فاتن حمامة و القصف التمهيدي.
رغم عزوف طويل مُتعمد عن مُطالعة الصُحف و مُتابعة الفضائيات ، إلا أن "النفس الأمارة بالإطلاع " تستدرج المرء أحياناً لإختلاس النظر إلى هذا المانشيت أو ذاك ، و رغم أنني في كُل مرة ادفع ثمناً غير بسيط من أعصابي و توازني النفسي و الصحي ، إلا أنني – كمعظم البشر – أعود فأُكرر ذات الخطأ و لا ألومن في ذلك بالطبع إلا نفسي .
من ذلك ما حدث هذا الصباح ( الأربعاء 10 أغسطس 2016 ) حين دفعني الطيش لأن أطالع بعض المانشيتات من باب العلم بالشيْ ليس أكثر ، فإذا بي أتلقى صفعة على هيئة خبر يتحدث عن تنفيذ حُكم محكمة بإزالة إسم سيدة الشاشة العربية الراحلة فاتن حمامة من على إحدى المدارس بالقليوبية ، و ذلك إستجابة لدعوى رفعها بعض " الأهالي " إحتجاجاً – فيما يبدو – على وضع إسم " مشخصاتية " على مدرسة !!
و لا أدري لماذا – أو للأمانة أدري – ذكرني تعبير " الأهالي هنا بتعبير آخر إكتسب سمعة شديدة السوء على مدار السنوات التي تلت قيام و إنكسار ثورة 25 يناير المجيدة ، ألا و هو تعبير " المواطنون الشُرفاء " !!!
هذا الصنف من " الأهالي" حسب الخبر ، و هذا الحُكم القضائي " الجليل " الذي إستجاب للدعوى يُشير إلى مُفارقة مؤلمة ( و ليتها كانت مُضحكة ) تتمثل في وصم الشعب المصري و قضاءه ، أو البعض من هؤلاء و أولئك ( حتى لا نسقط في فخ التعميم ) بأنه تحمل إطلاق إسماء مثل جيهان السادات و سوزان مبارك على العديد من المدارس و المنشآت ، و تحمل - في وقت ما - إحلال إسم شاه إيران السابق المستبد حليف الصهاينة محل إسم الدكتور مصدق على أحد شوارع الجيزة ! بل تحمل إطلاق إسم الطفل حفيد حسني مبارك رحمة الله عليه (على الطفل) على حديقة عامة بالأسكندرية ، ناهيك عن آلاف الأسماء التي " تزين " منشآتنا و شوارعنا و قُرانا فهذا شارع كافور الأخشيدي و تلك حارة الزير المعلق ، و هاك زفتى و طحانوب و نوب طحا ( لاحظ التنويعة ) و ميت يعيش و حارة الكوز المخروم ، و شق التعبان، بل كان هناك في وقت ما في قلب ميدان التحرير شارع الشيخ العبيط و حتى كوبري بديعة !
تحمل " الأهالي " و قضاتهم آلاف الأسماء المضحكة و المخجلة ، بل و أسماء المستعمرين و الطغاة و حتى الأعداء على الشوارع و الحواري و المدارس و القُرى و حتى بعض المساجد !
حتى القرية نفسها التي يتناولها الخبر تحمل إسم " ترسا" !
تحملوا كُل ذلك و لم يجدوا فيه غضاضة ، لكنهم إستنفروا و ثارت حفيظتهم حين تم وضع إسم السيدة فاتن حمامة على مدرسة أو مجمع مدارس ( حسب التنوع المعتاد في تفاصيل الخبر من صحيفة لأخرى ) و بالطبع لم يكن مصدر الإعتراض أنها – رحمها الله – سيدة ،فقد أشرت في بداية كلامي إلى أسماء نسائية جاثمة على الكثير من اللافتات في بلدنا هذا ، و ربما أزيل بعضها من على بعض المنشآت في مرحلة إمتصاص و مداهنة الثورة و الثوار ، و إنما يأتي الإعتراض من كون فاتن حمامة فنانة .. مُمثلة !
و لا ادري هل من المفترض أن أسترسل فأستعرض تاريخ سيدة الشاشة العربية الفني العظيم و أشير إلى كم و نوعيات القضايا المجتمعية و الإنسانية التي جسدتها على الشاشة و قدمتها للبسطاء عبر أداءها السهل المُعجز ؟ أو عن دور فاتن حمامة كموصل بالغ الجودة لجواهر الأدب المصري و العالمي إلى ملايين ممن حالت الأمية بينهم و بين أدب طه حسين و إحسان عبد القدوس و حتى تولوستوي ؟ هل أتحدث عن إسهام السينما المصرية أو " الفيلم العربي" و في القلب منه فاتن حمامة في مكانة مصر الثقافية و المعنوية بين أشقائها العرب على مدار عقود طويلة ؟
كُنت أتصور أنه قد تم إطلاق إسم فاتن حمامة على العديد من المدارس في مختلف ربوع مصر منذ زمن بعيد على الأقل منذ قدمت المُسلسل النموذج " ضمير أبله حكمت " مثلاً ، كنت أتصور أن تخرج نساء بلدة ترسا و القرى المحيطة دفاعاً عن فاتن حمامة التي قدمت لهن أعمالاً مثل أريد حلا و أفواه و أرانب و غيرها ، كنت أتصور ... أو أتخيل ، لكنها حقبة نحياها و يبدو انه لا بد لها أن تأخذ مداها و تأخذ معه – للأسف – الكثير من تاريخ هذا البلد و قيمه النبيلة و نفائس ثروته القيمية و الثقافية و الحضارية .
و لعل وزارة الثقافة – إذا كان ثمة شيء كهذا بعد – تبادر بالرد المناسب على هذه " الطلعة " الإستكشافية التي ربما تكون مقدمة لهجمة أشمل تُزال فيها تماثيل أم كلثوم و أحمد شوقي و نجيب محفوظ و طه حسين من الميادين ، و معها اسماء الكثيرين ممن كانوا أوسمة على صدر هذا الوطن في مختلف المجالات ، فأتصور ، و فوراً ، إطلاق إسم فاتن حمامة على إحدى دور السينما الكبيرة و الحديثة ( فلا تكون تكرارا لتجربة سينما المنيل المتواضعة ) و إقامة مهرجان لأفلام فاتن حمامة ، و أن يقوم التلفزيون المصري بإعادة عرض لمسلسلاتها ، و يقيم المعهد العالي للفنون المسرحية فعاليات و ندوات و عروض حول فاتن حمامة خريجة الدفعة الأولى للمعهد ، و لتتصدر صور فاتن حمامة أغلفة العدد القادم من كل المجلات الفنية بل و غير الفنية ، و أدعو المهندس محمد الصاوي وزير ثقافة الشعب و ساقية الصاوي إلى الإحتفاء بفاتن حمامة كذلك ، فلتكن مظاهرة ثقافية للرد على هذه الهجمة ، و لكن – أتمنى – دون إبتذال و دون إتخاذها تكئة للصراع المعتاد الممجوج بين التيارات السياسية و الفكرية المزمنة يسارا و يمينا .
و أخيراً ، و حتى لا نميل كُل الميل ، أدعو البعض ممن " يقترفون " ما يحسبونه فناً أن يراجعوا أنفسهم فيما يسيئون به للفن و للمجتمع و قيمه و للذوق العام أيضاً و يساهمون به في صنع هذه الصورة الذهنية الشوهاء للفن و الفنانين .
طارق فهمي حسين
10 أغسطس 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق