5- سُلطان زمانه
في رمضان التالي أُعيد عرض “ الشحاتين “ الناجح على خشبة السامر هذه المرة لكني لم أُشارك فيه لظروف شخصية ، و أدى دوري البسيط في هذه المرة الفنان المُطرب الراحل ممدوح قاسم عضو فرقة المصريين الغنائية الشهيرة ، و لكن بالطبع تم إعادة صياغة الدور و زيادة مساحته بما يتناسب مع نجومية ممدوح قاسم، و بما يُتيح أيضاً مساحة للإستفادة بموهبته الغنائية .
و في رمضان التالي ( عام ١٩٩٢ م ) و في ذكرى مئوية فنان الشعب سيد درويش عدت لأُشارك بدور رئيسي هذه المرة في أوبريت " سُلطان زمانه " و التي كتبها يُسري الجندي و من إخراج عبد الرحمن الشافعي أيضاً و بطولة المُخرج فهمي الخولي و الراقصة عزة شريف و كوكبة من نجوم مسرح السامر و ضيوفه أيضاً من نجوم مسرح الطليعة مثل الراحل الجميل زايد فؤاد و يوسف رجائي ، و مجدي السباعي و ديكور م. حسين العزبي ، و موسيقى و غناء المُبدع الراحل حمدي رؤوف أحد أُمناء تُراث سيد درويش بح و الذي كان يشدو و يقود الفرقة الموسيقية في عرض حي غير مُسجل كُل ليلة مما أعطى العرض حياة و جمالاً يتجدد مع كُل ليلة عرض و لا أنسى أنني من شدة الطرب و الحماسة الوطنية و التاريخية أيضاً كُنت أندفع متحمساً للمُشاركة بالغناء مع مجموع المُمثلين و جمهور العرض في المشهد الختامي للعرض حيثُ ننشد جميعاً رائعة سيد درويش : مصرنا وطننا ، سعدها أملنا ... رغم أنني كُنت أؤدي دور المندوب السامي البريطاني ، و كذلك الحال مع الصديق الفنان محمد حسن الذي كان يؤدي دور الخديوي ، إلا أن ذلك لم يكُن ليُفسد العرض إذ كان الغناء يبدأ بعد أن يُعطي كلانا ظهره للجمهور في إشارة لإنتصار فن سيد درويش على قهر القصر و المُستعمر .
من طرائف فترة البروفات ( و كانت تجرى في فصل الشتاء ) أن مسرح السامر كان يتصف بظاهرة عجيبة رُبما يعرفها كُل من خبر مسرح السامر ، و هي أن الجو بين جُدرانه كان في الشتاء أكثر برودة منه في خارج المسرح و حتى في الخلاء ! حتى أنني كُنت أرتدي في قدمي جوربين " فوق بعض" داخل الحذاء ، و مع ذلك كنت أشعر كالواقف حافياً على أرض مُبتلة بمياه باردة و لم يكن من مهرب من هذه البرودة الشديدة سوى بالحركة و الإندماج المسرحي أثناء أداء البروفات ، لكن في فترات الإنتظار كنت ترى الجميع يتحركون جيئة و ذهاباً و البعض يتقافز في محله تأففاً من البرد !و أذكر فيما بعد حين إلتقيت الفنانة عبلة كامل في مسرح محمد صبحي أثناء عرض " وجهة نظر " أنها كانت تتذكر أيامها في السامر و تُفسر سر البرودة الشديدة بهذا المسرح بأنه كان فيما مضى ساحة للتزلُج على الجليد ( و هذه حقيقة تاريخية ) و تقول ضاحكة أنه غالباً مازال هُناك الكثير من الجليد مدفوناً تحت أرضية المسرح !
في إحدى البروفات كانت الفنانة زيزي عمارة التي تؤدي دور أُم سيد درويش قد إصطحبت معها طفلتها الصغيرة ، و أثناء البروفة كانت الطفلة في الكواليس تتجادل مع أمها و تبكي أحياناً و تصاعد الصوت بحيث شوش على المُمثلين على خشبة المسرح ، فأوقف " الريس " البروفة و دعا من في الكواليس للخروج إلى خشبة المسرح فخرجت زيزي و طفلتها ، و حبس الجميع أنفاسهم ترقباً ، حتى قطع الريس الصمت بحزم : روحي يا زيزي ، خُدي بنتك و روحي ، و طلب من إحدى المُمثلات أداء دور الأُم بدلاً من زيزي التي كانت للحق بارعة في الدور و كانت تمتلك صوتاً مسرحياً بديعاً ، و بالفعل تم إستئناف البروفة و دخلت المُمثلة البديلة لكن الفارق في الأداء كان واضحاً للجميع ، و ظهر إمتعاض مكتوم على وجه عبد الرحمن الشافعي ، و لأن جميع أعضاء السامر كانوا أبناء الريس "و عزوته " فكان يفهمهم و يفهمونه دون حاجة إلى كلام ، و بالتالي فإنه عند إعادة المشهد فاجأني وحدي فيما يبدو دخول زيزي عمارة وإستئنافها أداء دورها ، و الريس يُدير البروفة و كأن شيئاً لم يكُن .
حتى يوم البروفة قبل الأخيرة لم تكن ملامح العرض واضحة و مكتملة بالنسبة لي و للبعض من محدودي الخبرة المسرحية من أمثالي من المُشاركين في العرض ، و كُنا نبدي إستغرابنا و تخوفنا من إقتراب شهر رمضان و بالتالي إفتتاح العرض و الأمور على هذا النحو غير المُكتمل ، أو هكذا كُنا نظُن ، حتى أتي يوم البروفة النهائية ( البروفة جنرال ) و ما أن دخلت إلى مسرح السامر و وجدت خشبة المسرح في أبهى صورة من إكتمال الديكور و الإضاءة و أجهزة الصوت وما أن بدأنا البروفة بملابس العرض و بكُل عناصره ، حتى تأكدت لي عبقرية “ الريس “ - بحق - عبد الرحمن الشافعي الذي كان على مدار شهور البروفات يُجهز عناصر العرض في ذهنه و على خشبة المسرح كل على حده ، ثُم جمعها مرة واحدة في ذلك اليوم كقطع لعبة “ البازل “ الشهيرة لنجد أمامنا فجأة لوحة مُبهرة مُكتملة العناصر و الجمال ، و لمُت نفسي في سري على تشكُكي رغم سابق عملي تحت قيادته في عرض “ الشحاتين “ .
لاقي العرض نجاحاً كبيراً و أثنى عليه النُقاد في الصُحف و المجلات فيما يُشبه الإجماع عدا حالة واحدة تتمثل في واحد من مشاهير الكُتاب في الفن ( مازال يعمل بحالة لابأس بها حتى يومنا هذا ) ، و هو كاتب إشتهر بأنه ، إلى جانب بابه الفني الذي يوقعه بإسمه ، كان له أيضاً باب آخر ثابت يكتبه إسبوعياً في ذات المجلة الإسبوعية الكبيرة و يوقعه بإسم سيدة وهمية ، و هو باب كان يُثير إعجابي في طفولتي و كُنت أُحب قلم هذه “ الكاتبة “ التي كانت كثيراً ما تذكُر في سطورها “ زوجها “ و تتحدث عنه بكُل حُب !!
حضر هذا الكاتب الكبير إلى المسرح في إحدى ليالي العرض مُحاطاً بحفاوة كبيرة و وضع له مقعد مخصوص في مُقدمة الصالة في الممشى الذي يتوسط جناحي الصالة و وضعت أمامه طاولة وضع عليها أوراقه و أقلامه فكان أقرب إلى باشكاتب أو مُراقب يُحصي علينا أنفاسنا و نحن فوق المسرح ، خاصة و أنه كان قريباً جدا من خشبة المسرح رافعاً وجهه و مسدداً نظرات مُتربصة إلينا ، أو هكذا خُيل لي ، و مع إرتفاع الستار عن بداية الفصل الثاني ( كان العرض من فصلين ) إكتشفنا إختفاءه هو و مقعده و “ مكتبه “ مما سبب إحباطاً للبعض ، و إرتياحاً للجميع !
و في العدد التالي من المجلة الكبيرة زين كاتبنا الكبير بابه بتعليقات سلبية تجاه العرض الذي أحبته جماهير مسرح السامر حتى أن صالة المسرح كانت تكتظ بهم طيلة ليالي العرض ، كما أثنى عليه كما أسلفت بقية النُقاد و كان من بينهم الناقد مدحت أبوبكر ( شهيد محرقة مسرح بني سويف فيما بعد ) الذي كان يحضر كثيراً من أيام البروفات ثُم حضر العرض نفسه كاملاً أكثر من مرة قبل أن يكتب عنه كلاما رقيقاً و مُشجعاً
و في رمضان التالي ( عام ١٩٩٢ م ) و في ذكرى مئوية فنان الشعب سيد درويش عدت لأُشارك بدور رئيسي هذه المرة في أوبريت " سُلطان زمانه " و التي كتبها يُسري الجندي و من إخراج عبد الرحمن الشافعي أيضاً و بطولة المُخرج فهمي الخولي و الراقصة عزة شريف و كوكبة من نجوم مسرح السامر و ضيوفه أيضاً من نجوم مسرح الطليعة مثل الراحل الجميل زايد فؤاد و يوسف رجائي ، و مجدي السباعي و ديكور م. حسين العزبي ، و موسيقى و غناء المُبدع الراحل حمدي رؤوف أحد أُمناء تُراث سيد درويش بح و الذي كان يشدو و يقود الفرقة الموسيقية في عرض حي غير مُسجل كُل ليلة مما أعطى العرض حياة و جمالاً يتجدد مع كُل ليلة عرض و لا أنسى أنني من شدة الطرب و الحماسة الوطنية و التاريخية أيضاً كُنت أندفع متحمساً للمُشاركة بالغناء مع مجموع المُمثلين و جمهور العرض في المشهد الختامي للعرض حيثُ ننشد جميعاً رائعة سيد درويش : مصرنا وطننا ، سعدها أملنا ... رغم أنني كُنت أؤدي دور المندوب السامي البريطاني ، و كذلك الحال مع الصديق الفنان محمد حسن الذي كان يؤدي دور الخديوي ، إلا أن ذلك لم يكُن ليُفسد العرض إذ كان الغناء يبدأ بعد أن يُعطي كلانا ظهره للجمهور في إشارة لإنتصار فن سيد درويش على قهر القصر و المُستعمر .
من طرائف فترة البروفات ( و كانت تجرى في فصل الشتاء ) أن مسرح السامر كان يتصف بظاهرة عجيبة رُبما يعرفها كُل من خبر مسرح السامر ، و هي أن الجو بين جُدرانه كان في الشتاء أكثر برودة منه في خارج المسرح و حتى في الخلاء ! حتى أنني كُنت أرتدي في قدمي جوربين " فوق بعض" داخل الحذاء ، و مع ذلك كنت أشعر كالواقف حافياً على أرض مُبتلة بمياه باردة و لم يكن من مهرب من هذه البرودة الشديدة سوى بالحركة و الإندماج المسرحي أثناء أداء البروفات ، لكن في فترات الإنتظار كنت ترى الجميع يتحركون جيئة و ذهاباً و البعض يتقافز في محله تأففاً من البرد !و أذكر فيما بعد حين إلتقيت الفنانة عبلة كامل في مسرح محمد صبحي أثناء عرض " وجهة نظر " أنها كانت تتذكر أيامها في السامر و تُفسر سر البرودة الشديدة بهذا المسرح بأنه كان فيما مضى ساحة للتزلُج على الجليد ( و هذه حقيقة تاريخية ) و تقول ضاحكة أنه غالباً مازال هُناك الكثير من الجليد مدفوناً تحت أرضية المسرح !
في إحدى البروفات كانت الفنانة زيزي عمارة التي تؤدي دور أُم سيد درويش قد إصطحبت معها طفلتها الصغيرة ، و أثناء البروفة كانت الطفلة في الكواليس تتجادل مع أمها و تبكي أحياناً و تصاعد الصوت بحيث شوش على المُمثلين على خشبة المسرح ، فأوقف " الريس " البروفة و دعا من في الكواليس للخروج إلى خشبة المسرح فخرجت زيزي و طفلتها ، و حبس الجميع أنفاسهم ترقباً ، حتى قطع الريس الصمت بحزم : روحي يا زيزي ، خُدي بنتك و روحي ، و طلب من إحدى المُمثلات أداء دور الأُم بدلاً من زيزي التي كانت للحق بارعة في الدور و كانت تمتلك صوتاً مسرحياً بديعاً ، و بالفعل تم إستئناف البروفة و دخلت المُمثلة البديلة لكن الفارق في الأداء كان واضحاً للجميع ، و ظهر إمتعاض مكتوم على وجه عبد الرحمن الشافعي ، و لأن جميع أعضاء السامر كانوا أبناء الريس "و عزوته " فكان يفهمهم و يفهمونه دون حاجة إلى كلام ، و بالتالي فإنه عند إعادة المشهد فاجأني وحدي فيما يبدو دخول زيزي عمارة وإستئنافها أداء دورها ، و الريس يُدير البروفة و كأن شيئاً لم يكُن .
حتى يوم البروفة قبل الأخيرة لم تكن ملامح العرض واضحة و مكتملة بالنسبة لي و للبعض من محدودي الخبرة المسرحية من أمثالي من المُشاركين في العرض ، و كُنا نبدي إستغرابنا و تخوفنا من إقتراب شهر رمضان و بالتالي إفتتاح العرض و الأمور على هذا النحو غير المُكتمل ، أو هكذا كُنا نظُن ، حتى أتي يوم البروفة النهائية ( البروفة جنرال ) و ما أن دخلت إلى مسرح السامر و وجدت خشبة المسرح في أبهى صورة من إكتمال الديكور و الإضاءة و أجهزة الصوت وما أن بدأنا البروفة بملابس العرض و بكُل عناصره ، حتى تأكدت لي عبقرية “ الريس “ - بحق - عبد الرحمن الشافعي الذي كان على مدار شهور البروفات يُجهز عناصر العرض في ذهنه و على خشبة المسرح كل على حده ، ثُم جمعها مرة واحدة في ذلك اليوم كقطع لعبة “ البازل “ الشهيرة لنجد أمامنا فجأة لوحة مُبهرة مُكتملة العناصر و الجمال ، و لمُت نفسي في سري على تشكُكي رغم سابق عملي تحت قيادته في عرض “ الشحاتين “ .
لاقي العرض نجاحاً كبيراً و أثنى عليه النُقاد في الصُحف و المجلات فيما يُشبه الإجماع عدا حالة واحدة تتمثل في واحد من مشاهير الكُتاب في الفن ( مازال يعمل بحالة لابأس بها حتى يومنا هذا ) ، و هو كاتب إشتهر بأنه ، إلى جانب بابه الفني الذي يوقعه بإسمه ، كان له أيضاً باب آخر ثابت يكتبه إسبوعياً في ذات المجلة الإسبوعية الكبيرة و يوقعه بإسم سيدة وهمية ، و هو باب كان يُثير إعجابي في طفولتي و كُنت أُحب قلم هذه “ الكاتبة “ التي كانت كثيراً ما تذكُر في سطورها “ زوجها “ و تتحدث عنه بكُل حُب !!
حضر هذا الكاتب الكبير إلى المسرح في إحدى ليالي العرض مُحاطاً بحفاوة كبيرة و وضع له مقعد مخصوص في مُقدمة الصالة في الممشى الذي يتوسط جناحي الصالة و وضعت أمامه طاولة وضع عليها أوراقه و أقلامه فكان أقرب إلى باشكاتب أو مُراقب يُحصي علينا أنفاسنا و نحن فوق المسرح ، خاصة و أنه كان قريباً جدا من خشبة المسرح رافعاً وجهه و مسدداً نظرات مُتربصة إلينا ، أو هكذا خُيل لي ، و مع إرتفاع الستار عن بداية الفصل الثاني ( كان العرض من فصلين ) إكتشفنا إختفاءه هو و مقعده و “ مكتبه “ مما سبب إحباطاً للبعض ، و إرتياحاً للجميع !
و في العدد التالي من المجلة الكبيرة زين كاتبنا الكبير بابه بتعليقات سلبية تجاه العرض الذي أحبته جماهير مسرح السامر حتى أن صالة المسرح كانت تكتظ بهم طيلة ليالي العرض ، كما أثنى عليه كما أسلفت بقية النُقاد و كان من بينهم الناقد مدحت أبوبكر ( شهيد محرقة مسرح بني سويف فيما بعد ) الذي كان يحضر كثيراً من أيام البروفات ثُم حضر العرض نفسه كاملاً أكثر من مرة قبل أن يكتب عنه كلاما رقيقاً و مُشجعاً
في تلك الفترة التي إقتربت فيها من الفنان المُخرج عبد الرحمن الشافعي لمست كم هو مُخرج قدير و إنسان نبيل يمتلك قُدرات إدارية واسعة نابعة من جذوره الريفية الشرقاوية تحديداً حيثُ كان يُدير الجموع المُحيطة به بإيجابيات شخصية العُمدة أو شيخ القبيلة دون سلبيات هذا النمط و ذلك يرجع إلى ثقافته و كفاءته الشخصية و طاقته التي لا تنضُب على العمل فلم ألحظ أي إنخفاض في حماسه و تفانيه مُنذ شاهدته للمرة الأولى في السامر نحو مُنتصف السبعينيات ، و حتى نهاية عهدي أنا بالسامر في النصف الأول من التسعينيات ، فضلاً عن موهبته الحقيقية كمُخرج لم ينل مكانته المُستحقة و اللائقة بتلك الموهبة ، و إن كان – و مازال – يتمتع بدائرة واسعة من الإحترام في الوسط المسرحي كُله ، و لعلها الوظيفة و قيودها و الإمكانيات المتواضعة المُتاحة لقطاع الثقافة الجماهيرية ،هي التي أدت إلى تحجيم مُخرج بهذه القيمة ، أو رُبما كما عبر هو نفسه ذات يوم ، و كُنت أجلس خلفه في صالة السامر أثناء إدارة إحدى البروفات حين حاول أحد المُمثلين الخروج على النص و إضافة " إفيه " من عنده ، فثار عبد الرحمن الشافعي مُنذراً : " أنا لا أسمح في مسرحي بمثل هذا الكلام ، أنا لو باسمح بكده ما كُنتش بقيت " مطفي " بهذا الشكل .
و للحديث بقية ...
و للحديث بقية ...
طارق فهمي حسين
١٦ أكتوبر ٢٠١٨
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق