الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

أن تكون نجارا .

.أن تكون نجارا
==========



مُهداة إلى روح " عم محمد الخراط " و " عم مصطفى شاهين “
 نجاري مسرح القاهرة للعرائس.
=============================================
إعتدت حين أجلس للقراءة أن أضع خلف أذني قلم رصاص أسجل به ملاحظاتي في هوامش الكتب ، و عادة وضع القلم خلف الأذن هذه إكتسبتها منذ الطفولة حين كنت أجلس في ورشة النجارة بمسرح القاهرة للعرائس حيث أراقب " عم محمد الخراط " و عم " مصطفى شاهين " و زملائهما و هم يحيلون الخشب الميت إلى عرائس جميلة تكاد تنبض بالحياة و إلى ديكورات تضع الواقع حيا على خشبة المسرح .
، كنت أراقبهم بدهشة و شغف و أراقب أدواتهم السحرية ، المنجلة و المنشار و " الفارة " تلك الأداة الجميلة المصنوعة من الخشب أيضا ، أراقبها في يد النجار و هي تروح و تجيء بحنو فوق سطح الخشب بنصلها المعدني الحاد لدرجة أن لا تسبب للخشب أي شعور بالألم - على عكس المنشار بشرشرته الغليظة - فلا تبرح السطح الخشبي إلا و قد جعلته أملسا ناعما جميلا على نحو قد يعوضه و لو قليلا عن سنوات حياته كشجرة نامية مزدهرة.
منذ الطفولة أحببت النجارين و ما يصنعون ، ليس نجاري مسرح العرائس وحدهم ، و لكن معهم أيضا أولئك الذين يصنعون الباب و الشباك ، خزانة الملابس و تخت النوم ، و الذين يصنعون آلة العود و الكمان و القانون ، دكك الفصول في المدارس ، و مقاعد العشاق في الحدائق و على ضفاف النيل .
النجارة مهنة نظيفة تتعامل مع إحدى أجمل منح الطبيعة التي صنعها الخالق و هي الأشجار ، إذ تمنح الأشجار المقطوعة حياة أخرى جديدة تتمثل في ما  يصنع النجّارون من أخشابها مما ينفع الناس و يجمل وجه الحياة .
النجارة مهنة بلا عوادم و حتى ما تخلفه في أرجاء الورش من نشارة خشب هو زائد نظيف بل شديد النظافة و الجمال في الشكل و اللون و الملمس حتى أنه كان يستخدم في فرش مداخل المباني الفاخرة بعد تنظيف الأرضيات تجملا و رقيا ، و اليوم صارت نشارة الخشب الملونة المنتظمة في رسوم و أشكال مبهجة هي أول ما يخطو فوقه العرسان و العرائس في بداية الزفة في حوارينا الشعبية و حتى العشوائية ، و هذا وحده عنصر إحساس بالجمال مفتقد بشدة في العشوائيات ، أما الأحياء الشعبية فهي الجمال نفسه كما كانت دائما .
النجارة ، إلى جانب الرعي و الحدادة ، مهنة الأنبياء و الرسل ، و لو كان قد قدر لي أن أحترف مهنة يدوية لتمنيت أن أكون نجارا أُمسك بالفارة و أربت بها على سطح الخشب الجميل و أصنع جهاز العرائس و مهد الرضيع و أرجوحة الصغار و تكعيبة العنب ... و أضع القلم الرصاص خلف أذني .

طارق فهمي حسين.
٢ ديسمبر ٢٠١٧

هناك تعليق واحد: