ذكرى زفافهما … مُجدداً
اليوم ١٥ نوفمبر ذكرى زفاف أمي و أبي رحمهما الله .
تزوجا في مثل هذا اليوم من عام ١٩٥٧ و عاشا سويا حتى رحيل أبي في ٢٨ يوليو ٢٠٠٤ ، نحو سبع و أربعون عاما عاشا معا في بيت يظله الحب و الاحترام و السعادة الزوجية ، و كما ذكرت قبلا و أكرر كثيرا ظل أبي و حتى المشوار الأخير يفتح لأمي باب السيارة ، و ظلت أمي طيلة تلك السنوات تتجاهل حقها في " ربع الفرخة "أو حصتها من المانجو أو أطباق الجيلي و أصناف الحلوى التي تجيد صنعها ، و تتنازل عنه لأي من ثلاثتنا : شقيقتي الصغرى و أبي و أنا .
كانا زميلين في كلية الحقوق لكنهما لم يتعرفا في فترة الدراسة رغم أنهما إكتشفا فيما بعد أنهما كانا يعرفان نفس الزملاء المشتركين ! لكنهما إلتقيا فيما بعد حين تزاملا في جريدة الجمهورية و مجلة الرسالة الجديدة و غيرها ، أبي كصحفي و أمي كإدارية ، كانت أمي تحكي لنا أنه كان " أشيك واحد في الجورنال " و أنه كان يمتلك سيارة كابورليه كانت في السابق ملكا للسفير الأمريكي و اشتراها أبي من مزاد السفارة فكان ينزل من الجريدة ليجد أمي و زميلة أخرى تجلسان في السيارة و تطلبان منه توصيلهما فيقول : مش في طريقي ، فتصران على عدم النزول من السيارة فيستسلم أبي لكنه يطلب منهما "تموين" السيارة بالبنزين !
====
هنا يضحك أبي الجالس على كنبته المفضلة يقرأ و يستمع لأمي و هي تروي لنا هذه الذكريات فيقاطعها موضحا : على فكرة هي حصلت مرة واحدة بس لإن يومها ماكانش في جيبي فلوس خالص .
=====
تستطرد أمي : أبوك كان طول عمره "أليط "قوي و كان أنور السادات أيام الجمهورية بيشحت منه السجاير .
يتدخل أبي :
كان رزل و جهول ، مرة فضل ( السادات و كان وقتها رئيس تحرير جريدة الجمهورية ) مستني بروفة الجورنال علشان يوقع عليها و تنزل المطبعة ، تأخرت البروفة فسأل السادات فقيل له ان المحررين متأخرين في تسليم المقالات و الموضوعات ، فقام السادات يمشي في الطرقة بين المكاتب مصفقا بيديه صائحا : شهل إيدك إنت و هو ... شهل إيدك !!!
تستطرد أمي :
بس أنا كنت باقول على أبوك رغم أناقته إنه "فلاح أوي " لإنه كان كل يوم بييجي الجورنال دالق على نفسه إزازة كولونيا بالكامل ، كنت باشمها من الدور الخامس و هو لسه واقف على الأسانسير في الدور الأرضي ، فأقول للزملاء : فهمي حسين وصل ، و فعلا بعد دقائق نلاقيه داخل فنضحك جميعا فيندهش و ينظر لنا متسائلا .
و مرة سنة ٥٦ كان هو في القنال في المقاومة الشعبية جانا خبر إن فهمي حسين إستشهد فبكينا جميعا ، ثم اتضح كذب الخبر و عاد سالما ...
يلتقط أبي طرف الحديث : كانت بتحبني و انا مش عارف .
تعترض أمي : ده كنت باقول عليك فلاح .
يعقب أبي بتحفظ : طب ما أنا فعلا فلاح ، مالهم الفلاحين ؟
يستطرد : أمكم دي لما أنا عملت عملية الزايدة جت مع الزملا يزوروني في المستشفى و كانت عندي أمي -جدتكم ، أمكم كانت عامله أكل و جايباه معاها زيارة ، بعد ما مشيوا أمي قالتلي : زميلتك البيضا أم شعر بني دي باين عليها بتحبك و شكلها بنت ناس طيبين و حنينة ، ياريت يابني تكون من نصيبك ...
يكمل أبي :
في يوم و بدون مقدمات قلت لها : ما تيجي نتجوز ؟
فاجأتني و قد إحمر وجهها : أتجوزك إنت ؟
أجبت : أنا باتكلم جد
أجابت بتحفظ : بس بابا مش هنا ، هابعت له جواب و أرد عليك
( كان جدي لأمي من أصل مغربي و يحمل وثيقة فرنسية و تم ترحيله من مصر إلى مارسيليا إبان العدوان الثلاثي )
بعد نحو إسبوع ردت أمي : بابا بعت قاللي خليه يقابل عمك ( إبن عم جدي و كان يحمل الجنسية المصرية ) ، و بالفعل تقدم إليه أبي طالبا يد أمي ، و كالمعتاد في تلك الأيام طلب عم أمي مهلة " نسأل عليك "
يقول أبي :
كانت أمكم أجمل بنات العيلة و الكل يتمناها لأحد من أبناءه ، عمها قال لها إحنا يا بنتي سألنا عليه في جريدة الجمهورية و سمعنا إنه مش صحفي و إنه موظف توزيع ! عارفين أمكم دي اللي بتهزر دلوقت و بتقول عليا فلاح ردت قالت لعمها إيه ؟
قالت له : لأ يا عمي هو مش موظف توزيع ده هو ساعي في الجمهورية و برضه هاتجوزه !
و ساعة كتب الكتاب المأذون سأل عن قيمة مؤخر الصداق و جدتكم /حماتي همت بالإجابة فسبقتها أمكم و أجابت : ربع جنيه .
الذكريات كثيرة و الحديث يمكن ألا ينتهي لكن هذان كانا أمي و أبي و هذه كانت لمحة من قصة حبهما التي لم أر لها مثيلا و التي إنعكست علينا شقيقتي و أنا منذ الطفولة في بيت صغير شهد حقبة هامة من تاريخ مصر و المنطقة و معاركها الوطنية و تردد صخب تلك المعارك بين جدرانه التي ضمت أبا مناضلا و مقاتلا بالقلم و الكلاشنكوف أيضا و أما نقابية و سياسية و عضوة -مثل أبي - في الإتحاد الإشتراكي العربي و التنظيم الطليعي -مثل أبي أيضا - و كم صحبتني طفلا إلى بعض المناطق الشعبية حيث كانت تعطي دروسا لمحو الأمية لفصول ليلية من سيدات تلك المناطق ، بيت كانت تعقد فيه إجتماعات خلية أمي في التنظيم الطليعي و التي كانت تضم الفنان عبد الرحمن أبو زهرة و الفنانة الراحلة نادية السبع و غيرهما ، بيت شهد غياب أبي طويلا مرات عديدة في جبهة القتال عام ١٩٦٧ ، و مع حركة فتح في أغوار الأردن ثم في لبنان ثم في تونس ، و غيرها و ظل بيتا مستقرا آمنا يسوده النظام و الحب و حنان أم ترفع قواعده على أكمل وجه ، و حين يعود الأب من أسفاره تقف " تتنطط " حرفيا كطفلة صغيرة و دموع الفرح في عينيها : بابا جه يا طارق ، بابا جه يا أمل ، أما هو فيلقي بنفسه بين أحضان ثلاثتنا ثم يجوب أرجاء شقتنا الصغيرة ذهابا و جيئة مشعلا كل الأنوار قائلا : مش عايز و لا لمبة في البيت مطفأة و يبدأ مباشرة في السؤال عن كل تفاصيل حياتنا و يحكي لنا الأحداث الجسام التي عايشها و شارك فيها ، و يسأل عن شقيقته الكبرى و عن أصدقاءه في حديث لا ينتهي حتى الصباح و لم و لن ينته في ذاكرتي حتى آخر العمر ..
عيد زواج سعيد في عليين بإذن الله ...
طارق فهمي حسين
١٥ نوفمبر ٢٠١٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق