السبت، 18 نوفمبر 2017

فتحية العسال ... أُمي . التي لم تنجبني

فتحية العسال ... أُمي  التي لم تنجبني

اليوم شاءت إرادة الله أن يتجدد " يُتمي " ... فاليوم غادرت دُنيانا أُمي التي لم تُنجبني ، رحلت عن هذه الدُنيا الإنسانة المُناضلة و الكاتبة و قبل و فوق كُل ذلك : الأُم فتحية العسال ... نعم هي أُمي التي أرضعتني شهوراً طويلة ، كانت تسعى إلي و أنا بعد طفل رضيع مرتين يومياً سيراً على الأقدام من شارع المُبتديان إلى شارع معروف بوسط القاهرة - مسافة ينوء بقطعها رجالٌ شداد - لتُغدق علي من فائض أمومتها التي لم يكُن كافياً لإشباعها أن أنجبت فُرسانها الثلاثة إيهاب و صلاح و شريف ، و فيما بعد حوريتها الوادعة صفاء ، أربع أبناء حملتهم وهناً على وهن و إبنٌ خامس هو أنا أرضعته حتى إطمأنت ، لم نكُن كافيين لإشباع فائض أمومتها فأغدقت من نبع تلك الأمومة على أجيال من الأبناء أقارب كانوا أم جيران أم مُناضلين و ثوار أم فنانين ناشئين دفعت بهم بذكاء و حنو إلى الصفوف الأولى .
على علمي لم يتعثر أحد في دائرة فتحية العسال الواسعة إلا و كانت يدها القوية الحانية هي أول يد تمتد لتُقيله من عثرته و لا تسحب يدها قبل أن تطمئن لرسوخ قدميه على أرض صلبة .

حين إنتزع زوار الفجر أبي من بيننا و وضعوه في السجن عام ١٩٨٢ أقامت فتحية العسال الدُنيا و لم تُقعدها حتى أُطلق سراحه ، إستنفرت نقابة الصحفيين و الصحف و وكالات الأنباء ، و ظلت كتفاً بكتف مع أُمي تتسابقان في تجهيز لوازم أبي السجين ... حملت مع أُمي " مرتبة و أغطية و أصرتا على إدخالها له في زنزانته الإنفرادية في سجن الإستئناف ! و لم تهدأ حتى أُطلق سراحه .

كانت فتحية العسال و رفيق عُمرها الكائن النوراني عبد الله الطوخي توأمين لأبي و أُمي على مدار عُمرهم كله ، إقتسموا اللُقمة و الحُلم و الأمل و الألم ... على مدار ساعاتٌ ستة قضاها أبي داخل غُرفة عمليات القلب المفتوح كانت فتحية العسال و عبد الله الطوخي و أُختي صفاء يجلسون خارج الغُرفة و كأن على رؤوسهم الطير حتى خرج سالماً ....

حين داعبني في مطلع شبابي حلم التمثيل أخذتني " ماما فتحية " من يدي و دفعت بي إلى الفُرصة تلو الفُرصة حتى غلبني أنا كسلي و روتين الوظيفة ...

أسعدني الحظ بأن أُصبح و "ماما فتحية "جارين في السكن لرُبع قرن من الزمان ، لكني كأي إبن لاه كُنتُ مُقلاً جداً في السؤال و الزيارة ، و حين كانت تلقاني صُدفة في الذهاب و الإياب كانت تستقبلني بوجه باش و حضن دافيء مُداعبة : ياواد مش تسأل على أُمك ؟ ... و كانت تُخجلني سماحتها و تجاوزها عن إهمالي .

اليوم فاجأني الخبر صباحاً ... سطرٌ واحد كتبته أُختي الصغيرة صفاء نزل على قلبي كمقصلة الجلاد ...

مُنذ ساعات قليلة و أنا أُغادر بيت صفاء سألتها السؤال التقليدي المرير : مش عايزه أي حاجة ؟ أجابتني باسطة كفيها إستسلاماً ماذا أحتاج ؟ خلاص .. راحت
فوجئت بنفسي أُجيبها من أعماقي : بل لم تذهب ، و ستُدركين يوماً بعد يوم أنها لم تذهب ...

و حقاً فعلى مدار عُمرها الجميل بثت فتحية العسال في هذا العالم قدراً من الحياة و الأمل و الحق و الخير و الجمال و الحُب ما سوف تمُر دهور ... و لا ينفذ ، رحلت فتحية العسال ، بل بقيت فتحية العسال .

أما أنا و قد فقدت اليوم " آخر أُم لي " فإنني  - على حد وصف أحمد فؤاد نجم - أعود كما الرضيع بحُرقة الفطام ...


طارق فهمي حسين 

١٥ / ٦ / ٢٠١٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق