السبت، 18 نوفمبر 2017

٣ شارع رُشدي - د. علي ( منزل السيد الوزير ) !


3 شارع رشدي(2) :            
عودة إلى بدعة المهندس نعوم شبيب المعمارية القاطنة في 3 شارع رشدي بوسط القاهرة ، فإن البناية التي كانت – ومازالت – تشق عنان السماء بإرتفاع عشرين طابق ،وتقف منفردة لا تستند لا يستند إليها كذلك أي مبنى مجاور، تضم بين جدران كل طابق منها ثلاث شقق ، فهي بذلك تضم ستون شقة بالتمام والكمال، ولطالما كانت الطوابق الأربع الأولى على مدارعمر العمارة تشغلها دائما جهة ما، ولا تسكنها أية عائلات، ففي فترة ما، ومع بدايات نشأة التلفزيون المصري شغلت الطوابق الأربع الأولى مكاتب إدارية تابعة لإتحاد الإذاعة و التلفزيون والتي كانت تشغل أيضا أغلب محلات أحد جانبي الممر الخارجي للعمارة،ومع بداية الإرسال التلفزيوني وإنتشار أجهزته في البيوت أعلنت الدولة عن تحصيل رسوم سنوية تحت مسمى” رخصة التلفزيون ” على غرار تراخيص السيارات، و حددت مقرا وحيدا للسداد خلال فترة محددة من كل عام في تلك المكاتب الواقعة في مدخل العمارة ( 3 شارع رشدي) وكان ذلك من أسباب شهرة العمارة في تلك الفترة ، كما تحول الأمر إلى وسيلة تعريف ووصف : ” العمارة اللي بتتدفع فيها رخص التلفزيون ” أو:عمارة التلفزيون، ولا أدري حتى اليوم ماذا كانت العقوبة التي يمكن أن توقع على من يتقاعس عن سداد رسوم تلك الرخصة السنوية ، وماذا كانت أدوات الدولة في توقيع تلك العقوبة ، بل ما هي الكيفية التي كانت ستمكن الدولة أساسا من حصر مالكي أجهزة التلفزيون( بإمكانيات ذلك الزمن )، بل و عدد أجهزة التلفزيون داخل كل بيت ، إلا أن الثقة الكاملة من المواطنين في الدولة في تلك الحقبة الناصرية – خاصة قبل نكسة 67 – وفي مصداقيتها وقدراتها على الحصر وتوقيع العقوبات، فضلا عن الثقة المطلقة – في ذلك الزمن – في رشادة الدولة في إنفاق ما يدخل خزينتها من إيرادات، كُل ذلك كان كفيلاً بالتزام كافة مالكي أجهزة التلفزيون في ذلك الوقت بالتوافد على مكاتب إتحاد الإذاعة و التلفزيون القابعة في ممر العمارة( 3 شارع رشدي) في الفترة المحددة من كل عام حيث كانت الطوابير تملأ ممر العمارة الطويل و تمثل عائقا لدخول وخروج السكان على مدار أيام سداد” الرخصة ” ! في مرحلة تالية ، وبعد إعلان الدولة أخيرا : إلغاء” رخصة التلفزيون ”، تحولت المكاتب في مدخل العمارة إلى مخازن مغلقة، وحلت مكاتب “الشركة المصرية العامة للدواجن” محل إتحاد الإذاعة و التلفزيون في الطوابق الأربع الأولى من العمارة ، ومن طريف الذكريات أن فنان الكاريكاتير رمسيس صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير ( يا تلفزيون … يا ) كان في تلك الفترة موظفا بشركة الدواجن ، وكان في ذات الوقت ينشر رسومه بمجلة صباح الخير فجمعت الزمالة بينه و بين أبي – الصحفي بروزاليوسف و مدير تحريرها في فترة من الفترات – و بموجب تلك الزمالة ، حيث كنا نقطن بالطابق الخامس ، و مكتب الفنان رمسيس في الطابق الثالث ( على ما أذكر )  كانت أمي ترسلني إليه بعد أن تزودني بالنقود الكافية لشراء عدد من أزواج الدجاج منبهة علي :    -سلم على الأستاذ ” فرنسيس ” و قوله ماما عايزة كام جوز فراخ 
- رمسيس يا ماما رمسيس !
فكنت أنزل إلى الرجل الجالس إلى مكتبه في هيبة موظفي القطاع العام في نهايات عصره الذهبي، وأنا أغالب الضحك لأكثر من سبب، أولها بالطبع خلط أمي لإسم رمسيس بـ فرنسيس ( و كان خلط الأسماء أشبه بهواية غير متعمدة لدى أمي رحمها الله ) ، وكذا بسبب المفارقة الواضحة في شراء ” الفراخ ” من موظف محترم جالس إلى مكتب في مؤسسة حكومية فضلاً عن كونه فنان ، إلا أن السبب الذي كان خافيا علي في تلك السن الصغيرة أنه في تلك الفترة –  في أوائل السبعينيات – و في أجواء المواجهة مع العدو الصهيوني ، كانت هناك حصص محددة لكل مواطن من بعض المواد التموينية و منها ” الفراخ ” ، فكان إرسالي للفنان الموظف رمسيس يتيح لنا كأسرة عدد من ” أزواج الفراخ ” أكثر عن المقرر لكل أسرة ، ورغم أننا بالطبع كنا ندفع السعر المحدد – لا أكثر ولا أقل – إلا أن هذا كان أقصى ما يمكن أن تمارسه أمي من صور” إستغلال النفوذ ” في سبيل تحصين مطبخها المقدس دون علم أبي ، الذي كان يعلم فيما بعد بالطبع و يعبر عن إحتجاجه بخليط من الغضب و مغالبة الضحك : 
-” يا ستي ده راجل فنان مش بياع فراخ و ما يصحش كده و بعدين إيه فرنسيس اللي إنتي مُصرة عليها دي ؟! ”
في مرحلة تالية، ومع هبوب خماسين ” الإنفتاح ” وتقلص حجم القطاع العام في مصر، ورحيل نعوم شبيب باني العمارة  ومالكها الأول عن مصر وشراء ” صندوق تأمين ضباط الشرطة ” للعمارة، إختفت مكاتب هيئة الدواجن وقام الملاك الجدد بإعادة صياغة الطوابق الأربع الأولى فأزالوا حوائط وأضافوا أخرى ، وهي العملية التي أسفرت فيما أسفرت عن تعطيل نظام التخلص من القمامة الذي كان أحد مميزات العمارة على النحو الذي شرحته في حديثي السابق عن ” البناية و الباني “،إذ قاموا بالتخلُص من أنقاض الحوائط المُزالة بإلقائها في ماسورة القمامة مما أدى لانسدادها إلى الأبد، وعاش السكان فترة لا بأس بها من ضوضاء العمل في الطوابق الأربعة حتى إنتهى الأمر إلى ظهور لافتة كبيرة على واجهة العمارة تشير إلى ” إستراحة ضباط الشرطة ” ، وهي اللافتة التي ساهمت في إكتساب العمارة لإسم شهرة جديد هو ” عمارة الشرطة ” وهو الإسم الذي شاع إستخدامنا – كسُكان – له فيما بعد لوصف العمارة خاصة مع تزايد نفوذ الشُرطة وتغول دورها في المُجتمع فيما تلا من عقود الزمان ، فأصبح بعضنا يشير إلى سكنه في” عمارة الشُرطة ” في محاولة للإيحاء بأنه ينتمي إلى ” السُلطة ” على نحو أو آخر، خاصة في مواجهة من لا يعرفون تاريخ العمارة وحقيقة علاقتها وسكانها بالشُرطة !
بالإضافة إلى الطوابق الأربع الأولى دائماً ما كانت الشقة الملاصقة لشقتنا بالطابق الخامس تابعة للجهة التي تشغل تلك الطوابق الأربعة ،و إن كانت أمي تذكر أنه في البداية كانت تقطنها راقصة شبه مشهورة ، وتحولت بعدها إلى مكتب مكمل لمكاتب الإذاعة والتلفزيون ثم إلى شركة الدواجن حتى آلت إلى صندوق الشرطة ثُم تحولت فجأة إلى عيادة طبية لزوج إبنة واحد من أشرس وزراء الداخلية في عهد السادات ، و إن كانت تقلبات الزمان فيما بعد ونسبية الأمور جردته في الأذهان من تلك الصفة وربما ينظر إليه البعض الآن على أنه كان أكثر رحمة وعقلانية من سواه !
إلا أن ذلك الطبيب الشاب صهر الوزير الحديدي كان – للمفارقة – شديد الأدب و الوداعة فكان نعم الجار حتى أنه أخلى لنا العيادة تماماً يوم زفاف شقيقتي ليوضع فيها بوفيه الفرح كإمتداد لشقتنا التي لم تكن لتتسع بأي حال من الأحوال لحفل زفاف ” أمل ” الصبية الأكثر شعبية في العمارة والعائلة والمدرسة والكلية ( على خلاف كاتب هذه السطور بطل العالم في الإنطوائية ) !!!
كان ” الدكتورعلي …” شاباً طويل القامة عريض المنكبين واسع النفوذ بحكم وضعه الأُسري المهيب ، لكنه على خلاف المعتاد ممن هم في مثل وضعه ، وبإستثناء حصوله على هذه الشقة ذات الموقع العبقري في أطول عمارة في وسط القاهرة وذات الثلاث مصاعد : 3 شارع رشدي ليفتتحها كمعمل للتحاليل الطبية في باديء الأمر ثُم يحولها فجأة إلى عيادة عيون ( وفي الحالتين كان هو الطبيب المختص )، وأيضاً بإستثناء تركه لسيارته يومياً حين وصوله للعيادة في عرض الطريق غير مبال بأدنى إحتمال لتحرير مخالفة مرورية أو حتى سحبها بالونش ( لم تكن كلبشة الإطارات قد دخلت مصر بعد في ذلك الزمن ) ذلك أن السيارة بالتأكيد كانت معروفة لكل من يرتدي زي الشرطة في القاهرة في ذلك الوقت ، بل  ولكل من يراها ولو مرة ويعرف أنها سيارة زوج بنت وزير الداخلية ، ذلك أن السيارة كانت ماركة بيجو 504 و تحمل لوحة مرورية رقم 504 أيضاً ! أمر لا تسقطه أي ذاكرة مهما ضعفت خاصة في بلد كمصر يعتبر أهله أن أرقام السيارات أحد أشكال الوجاهة الإجتماعية وإستعراض النفوذ، إستطراداً أقول أن ” الدكتور علي …  بإستثناء فوزه بهذه الشقة و تركه اليومي لسيارته في عرض الطريق لم يكن يمارس أي من أشكال إساءة إستغلال النفوذ، على الأقل تجاهنا نحن جيرانه من سكان العمارة والشارع، بل على العكس فإنه كان كثيراً ما يستخدم نفوذه إستخداماً يحمده له جيرانه ،  قد نالني أنا شخصياً في بدايات شبابي نصيباً لا بأس به من هذا الإستخدام الحميد للنفوذ، من ذلك أذكر يوم إشترى لي والدي سيارة صغيرة مستعملة من أحد ضباط الجيش من خلال إعلانات جريدة الأهرام المبوبة ، وبعد حيازتي للسيارة بشهور طويلة إتصلت بالبائع ليصحبني إلى المرور للتسجيل وتجديد الرخصة كما سبق ووعدني حيث كنت بعد طالبا بالجامعة وكان أبي خارج البلاد ، فتنصل مني – الضابط / البائع – وأوضح لي أنه لا ضرورة لوجوده حيث سبق وأن وقع كبائع في الشهر العقاري ، وحين توجهت للمرور وحدي وعند فحص السيارة تبين أن الموتور سبق تغييره دون إتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ‘ مما ترتب عليه إحتجاز السيارة في مقر مرور الدراسة تحت إحتمال أن الموتور مسروق ،  لما طال الأمر لأكثر من ثلاثة أسابيع لم تنقطع خلالها رحلاتي شبه اليومية بين مرور الدراسة وإدارة البحث الجنائي في باب الخلق و خلافه ، كان اللجوء إلى جارنا واسع النفوذ نسيب الحكومة الدكتور علي هو السبيل الوحيد للخلاص من هذا الموقف ، وبالفعل إستقبلني الرجل بوجهه الذي لا تفارقه البشاشة وإستمع بصبر للمشكلة ثم تناول من أحد أدراج مكتبه دليلا صغيراً للتليفونات مطبوع عليه شعار الشرطة ، وإلتقط من بين صفحاته رقما ثم أدار قرص التليفون ليعرف عن نفسه لمستقبل المكالمة بهدوء :
أنا فُلان … فقط إسمه الثنائي دون أي تعريف آخر، وسرد المشكلة بهدوء وفي أقل عدد من الكلمات ثم أغلق الخط و إلتفت إلي مبتسماً : 

- النهارده الساعة سبعة مساء تروح مكتب مدير مرور القاهرة اللواء فلان ، تسأل بره لو قالوا موجود أخرج كلمني من أي كشك او محل.
في الموعد المحدد ذهبت و سألت وأجريت المكالمة فأجابني الدكتور علي وطلب مني رقم تليفون الكشك الذي أتحدث منه ! ( كنا قبل زمن الموبايل بسنوات طويلة ) فسألت صاحب الكشك ، وكان من أكشاك كتب سور الأزبكية العتيد فأملى علي الرقم لأردده على أسماع الدكتور علي الذي طلب مني إغلاق الخط و الإنتظار قليلا ، وبعد دقائق لم تتعد الخمسة دق جرس التليفون وأجاب صاحب الكشك ثم ناولني السماعة وهو في ذهول من يتابع فيلما بوليسيا ، وضعت السماعة على أذني فأجابني الدكتور علي : 

روح له دلوقت فوراً وإذكر إسمك الثلاثي على الباب وستجده في إنتظارك .
- حاضر وشكراً يا دكتور
إنتفض السيد اللواء مدير مرور القاهرة واقفا و خرج من وراء مكتبه مادا يده طالبا المصافحة ليلقاني في منتصف الغرفة ويشد على يدي في ترحاب مبالغ فيه دون أن تبدو على وجهه أية إمارات للدهشة أو إستصغار شأن الطالب الذي لم يكد يتخطى العشرين من عُمره والواقف أمامه!
أجلسني بترحاب لا ينقطع وسالني:

- تشرب إيه ؟ لأ قبل أي حاجة لازم تشرب .
تناول سماعة أحد التليفونات العديدة التي تزين مكتبه ، تحدث إلى أحدهم ، دون أن يسألني عن أي تفاصيل شرح بنفسه المشكلة بإيجاز شديد، أملى – من الذاكرة – إسمي الثلاثي على متلقي المكالمة ثم تقوقع قليلا بجذعه حول السماعة وأخفى حركة شفتيه بيده الأخرى مقترباً بصوته من الهمس: 

- منزل السيد الوزير.
 أغلق الخط ، توجه إلي طالباً برقة أن ” أتفضل” بالتوجه في الصباح إلى مرور الدراسة لإنهاء الإجراءات وإستلام السيارة ، خرج معي حتى باب المكتب وهو يحييني مودعاً:
- أرجو إبلاغ تحياتي للدكتور علي .
في صباح اليوم التالي وبعد القليل من الإجراءات الورقية كنت أنطلق بالسيارة البيتل الخضراء خارجاً من أوسع أبواب مرور الدراسة عائداً إلى البيت … إلى 3 شارع رشدي .

طارق فهمي حسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق