التاسع من عمره – بارك الله وأمد فيه – فهو أيضاً يأتي للقاهرة ليضخ دماءاً جديدة و شابة في شرايين اليسار المصري الذي لم يشهد مثل جيل فاروق القاضي و يوسف صبري ! أما يوسف صبري ، و الذي إلتقطت هذه الصورة في بيته الكريم ، فقد تفضل بدعوتي مع فاروق القاضي للغداء في بيته فكانت هذه الصورة ! إتصل يوسف صبري بتليفون منزلي فأجابت زوجتي فسألها : “ فهمي “ موجود ، فأجابت برقتها و ذكائها المعهود : لسه ماجاش من الشُغل … لم تُصحح له الإسم ، و لو كانت قد فعلت لآلمني ذلك شخصياً … لكنه في نهاية المُكالمة أخبرها بصوته الرقيق : لما ييجي طارق خليه يكلمني .

طارق فهمي حسين
ديسمبر 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق