مسوخ العولمة .
=======
مُنذ بضعة أيام كانت المدرسة الفرنسية بالمعادي التابعة مباشرة لسفارة فرنسا و الواقعة في قلب أكثر المناطق السكنية هدوءاً تقيم حفلا صاخبا لمناسبة ما ، فظهر رجال المرور لأول مرة بالمنطقة و أغلق الطريق و تصاعدت الضوضاء لساعات في سماء الحي السكني الهاديء على نحو لا تجرؤ نفس المدرسة على فعله في باريس نفسها أو في أي من مدن الدول التي تعتنق فكرة " القانون " و حقوق المواطن ! و نحن لا ننُكر على " ضيوف " البلد أياً كانت جنسياتهم أو معتقداتهم أن يُمارسوا عاداتهم و إحتفالاتهم ، لكننا نتوقع منهم كضيوف أن يحترموا أصول الضيافة أو ، على الأقل ، يلتزموا بما يلتزمون به في بلادهم من قواعد و حدود ، و بالطبع فإن اللوم الأساسي يقع على الدولة التي لا تمنع مثل هذا الإزعاج و الإعتداء على حق السُكان و إنما تُباركه و تساهم في تنظيمه بل و تُغلق له الشوارع !
و يبدو أن هذا الحفل الصاخب أقيم بمناسبة ما يسمى بـ " الهالويين" و هو عيد محض غربي بزعامة أمريكية في غالبية مظاهره و قد عرفناه إبتداءاً عن طريق السينما الأمريكية و يسمى أيضا" عيد جميع القديسين" فهو في الأساس مناسبة تخص المسيحيين الغربيين و لا علاقة له حتى بأقباط مصر الذين نحتفل معهم على مدار تاريخنا المشترك بـ " أحد السعف " و "عيد الغطاس" كما نحتفل سوياً بعيد الفطر و عيد الأضحى المبارك ، لذا فهذا مقال غير طائفي فلزم التنويه ، لكن يمكن إعتباره مقال قومي أو " حضاري " أو حتى شوفيني مُتعصب إذا قرأناه بعين شريحة مُعينة من المصريين – للأسف – لطالما كانت موجودة مُنذ عرفت مصر الغزو العسكري و الثقافي الأوروبي خاصة في العصر الحديث ، و هي شريحة كانت تنحصر في زمانها الغابر في طبقة الأغنياء من المصريين و أنصاف و أشباه المصريين من ذوي التعليم و الثقافة و الهوى الأوروبي بكل ما له و ما عليه ، هذه الشريحة كانت تعيش " عصرها الذهبي " في كنف الإحتلال البريطاني لمصر و الذي إستمر أكثر من سبعة عقود من الزمان ، في حين شهدت إنحساراً و تجرعت "مرارة" الروح المصرية الخالصة و النزعة العروبية و المذاق الشعبي للحياة بعد رحيل آخر جندي بريطاني في عام 1956 و بداية تآكُل الطابع " الكوزموبوليتاني " لمصر ، و هو الطابع الذي هبت مؤخراً موجة جديدة للإحتفاء به و إصطناع الحنين إليه ربما لأغراض " تطبيعية " أو لدواعي " الإسلاموفوبيا" أو – غالباً – كلاهُما .
و هذه الموجة و إن تصاعدت وتيرتها بعد قيام و إنحسار ثورة 25 يناير إلا أن إرهاصاتها بدأت قبل ذلك بكثير وربما في العقدين الآخيرين تحديداً و لأسباب متعددة بدأت تلك الشريحة في إنهاء " تحوصلها " بل – و هنا مكمن الخطر - و إلتحقت بها شرائح جديدة من الطبقة الوسطى تُغازلها أحلام الإلتحاق بالطبقة الُعليا عن طريق تقفي خُطى أبنائها في التغريب و الفرنجة ، و للأسف فإن أولئك " المُلتحقين الجُدد " يقع عليهم وزر هذه الموجة الحديثة من سلسلة هجمات التغريب التي تتلاحق كُل فترة ، ذلك لأن هذا التغريب حين كان محصورا في الطبقة العُليا محدودة العدد و الأثر في المُجتمع كانت تقتصر آثاره على أصحابه و تدور في مجتمعاتهم المُغلقة أو شبه المُغلقة ، لكن إنضمام تلك الشرائح من الطبقة الوسطى لقطار التغريب أكسبه دفعة مشئومة ذات أثر ملحوظ فإنتشر – على سبيل المثال – إستخدام مُفردات " مستر " و "مس " في البنوك و الشركات و المقاهي – عفواً – " "الكافيهات "، بعد أن كان قاصراً على فنادق الدرجة الأولى لطبيعة تعدد جنسيات الزبائن ، أما اليوم فإنه حتى في المدارس العربية ، و بعد أن كان إستخدام هاتين الكلمتين مقصوراً على مُدرس أو مُدرسة اللُغة الإنجليزية أصبحت تُطلق على كافة المُدرسين والمُدرسات بمن فيهم مستر فُلان مستر اللُغة العربية و الدين ! و إنتشرت الإحتفالات بالهالويين الذي أُغلقت له بعض الشوارع في مصر الجديدة في وقت من الأوقات ، و أصبحنا نرى في المعادي مثلاً الأطفال (المصريين و ليس الأجانب فقط ) ينتشرون في الشوارع بصحبة " أولياء الأمور " في إزياء تنكُرية لشخصيات أفلام الكوميكس و الرُعب الأمريكية فنرى الزومبي و سبايدر مان و كابتن هوك يسيرون مُطمئنين في شوارعنا مُتجهين إلى مدارسهم لحضور إحتفالات " عيد جميع القديسين "التي تنظمها المدارس و أحياناً تبيع المدرسة نفسها هذه الأزياء للتلاميذ ، و للمُفارقة ( المقصودة بعناية ) فإننا لا نرى أية أزياء لشخصيات خيالية محلية مثل بكار أو بوجي و طمطم أو ظاظا و جرجير مثلاً ! مسوخ صغيرة تسير في شوارعنا مُبشرة بمُستقبل " عولمي " لا مكان فيه لثقافتنا و بالتالي لا مكان فيه لنا سوى عبر خيار الإنسحاق التام و التبعية المُطلقة .
كذا إنتشرت مُفردات الحياة الأمريكية و غير العربية عموماً من أقصى الأرض إلى أقصاها – المنقولة عبر شاشات السينما و الفضائيات و التي رُبما لا تُعبر بالضرورة عن الواقع الأمريكي – أقول إنتشرت تلك المُفردات في أوساط الطبقة الوسطى المصرية بشكل يدعو للرثاء ، فنرى " مجات " النسكافيه لا تُفارق الأيدي في السيارات و المصاعد و الشوارع ، و سماعات الموسيقى لا تُفارق الآذان ، , و إقبال إستعراضي على تناول " السوشي " بصرف النظر عن إستساغة طعمه من عدمه ، و حتى التعبير عن المشاعر من غضب ( شيت ) أو ألم ( أوتش ) أو مُفاجأة ( أوبس ) و " إزيك يا مان " و الإستخدام المُفرط للُغة الإنجليزية في الحديث ( بصرف النظر عن درجة الإجادة و سلامة النُطق) مُقابل التباهي بعدم إجادة الأبناء للعربية و حتى في تبادُل المُكاتبات و الرسائل الإلكترونية في شركات و بنوك و بين أطراف كلها من المصريين ! كما شاعت على الفضاء الإلكتروني كتابة اللُغة العربية بحروف لاتينية بدعوى – تباهياً – بأن : " أصلي بطيء في العربي و مش حافظ أماكن الحروف زي الإنجليزي " ، و أطفالاً دون سن المدارس يعرفون الأرقام و أسماء الحيوانات بالإنجليزية و لا يعرفونها بالعربية !
و ضماناً لإستمرارية مسيرة التغريب ، و تزامُناً مع إنهيار التعليم الحكومي ( في إطار محو آثار ثورة يوليو 1952 ) و التحقير من شأنه عبر عبارات مثل ( آدي أخرة التعليم المجاني ) التي شاعت مؤخراً ، في هذا الإطار إنتشرت مئات الدكاكين التعليمية التي تُقدم التعليم الأجنبي الخالص عبر منح ما يوازي الثانوية العامة من "بكالوريا" عبر نُظم أمريكية و بريطانية و فرنسية و ألمانية و" دولية " و التي يتراوح التهافت عليها بين الهروب من الإنهيار الذي أشرنا إليه للتعليم الحكومي ، و بين الهرولة نحو التغريب و الإنفصال عن المُجتمع .
و توضيحاً و حتى لا تؤخذ السطور السابقة على أنها دعوة للتخلُف و التقوقع ، فإنني لا أُعارض مُطلقاً الإنفتاح على كُل الثقافات و التفاعُل معها و إكتساب المهارات اللغوية المُتعددة ، لكن على أرضية من الإنتماء الراسخ لعاداتنا و تقاليدنا و ثقافة مُجتمعنا أولاً و الإعتزاز بها لا التنصل منها و التعالي عليها ، فليجيد أبناءنا اكثر من لغة اجنبية إجادة تامة ، لكن فليجيدوا العربية أكثر ، و يلزم هنا أن أشير إلى زمن كانت المدارس الأجنبية في مصر – محدودة العدد – تؤدي دورها التعليمي في إطار الرؤيا العامة و الموحدة للدولة المصرية و الإلتزام بالمناهج الموحدة لوزارة التربية والتعليم ( وقت كانت المناهج توضع بعناية و بواسطة المُتخصصين ) فكانت على مدار عقود تُمثل إضافة و إثراء للمجتمع و مداركه الثقافية و ليس خصماً منها و محواً للهوية كما نرى اليوم .
نحن نريد إنفتاحاً على الثقافات يتبنى صيغة الحوار لا الإملاء ، التفاعل لا المحو ، و إذا كُنا – بطبيعة الواقع المرير – لا نستطيع أن نفرض على الآخرين فإننا على الأقل نستطيع أن نتحصن بثقافتنا و نعمل على إحياءها و نُعيد توحيد مناهجنا التعليمية و نوقف المسيرة غير المُقدسة لمسوخ العولمة .
*قصة من أرشيف الواقع :
مُنذ بضعة عقود و مع بدايات إنتشار فروع سلسلة مطاعم " ماكدونالدز " الأمريكية في فرنسا بشكلها المعروف و قائمة مأكولاتها الثابتة قام بعض الشباب الفرنسي " بإختطاف " الدُمية الشهيرة " رونالد ماكدونالد " التي توضع أمام فروع هذه المطاعم كرمز أو تعويذة للإسم الشهير ، قام الشباب بإختطاف الدمية حسب تعبيرهم و أعلنوا مطالبهم و التي تمثلت في إحتجاجهم على عدم إلتزام تلك المطاعم بالطابع الفرنسي و الثقافة الفرنسية و حددوا عدة مطالب منها الإلتزام بوضع مفارش كاروه أحمر في أبيض على المناضد على النمط الفرنسي ، و إضافة بعض المأكولات الفرنسية لقائمة الطعام و منها الخُبز الفرنسي الشهير .
الواقعة حقيقية و نشرت وقتها في الصحف ، أما رمزية الحدث و دلالاتها فأظنها لا تحتاج إلى مزيد من الشرح ...
طارق فهمي حسين
أكتوبر 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق