الجمعة، 1 ديسمبر 2017

مُهلة فؤاد حداد.

مُهلة  فؤاد حداد !


لعل إحدى المشاكل التي يُمكن أن  تواجه البعض من قليلي الإقتراب   من شعر فؤاد حداد  ، مثلي و مثل صديقي أيمن صدقي الذي لم  ألقه حتى الآن  سوى عبر أثير الإنترنت ، ممن هم خارج دائرة مُريدي و دراويش فؤاد حداد  – بعد - هي في العثور على الإيقاع الموجود فيما يقرأ ، بمعنى أنك  لو بدأت القراءة بشكل خاطئ و لم تدرك الإيقاع و الوقفات تُفلت منك  القصيدة و لا تشعر  بجمالها و لا تبوح لك بأسرارها، لذلك يكون سعيد الحظ من يبدأ بسماع  شعر فؤاد حداد مسجلا بصوته  شخصيا أو على الأقل بإلقاء واع من أحد مريديه ، عن نفسي فأنا ما زلت أحبو في تذوق و قراءة شعر فؤاد حداد رغم نشأتي في رحاب المسحراتي الذي تغنى بشعر فؤاد حداد شخصيا فقد كان الشيخ سيد مكاوي صديق طفولتي ( طفولتي أنا و ليس هو بالطبع ) و صباي و شبابي ، لكني كنت دائما من " أتباع " صلاح جاهين ( صديقي الآخر أيضا ) ،  و كنت أندهش حين أسمع صلاح جاهين لا ينفك يتحدث عن فؤاد حداد بصفته أستاذه ، فقد كنت على قناعة بأن جاهين هو سقف العامية المصرية أو سماءها السابعة ! وحتى عبقرية المسحراتي كانت مرتبطة في ذهني بعم سيد مكاوي وكأنه هو مبدعها، وإن كان بالفعل هو من بث الحياة في المسحراتي وأخرجه من سطور الديوان ليمشي على قدميه في حواري القاهرة كما أراد له بداية مبدعه الأول فؤاد حداد.

حتى كانت بدايات عام 1982 (أو 83)، حين جمعتني في بداية حياتي العملية بإحدى الشركات زمالة صارت صداقة جميلة بالإنسان الرائع محمود حميدة، والذي أصبح فيما بعد واحدا من ألمع نجوم السينما العربية ومن أعمقهم موهبة وثقافة، كان محمود حميدة ومازال من "شيوخ الطريقة الحدادية "إن جاز التعبير، رأيته بنفسي في بيته وهو يجلس بناته الصغار أمامه حين كان عُمر أكبرهن لا يجاوز ربما الرابعة و يقرأ عليهن من شعر فؤاد حداد !  فكنت أقول له في دهشة: "يا محمود مش هايفهموا حاجة “، فيجيب ببساطة: عارف، لكني أريد أن يتعودن على وقع كلمات فؤاد حداد وإيقاعه !!! فكان ضحكي – وقتها – يغلب دهشتي، لكن السنوات مرت بل العقود وأثبتت صحة رؤيته وبعد نظره، فشهدنا إحدى حوريات محمود حميدة تملأ المسارح و المحافل الثقافية بأشعار فؤاد حداد شدوا و إلقاءا  ، وظل دائماً شغف محمود حميدة بفؤاد حداد أمراً يثير إعجابي وثقتي بأنه بالتأكيد في محله وذلك لمعرفتي اليقينية بعمق إدراك وثقافة محمود، لكني في تلك الفترة، أكرر، كنت أرفع رأسي إلى أقصى ما تتحمله رقبتي فلا أرى في أفق سماء العامية المصرية أبعد من نجم صلاح جاهين وبيرم التونسي.

حتى أسعدني الحظ في حوالي عام 1987 أو ربما 88 أن أحضر أمسية مسرحية في قاعة منف الملحقة بمسرح السامر ( المغدور ) كانت بعنوان : كروان الفن ، الأمسية كانت بغرض تكريم فؤاد حداد و مبنية على أشعاره إلقاءا و غناءا حيث إكتشفت يومها الكنز الغنائي و الموسيقي المسمى وجيه عزيز الذي ربما كان وقتها في بداياته المبكرة ، رفعت لي تلك الأمسية طرف الغطاء عن " الخبيئة " او الكنز الذي يحمل ذلك الإسم الزكي : فؤاد حداد ، و لعل بعض الفضل في ذلك يرجع إلى الشدو الساحر لوجيه عزيز و ألحانه التي يناسب غموضها تماما " مزامير" فؤاد حداد ، و كذا الإلقاء الواعي لكوكبة الشباب في ذلك الوقت الذين شاركوا في العرض و كان منهم فيما أذكر ماهر سليم ( و كان مخرج العرض) و فاطمة الكاشف و حسن الديب و منير مكرم  و حسام ... عفوا لقد نفذ رصيد الذاكرة الآن ، لكن على أية حال فلست اليوم بصدد نقد أو الإشادة بعرض مسرحي  بعينه بعد إنقضاء بضع عقود من الزمان و إن كان جديرا بالإشادة -  و قد حضرته حينها بعدد ليالي عرضه  ، لكن تلك كانت محطة هامة ومبكرة  أيضا في بدايات تجلي شمس فؤاد حداد على قارئ متواضع مثلي ،إلا ان بوصلتي وقتها يممت صوب وجيه عزيز بشكل أساسي فصرت أطارد صوته و نغماته في المسارح و شرائط الكاسيت (النادرة) و ساقية الصاوي ، ثُم حديثاً  على الإنترنت ، و رغم جمال و سحر جُل أعمال وجيه عزيز إلا أن أذني كانت دائما ما تلتقط جواهر فؤاد حداد من بين بقية ما يغني و يلحن فكان وجه فؤاد حداد العربي المصري الشعبي الأرستقراطي يطل باسما من بين المقاطع ، فأجدني أهتف منتشيا ، الغنوه دي بالذات أكيد لفؤاد حداد ، و أبحث فأجدها بالفعل كذلك .

منذ بضعة أسابيع و عبر محادثة تليفونية إقترح علي محمود حميدة _ كما تعودنا معا _ إسم كتاب لأقرأه: " جزيرة الأحياء " لأمين حداد ، قرأت الكتاب ... و كان ما كان ! إذا كان الأبن يكتب على هذا النحو السحري الرائع المدهش ، فكيف كان الأب ؟ إذا كان الفرع بكل هذه الخصوبة فما بالنا بالأصل ؟ 

و في الإسبوع الماضي أصدرت جريدة القاهرة  الإسبوعية عدداً تذكارياً عن فؤاد حداد ، فلما تجولت بين صفحاته و موضوعاته التي تضافرت على تنوع الكتاب و زوايا النظر على تجميع صورة فسيفسائية  سريعة عن الرجل كانت كافية لأن أدرك أنني أرتكب خطأ جسيما في حق نفسي أساسا إذ أعيش في " أحد أزمان فؤاد حداد (ألفين سنة و يفضل كلامي جميل) و أكتفي من كنزه بأن ألمح البريق من بعيد ! 

عموما هو حددها بألفين سنة فقط  ( ربما تواضعا أو تشاؤما) ، إذن مازال هناك وقت شريطة أن يمهلني العُمر ، و لعلي أدعو كل من يصله " تحذيري " هذا لمحاولة اللحاق معي بما فاتنا من مُهلة فؤاد حداد .

                            طارق فهمي حسين
                          نوفمبر 2015






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق