الأحد، 19 نوفمبر 2017

سينما مترو

سينما مترو
مازال المنظر الخارجي لسينما مترو العريقة في قلب القاهرة كما هو حتى اليوم ، لكن المُشكلة في داخل السينما الذي سمعت أنه تم تقسيمها منذ سنوات إلى عدد من قاعات العرض الصغيرة بعد أن كانت قاعة واحدة لها صالة كبيرة وبلكون وعدد من ” البناوير ” ، و وفقاً لبعض من ارتادوا سينما مترو بعد التغيير فقد أفادت انطباعاتهم بأنه قد تم تشويهها بشكل مؤسف، أما عن نفسي فأنا حريص على عدم الاقتراب منها حتى لا تتغير صورتها الجميلة المُبهرة المحفورة في ذاكرتي عبر مئات المرات – دون مُبالغة – التي ارتدت فيها سينما مترو على مدار عقود مُنذ الطفولة والصبا والشباب وبحُكم أنني كُنت على مدار ثلاثين عاماً من سُكان وسط البلد حيثُ ولدت ونشأت وشببت، كُنت من رواد سينما مترو مُنذ كانت أُمي تصحبني كُل يوم جُمعة تقريباً في طفولتي المُبكرة إلى الحفلة الصباحية الخاصة بالأطفال والتي كانت تسبق – على ما أذكر – حفلة العاشرة صباحاً وكانت تعرض فيها أفلام الكارتون الشهيرة وتقدم فقرات ترفيهية للأطفال على خشبة المسرح التي تتقدم شاشة العرض، ثُم يتم السحب على أرقام التذاكر وتوزع جوائز على الأطفال، ولا أنسى يوم فُزت بسمكة زينة ملونة تسبح في وعاء شبه كروي من الزُجاج الشفاف … يومها عُدت مع والدتي إلى البيت بدلاً من استكمال برنامج يوم الجمعة المعتاد إلى حديقة الحيوان، و ذلك لتعذر استكمال الخروج بصحبة البلورة والسمكة السابحة فيها، يومها عُدت ووضعت لي والدتي السمكة في غرفتي فكانت سعادتي كمن حاز الدُنيا بما فيها … أذكُر أيضاً و أنا في المرحلة الإعدادية حين كان أبي يصحبني وحدي إلى سينما مترو و يُعلمني كيف أقف في طابور التذاكر، وكيف أقطع تذكرة صالة ثمنها 16قرش ونصف، وأختار موقعي في المشاية الوسطى في موقع متوسط بين الصفوف وأن أختار أول كرسي في طرف الصف ( غالباً حرف Q ) حتى إذا جلس أمامي من هو أطول مني (وهذا متوقع في تلك السن ومع قصر القامة) فيكون عندي الفرصة لأن أميل إلى الجانب الخارجي للصف لأرى الشاشة بسهولة، علمني أبي أيضاً أن أجهز في يدي قرش صاغ واحد لأدسه في يد ”البلاسيير” حامل البطارية الذي يجلسني في مقعدي، وكان يشغل هذه الوظيفة في سينما مترو رجُلان يرتديان يونيفورم أشبه بالردينجوت و كانا شديدي الأناقة ويتصرفان بمُنتهى الجدية واللباقة والبشاشة في ذات الوقت، مازال وجهاهما محفورين في ذاكرتي بلا مُبرر واضح وكأنما كانا مُدرسين في مدرستي تعلمت منهما الكثير مثلاً !!، ويبدو في الحقيقة أنني بالفعل تعلمت منهما قيمة الجدية في العمل وحُب هذا العمل وأن احترام النفس والآخرين يٌضفي على أي مهنة قيمة وهيبة واحترام مهما كانت المهنة متواضعة، هذه قيمة تعلمتها بالفعل من مراقبتي على مدار سنوات لأداء هذين الرجلين وكذا من “عم حسان” ماسح الأحذية بحديقة نقابة الصحفيين، لكن تلك قصةٌ أُخرى ….. علمني أبى كذلك كيف أخرُج في الاستراحة من السينما –وكان ذلك مسموحاً في ذلك الزمان الآمن رغم أنه كان زمن الحروب مع العدو الصهيوني– وكيف أنتظر الإشارة الخضراء للمُشاة وعبور الشارع إلى ”البُن البرازيلي” وكيف أطلُب مشروبي المُفضل ”شوكولاجلاسيه” وأدفع للكاشير ثُم أستلم المشروب من ذلك الرجُل المحفور وجهه هو الآخر في ذاكرتي حتى اليوم برداءه الأبيض وصَفَّيّ الأزرار على جانبيه و”البيريه” المُثلث المائل على جبهته، فكان يبدو كجندي في البحرية وهو واقف خلف البار المعدني النظيف وأمامه الأجهزة المعدنية اللامعة لصنع أنواع القهوة والشوكولاته وهو يتنقل بينها ليعد ويصب المشروبات في براعة ورشاقة … وهذا الرجل كان أسعد حظاً من رجُلي سينما مترو في أن العديد من أفلام سنيما الخمسينيات والستينيات ”وثّقت” ملامحه حيثُ يظهر في خلفية العديد من المشاهد التي تم تصويرها في البُن البرازيلي أحد أماكن التصوير المُفضلة في تلك الفترة لعدد من كبار مُخرجي السنيما المصرية في ذلك الزمن… أتناول منه شوب "الشوكولاجلاسيه" وأنتقل إلى الجانب المواجه من المحل لأضع الكوب على الرف السفلي المعدني البارد والذي يتناسب مع طولي في ذلك الوقت وأبدأ في ارتشاف المشروب باستمتاع ونشوة بالغة عبر ”الشاليموه” أو ”الشفاطة” كما كنت أعرفها في ذلك الزمن مُتأملاً عبر زُجاج المحل الجانبي روائع فنانة السلويت ”فتنة مؤمن” المُعلقة على الجدران الخشبية لمعرضها المجاني المفتوح في الممر المُتاخم للبُن البرازيلي، فأتعرف على ما أبدعه مقص الفنانة الفذة من وجوه على الورق الأسود الموضوع على خلفية بيضاء … فهذا بروفيل عبد الناصر، و ذاك الإمبراطور هيلاسلاسي إمبراطور أثيوبيا، و هذا الأسقف مكاريوس، و تلك أم كلثوم …. كل هذا مع مراعاة التوقيت –كما علمني أبي– بحيث أنتهي من المشروب و التأمل في اللوحات وأعبر الإشارة (الخضراء بالطبع) وأعود إلى مقعدي في سينما مترو قبل انتهاء الاستراحة وإطفاء الأنوار، ولا مانع من شراء كيس من ”السوداني المملح” من "مقلة حسن مُرسي" الشهيرة التي تقع بين البن البرازيلي وسينما ميامي … علمني أبي – رحمه الله – كُل ذلك في سن مُبكرة، و طبقته عملياً مرات كثيرة خصوصاً حين كان يبدأ في سينما مترو أسبوع من تلك الأسابيع التي كانت تشتهر بها ”مترو” من وقت لآخر كأسبوع أفلام الكاوبوي، أو أسبوع أفلام السيف، أو أسبوع أفلام طرزان … و هكذا، حيث كانت تعرض كل يوم فيلم مختلف في إطار الموضوع الرئيسي لعنوان الأسبوع، فكان أبي يصحبني في اليومين أو الثلاثة الأول ثُم يوكل إلى مسألة استمرار المُتابعة وحدي لظروف عمله بالطبع، و لكونها أفلام مُعادة بالنسبة له شاهد مُعظمها من قبل حين لم يكُن مُحملاً بأعباء الأبوة إلى جانب أعباء الوطن التي حملها على عاتقه مُنذ صباه وحتى رحيله، لكن تلك أيضاً قصةٌ أُخرى ……. فشاهدت في تلك الفترة صولات جون وين و كلينت إيستوود و تشارلز برونسون وفرانكو نيرو وحتى جوليانو جيما، كما انبهرت بأفلام السيف من بطولة ستيوارت جرينجر وغيره من النجوم مثل سكارموش وسجين زنده و الفرسان الثلاثة … ناهيكم عن روائع جوني ويسملر الخالدة في سلسلة أفلام طرزان … تلك كانت سينما مترو و ذاك كان زمانها قبل
سلسلة هجمات الانحطاط والتدني والخصخصة و”الترييف” على حد التعبير العبقري لمحمد حسنين هيكل … ذاك زمان ولى وإن بقيت أنا و جيلي ومن تبقى من أجيال سبقت شهوداً على ذلك الزمن وذكرياته وشجونه ما كتب الله لنا من أجل … تبقى مُشكلة بسيطة لطالما عانيتُ منها مع مسألة السينما ككل ألا وهي كيفية كتابة لفظة ” سينما ” في حد ذاتها، بقيت هذه اللفظة مُنذ بداية علاقتي بالورقة و القلم في الابتدائي وحتى اليوم تُمثل الكلمة الوحيدة التي لا أتذكر حين أضطر لكتابتها هل الياء قبل النون أم العكس ، مع مُلاحظة أنني ظللتُ أفخر طيلة عُمري بأنني ”منزوع الأخطاء الإملائية”، قد أقع في أخطاء نحوية أو إعرابية، أما إملائياً فكُنت أحصل دائما –و على سبيل الحصر– على 10/10 في الإملاء، لكن كان عزائي دائماً أن كلمة سينما أو سنيما ليست في الأساس كلمة عربية لذا فجهلي بصحة كتابتها لا تنتقص من غروري اللغوي !!! تبقى مُلاحظة لمن يقرأ سطوري هذه –بفرض وجود من لم يقتله الملل من الإطالة– أقول: إذا وجدت أخطاء في” هجاء” كلمة أو أكثر في سطوري السابقة فاعلم أنها نتيجة أنني أكتب ولا أنظر إلى الشاشة! هي إذن أخطاء طباعية وليست” إملائية” مما لا ينتقص من” غروري اللغوي” أو للدقة:” غروري الإملائي” وإن كان يفضح عدم صبري على مُراجعة ما أكتب!

طارق فهمي حسين

هناك 4 تعليقات:

  1. سينما مترو.. كأنك تحكى عن كل ابناء جيلك يا طارق.. واحب ان اضيف ان رحلة الاستراحة خارج السنما كانت تشمل احيانا امريكين سليمان باشا للاستمتاع ب ال تروا بيتى كوشو او زينة حيث ساندوتش الشاورمة بثلاثة قروش او اكسلسيور او فرن ثروت لسد بعض الجوع ب ال شتانجل الذى يشتهر به او غيره من علامات وسط البلد المحببة الى قلوب جيلنا.. شكرا يا طارق على هذه الذكريات الجميلة

    ردحذف
  2. الله يا أيمن
    أكملت تفاصيل جميلة وأسماء لاتنسى.

    ردحذف
  3. الاخ طارق تحياتي من البحرين استمتعت بمقالك الراءع التجربه عشتها بحذافيرها عندما كنت طفلا وشابا ادرس طب في القاهره حضرت حفلات العاشره صباحا في مترو وفزت بالسمك الملون واذكر ان السينما كان توزع كوكولا مجانيه للاطفال وحضرت نفس الافلام الراءعه في مترو وكنت احضر حفلات نصف الليل في رمضان ذكريات جميله وغاليه اشكرك لارجاعها تحياتي د محمود السندي من البحرين

    ردحذف
    الردود
    1. خالص تحياتي يا د. محمود السندي وأشكرك بشدة.

      حذف