السبت، 18 نوفمبر 2017

٣ شارع رُشدي - المبنى و الباني .

٣ شارع رُشـدي (أو الساحة سابقا) بوسط البلد بالقاهرة، هو عنوان العمارة التي عشت في إحدى شُقـقها طفولتي وصباي ومطلع شبابي في كنف أبي وأُمي، ومازالت شقيقتي تعيش فيها حتى يومنا هذا.
باني تلك العمارة ومالكها الأول هو المهندس نعوم شُبيب – وكان أُستاذاً للخرسانة المُسلحة ورائداً مُبتكراً لبعض نظريات البناء الحديث -وقد إستأجر أبي منه شخصياً تلك الشقة في مطلع الستينيات من القرن الماضي، وكان أبي دائماً يذكر أنه كان رجُلاً مُهذباً وبشوشاً وأنه لم يتقاض منه أي " خلو " كما كان شائعاً مُقابل تأجير الشقة، بل على العكس سأل نعوم شبيب أبي إن كان أحداً كسمسار أو غيره قد تقاضى منه أية مبالغ !!، ويذكُر بعض جيراننا أنهم عند إستئجار شُققهم راجع العديد منهم المهندس نعوم شبيب في قيمة الإيجار الشهري شارحين له ظروفهم المادية فكان أن قام بتخفيض قيمة الإيجار في العقد لأكثر من ساكن وفقاً لظروف كل منهم، وكان هناك سباك للعمارة يتقاضى راتباً شهرياً من المُهندس نعوم ويمر على الشقق كلها مرة في الشهر ليقوم بالصيانة ويُصلح أية أعطال " على حساب صاحب العمارة " وذلك حفاظاً على العُمر الإفتراضي للعمارة من تأثير أي تسرب للمياه ! زود نعوم شبيب عمارته بثلاث مصاعد أحدها  شديد الإتساع و أبطأ في الصعود و النزول من المصاعد الأخرى إذ أنه مخصص لنقل " العفش " ، كذلك زود الرجل عمارته أيضا ببدعة لم تكن شائعة في وقتها و لا هي بالشيوع الكافي حتى يومنا هذا إذ جعل بين كل طابقين بابا كباب المصعد لكنك حين تفتحه تجد سلم الطوارئ الحديدي و إلى جواره ( و هذه هي البدعة ) ماسورة ضخمة بطول العمارة تتفرع منها بين كل طابقين فوهة كبيرة يلقي فيها السكان أكياس القمامة فتنزلق داخل الماسورة الضخمة لتسقط في النهاية إلى صندوق القمامة الكبير الموجود في " المنور"  الخلفي للعمارة  و الذي تأتي إليه عربة القمامة يوميا لتفرغ ما فيه دون أن تقع عليها أعين السكان ، و الأهم : أنوفهم !
إلتزاماً منه بقوانين البناء ، والتي تُحدد إرتفاع أي عمارة بثلاثة أضعاف عرض الشارع كحد أقصى ، قام نعوم شُبيب بالتراجع ببنايته للخلف في الأرض المملوكة له بنحو خمسين متراً مما أتاح له الإرتفاع بالعمارة أو " البُرج " إلى عشرين طابقاً دون أن يُخالف القانون ، أما تلك المساحة الكبيرة المتروكة أمام العمارة فقد قام بتبليطها و بنى على جانبيها صفين من المحلات ( دور أرضي فقط ) لتأجيرها للأنشطة التجارية ، كما لم يقُم ببناء شُقق بالطابق الأرضي ، و إنما إرتفع بالطابق الأول و البُرج ككُل فوق أعمدة إسطوانية الشكل يبلغ إرتفاعها خمسة أمتار أو أكثر مما أتاح له مد صفي المحلات علي الجانبين حتى قُبيل منطقة المصاعد و التي فصل بينها و بين المحلات ببوابات زُجاجية شفافة و ضخمة و ذات مفصلات نحاسية لامعة ، مما منح مدخل البُرج هيبة و وجاهة كبيرة ، أما تلك الساحة الكبيرة أو " ممر العمارة " فقد كانت أرضيتها المُبلطة في نفس الوقت سقفاً لخندق كبير تحت الأرض بكامل مساحة الأرض تحت الممر و العمارة معاً ، و ذلك لاستخدام السُكان في حالات الطواريء ، و جعل مدخل الخندق عبر سلم خلف منطقة المصاعد و بجوار غُرفة البواب ، بينما جعل المخرج عبر سلم يصعد إلى فتحة مربعة في رصيف الشارع مُغلقة بسواء الرصيف بغطاء كالذي يُغطي البالوعات ، كما وفر تهوية جيدة جداً للخندق عبر صفين من المُربعات الكبيرة من الحديد المُفرغ تُغطي فتحات في أرضية " الممر " و تسمح بمرور الهواء بكميات كبيرة  إلى داخل الخندق ، كما جعل فيه توصيلات للإضاءة ، و الخندق على هذا النحو و بهذه المواصفات يتسع لأكثر من عدد السُكان ، و يسمح بنزولهم إليه دون أن يخرجوا إلى الشارع ، كما يسمح بخروجهم منه إلى رصيف الشارع حتى لو انهارت العمارة بالكامل ( لاقدر الله ) فوق بعضها و فوق الممر ، و كان هذا تصميماً عبقرياً لطالما أمدنا نحنُ السُكان بشعور عام من الثقة و الاطمئنان عبر سنوات الحروب الطويلة التي عاشتها مصر وعاصرناها نحنُ سُكان ٣ شارع رُشدي .

ذكر لي أبي أيضاً أنه حين إنتهى المُهندس نعوم شُبيب من بناء تلك العمارة  فإنها كانت أعلى مبنى في مصر كُلها في ذلك الوقت الذي كانت توصف فيه عمارة الإيموبيليا -11/13 طابق -بأنها ناطحة سحاب في حين كان برج نعوم شُبيب مكوناً من 20 طابق فظل الناس لفترة  عازفون عن التقدم للاستئجار والسُكنى بها  تهيُباً من إرتفاعها غير المألوف ،وتخوفاً من تحذيرات جهات عديدة بشأن إمكانية وصول المياه للأدوار العُليا، وتصريح هيئة الدفاع المدني وقتها عن عدم توافر وسائل لإطفاء أية حرائق بالأدوار العُليا لعمارة بهذا الإرتفاع، وكذا التخويف من عدم صمودها في حا وقوع زلازل! ثم بدأ إشغالها تدريجياً، وتحدياً من المهندس نعوم شبيب قام فيما بعد ببناء بُرج أعلى منها - أكثر من 30 طابق - على كورنيش جاردن سيتي اشتهر بإسم " عمارة بلمونت " حيثُ كان يعلوه إعلان كبير لسجائر "بلمونت" الشائعة في ذلك الوقت ، وكان الإعلان يُرى بالعين المُجردة من كافة أنحاء القاهرة تقريباً لضخامة حجمه من ناحية وإرتفاع العمارة من ناحيةٍ أُخرى و الذي لم يكن له مثيل في كُل مصر والعالم العربي وإفريقيا، ثُم كانت قصة بناء المهندس نعوم شُبيب لبُرج الجزيرة بتكليف من الدولة بعد أن ذاع صيت كفاءته.
من الطريف أنني حين عشتُ في بيروت جانباً من سنوات السبعينيات وأثناء زيارة لبعض الأصدقاء لاحظت التشابه الذي يقترب من التطابق بين العمارة التي يقطنها أولئك الأصدقاء في بيروت ) و كان إسمها "الحمرا سنتر"  و بين بيتنا في القاهرة ( ٣ شارع رُشدي )  نفس البُرج العالي المُستقيم الخطوط ، و نفس الممر المؤدي إلى مدخل العمارة و المحلات التجارية على جانبيه و إن كانت " الحمرا سنتر" أقصر كثيراً  ، و أبديت هذه المُلاحظة لوالدي اللذين وافقاني تماماً ، و لشدة العجب  فقد عرفنا من أصدقائنا ساكني " الحمرا سنتر " أن باني هذا البُرج هو نفسه المُهندس نعوم شُبيب " إبان وجوده في لبنان بعد مغادرته لمصر عام 1971 بعد رحيل عبد الناصر ... وفي عام ٢٠١٥  حين زرت بيروت بعد انقطاع تجاوز الثلاث عقود من الزمان أدهشني و أسعدني أن أرى " الحمرا سنتر " مازالت قائمة ( كشقيقتها الكبرى في القاهرة ) و إن كان الزمن قد وضع عليها هي الأخرى أقسى البصمات ...

عند مغادرته لمصر باع نعوم شُبيب " عمارتنا " لصندوق تأمين ضباط الشُرطة وأصبحت تُعرف بإسم " عمارة الشُرطة"  و وضع عليها "المالك الجديد" بعض لمساته ، من ذلك أن قام الصندوق بإجراء بعض " التعديلات " على الطوابق الأربع الأولى الخالية من السكان ليحولها إلى " إستراحة للضباط" القادمين من الأقاليم للخدمة بالقاهرة ، و قام بإلقاء بقايا المواد الأسمنتية المستخدمة في ماسورة القمامة فتسبب في سدها و توقف إستخدامها للأبد لتعرف العمارة لأول مرة منذ ذلك الحين رائحة القمامة ... و أشياء أخرى و هكذا آل حال العمارة إلى ما آل إليه حال وسط البلد كله والقاهرة وكُل مصر ...
كان لنعوم شُبيب الكثير من الأعمال الخيرية منها مثلاً تبرعه ببناء مدرسة القُللي الخيرية في إحدى مناطق القاهرة الفقيرة ، ومن أشهر الصروح التي قام بتصميمها وتنفيذها كنيسة سانت كاترين،وكنيسة سانت تريز، ومبنى جريدة الأهرام، وكذا سينما ومسرح علي بابا وغيرها...
 لم يُعرف يوماً بشكل قاطع هل كان نعوم شُبيب ذو الأصول اللبنانية يحمل الجنسية المصرية هل مُنحت له يوماً، أم كان مصرياً بحكم المولد، أم لم يحملها قط؟، لكن المؤكد أنه حين غادر إلى كندا في عام 1971 وحتى  توفي هناك عام 1985،وفي كُل الأحوال- كان مصريا حتى النخاع...
رحم الله نعوم شُبيب ورحم كُل عُشاق مصر الحقيقيين الصادقين المُخلصين ...
هذا عن الباني العظيم، أما عن المبنى ومن عاشوا فيه وملأوه بالحياة وشهد أفراحهم وأتراحهم على مدار عقود فتلك قصة أُخرى ...

 طــارق فهمــي حســـين


هناك 7 تعليقات:

  1. اعتقد ان نعيم شبيب مصرى الجنسية ولم يكن يوما حاصلا على اى حنسية أخرى حتى هاجر من مصر التى ولد بها سنة ١٩١٥ وعاش عمره بها الى ان هاجر الى كندا سنة ١٩٧١ التى عاش بها حتى وفاته فى الثمانينات

    ردحذف
  2. شكرا على المقال الرائع.
    في رأيك، لماذا هاجر نعوم شبيب إلى كندا؟ لماذا يترك أملاكه ومكتبه ومشروعاته وابتكاراته ويذهب إلى آخر العالم بأسرته؟ هل لدى أي من السكان معلومة عن سبب الهجرة؟ هل حقا باع العمارة، أم تم الاستيلاء عليها؟

    ردحذف
    الردود
    1. معلوماتي المتواضعة أنه هاجر بإرادته بعد رحيل جمال عبد الناصر ، و أنه باع العمارة بالفعل و لم يتعرض لأية إجراءات ضده ، هذا على حد علمي .

      حذف
    2. أزال المؤلف هذا التعليق.

      حذف
    3. كما أشكرك جداً على قراءة الموضوع و إعجابك به .
      حذف

      حذف
  3. شكرا جزيلا على جهدك الرائع والمعلومات القيمة

    ردحذف