كان الشيخ سيد مكاوي من أصدقاء طفولتي ، نعم فقد كان "عمو سيد" .
و كانت تجمعني به سهرات عائلية طويلة ضمن كوكبة بديعة من فناني و مثقفي مصر من صحبة أبي و رفاقه ، تلك السهرات التي كان زهرتها و محورها الشيخ سيد مكاوي و صوته العذب و عوده الساحر و موسيقاه الأصيلة الثمينة ، فضلا عن روحه المرحة و حديثه الجذاب و أخلاقه الملائكية ، و في البدايات و لحداثة سني و سذاجته كنت أتصور أن " عمو سيد " مجرد هاو عظيم الموهبة ! و كنت أسائل نفسي مندهشا : هو ليه مش بيغني و يشتهر مع إنه " كويس أوي " !! و يوم أشركت أبي في تساؤلاتي إنفجر ضاحكا حتى دمعت عيناه و أجابني بأن الشيخ سيد هو من كبار الملحنين في مصر و العالم العربي بالفعل ، و لأني ولدت مبالغا في الإستقلالية و كذا رباني أبي فقد تلقيت المعلومة بتحفظ و صرت أتابع الإذاعة و التلفزيون بشكل مكثف مقتفيا إسم "عمو سيد" في كل ما يذاع من أغاني فيتضح لي يوما بعد يوم حقيقة مكانته التي حاول أبي أن يوضحها لي حين سألته ، و الحقيقة أن ما إتضح لي هو حجم شهرته الواسعة المستحقة ، إذ أن مكانته كانت محفورة في وجداني دون حاجة لتقصي أو تتبع ، مكانته كعملاق من عمالقة فن الموسيقى و التلحين ، و مكانته كإنسان شديد العذوبة و النقاء ، و هي المكانة التي كبرت يوما بعد يوم منذ كنت طفلا أسعدته الظروف بصحبة الشيخ سيد مئات المرات في سهرات عائلية و ثقافية فنية و في المصيف و المناسبات الخاصة فتقاسمت معه و مع أسرته الجميلة الخبز و الملح ، زوجته الفاضلة الفنانة التشكيلية و الأستاذة الجامعية " طنط زينات " التي مازالت إحدى لوحاتها المحفورة على الخشب لبائع العرقسوس تزين جدارا في بيتي ، و كريمتيه إيناس دائمة الإبتسام و أميرة الصغيرة الوديعة ... و سبحت معه في بحر أبي قير و وصفت له - بطلب منه - كل تفاصيل ما أراه على الشاطيء ، و ضحكت طويلا على نكاته و قفشاته شديدة الذكاء سريعة البديهة ، حضرت في شقته في المصيف في المندرة المُتاخمة للعصافرة ( كانت له مقولة : إحنا بتوع العصافرة بنخضر كل صفرا ) عيد ميلاد إبنته الصغرى أميرة و غنينا معه : " أميرة لكن أمورة ..." و حضر في قريتنا - إكراما لخاطر أبي - زفاف إبنة عم لي بل و شدا يومها بأغنية يا مسهرني (في حياة أم كلثوم ) ، و بعد ذلك بسنوات حضر خطبة شقيقتي الصغيرة "أمل" و غنى مرتجلا " ياصلاة الزين على فهمي حسين " ... و " الغالي علينا غالي و أمل كويسة " ، و هي تسجيلات مازلتُ أحتفظ بها حتي اليوم ، و أسمعها كُل حين مُستعيداً بعضاً من زمن كان جميلاً بل في غاية الجمال .
و في بدايات حياتي العملية تعرضت لمشكلة جسيمة في شركة كنت أعمل بها ، و كان أبي خارج البلاد ، فاتصلت أمي بالشيخ سيد مكاوي و روت له المشكلة ،فطلب التحدث إلي و سألني عن إسم المسئول الذي بيده الحل فأخبرته ، فإتصل به - دون معرفة شخصية - " أنا سيد مكاوي و إبن أختي عندكم و له مشكلة كذا كذا ....
في صباح اليوم التالي كانت المشكلة قد تم حلها على أفضل ما يكون و ظل ذلك المسئول بالشركة بعدها و طوال سنوات عملي بالشركة يتودد إلي و يحملني السلام " لخالي " ... لم يكن الشيخ سيد في هذا الموقف يستغل نفوذا أو جاه أو منصب ما و إنما كان رصيده الذي لا ينضب موهبته و موسيقاه و حب الناس من المحيط إلى الخليج ....
و الحقيقة أن هذا التداعي لتلك الذكريات العزيزة تأتى من خلال كلمات تلك الأغنية الجميلة التي وضعها الصديق الأستاذ أسامة الرحيمي على صفحته على فيسبوك فأثارت في النفس شجون و ذكريات غالية لا تعوض ...
رحم الله أبي الذي كان نافذتي على ذلك العالم السحري النبيل ... و رحم الشيخ سيد مكاوي ... عمو سيد ، أو " خالي المُنتحل "...و رحم زمنهم الجميل ...
طارق فهمي حسين
يونيو ٢٠١٧