أمين حداد و ألفا عامٍ من الشعر.
كانت ليلة سعيدة بحق تلك التي جافاني فيها النوم فأضأت مصباحا بجوار الفراش و تناولت كتابا جديدا رشحه لي صديق أثق دائما في خياراته – على الأقل الأدبية – و عزمت على مطالعة صفحة أو إثنتان من صفحاته الأولى ثم العودة إلى النوم من جديد …
“ جزيرة الأحياء “ للكاتب الشاعر أمين حداد… بدأت بالغلاف الخلفي الذي – كما جرت العادة – يعرض مقطعا قصيرا من الكتاب أو نبذة عن الكاتب ، هذه المرة الغلاف الخلفي يجمع بين الأمرين معا
الكاتب معروف و يحمل لقبا يزيده بريقا و يُزكيه حتى قبل أن يكتب حرفا واحدا ، لكني للأسف لم أقرأ له من قبل ، من الغلاف الخلفي إنتقلت إلى الإهداء ثم إلى الصفحات الأولى يستدرجني سطر إلى الذي يليه ، فإذا بي لا أجدني أتصفح كتابا و إنما أتجول في حياتي و ذكرياتي و معالم وجداني و شوارعه و حواريه ، و أجد هذا “ الجدع الغريب “ يجرني بعنف من ذراعي و يكاد يسحلني في المكان و الزمان و دروب الذكريات و من سكة راتب لشارع الملك المظفر و من صابون الشمس و نابلسي شاهين إلى عبد الناصر و موسيقى و شدو إبراهيم رجب السحري ، و حتى حلوى البخت الحمراء !!!
سامح الله صديقي الذي دلني على الكتاب و الكاتب ، فلم يكن ينقصني سوى أمين حداد هذا الذي فوجئت به يكتبني بدلا من أن يكتب لي ، و لسواي !
الحقيقة أنني – بالتأكيد – لست ناقدا أدبيا ، و إنما مجرد قاريء مازال يتحسس الحروف على مدار أكثر من خمسة عقود من الزمان ، و الحقيقة أيضا أنه لا يوجد من يكتب نقدا أو تقييما أو حتى إنطباعا عن كتاب ما قبل أن يتم قراءته ، هذا إذا كان يحترم نفسه و الكاتب و القاريء ، لكن علي الجانب الآخر فإنه من الصعب بمكان على مثلي أن يمتلك الطاقة النفسية الكافية لإتمام معايشة – و لا أقول قراءة – “ جزيرة الأحياء “ أولا ثم يشرع في الإنفعال به أو الكتابة عنه ، لكن أمين حداد دون سابق لقاء بيني كقاريء و بين سطوره أمسك بتلابيبي و إنتزعني من قراءة الفراش لأفر منه إليه و أهرب من قراءته إلى الكتابة عنه ، لكني بعد أن كتبت معظم ما سبق من سطور وجدتني أخجل من أن أتعامل مع كاتب بهذا الثقل و كتاب بهذه القيمة بهذه السطحية و التسرع ، فعدت أتشبث بدفتي الكتاب الحي النابض بين يدي لأتمه فأزداد تيقنا من أنني أمام حالة نادرة من إستدعاء العمر كله بذكرياته و شخوصه و أماكنه و إستحضار كل ذلك حيا من جديد ، ليس مجرد سطور فوق الورق و إنما حياة تدور من حولك و أنت تقرأ ، أجد نفسي في مواجهة كاتب يحار فيه العقل : حكاء عظيم من طائفة إندثرت أو تكاد ؟ شاعر أمين على عامية بيرم و فؤاد حداد و صلاح جاهين ، الذين أكاد أقسم أنني رأيتهم يتجولون بإطمئنان و رضا بين صفحات الكتاب ؟! أم مؤرخ راصد كل التفاصيل الصغيرة النبيلة في الحياة الشعبية المصرية و تحديدا في زمن ذهبي ما زلنا نجتر ذكرياته بما فينا الأجيال التي لم تعشه أو تعاصر أجوائه ؟ أم الرجل ممن يحضرون الأرواح و يستحضرون عمق عقلنا الباطن ؟ فبالفعل قد مرت علي لحظات ظننت فيها أنني لا أمسك بكتاب و لا تقع عيناي على سطور و إنما تصورت أنني سافرت في عمق وجداني و أنا ما بين النائم و اليقظان !!!.. نعم … هكذا !
لذا فها أنا ذا أكتب لكم محذرا من “ أمين حداد “ و كتابه “ جزيرة الأحياء “ فهذا كتاب لا ينبغي أن يفلته عاقل دون أن يقرأه أو – للدقة – يعايشه ، لذا إقرأوا الكتاب و لا تدعوا أمين حداد يفلت بفعلته ، و ليسامح الله صديقي الذي دلني على الكتاب فلم يكن ينقصني سوى أمين حداد و جزيرة الأحياء !
***
إلا ان الأمر لم ينته عند بلوغي "ضفاف" الوصول إلى السطر الأخير من " جزيرة الأحياء " بل كانت بداية ولوجي إلى عالم أمين حداد نثراً و شعراً فإنطلقت أقتفي ما سبق و ما لحق من خطواته الأدبية و الشعرية فتلقفت أحدث دواوينه الشعرية " الوقت سرقنا " الذي فتح لي باباً جديداً من أبواب منطقة خاصة جداً من عالم شعر العامية المصرية كنت أظنها قد بدأت تخبو برحيل فؤاد حداد و صلاح جاهين تباعاً ، و أنه لم يبق لها من يذود عنها سوى قلائل من جيل الآباء مثل سيد حجاب على سبيل المثال ، و أعني بـ " المنطقة الخاصة " بل شديدة الخصوصية ذلك النوع من شعر العامية شديد " الفصاحة " و الذي ترتبط معانيه و مصادره الثقافية بعروبة مصر و هويتها الحضارية ربما بأكثر أحيانا من بعض شعر الفصحى ، و كذا بجذورها التاريخية ،هي عامية غير قابلة للإستغلال الإنعزالي لمصر و شعرها و ثقافتها عن محيطها و جذورها العربية ، رغم مصريتها الشديدة لفظاً و معنى و ذاكرة و هي المدرسة التي وضع لبنتها الأولى بيرم و تزعمها و أقام بنيانها الشامخ فؤاد حداد ... ثُم أتى أمين حداد ليفتتح فيها فصولاً جديدة تعبر بها إلى القرن الجديد دون أن تفقد جذورها الضاربة في تاريخ مصر و قاهرة المعز و شوارعها و حواريها .
قرأت و تذوقت و عايشت ديوان " الوقت سرقنا " فأثلج صدري و طمأنني أن هناك حارس أمين ( فهو إذن إسم على مُسمى )على جذوة هذه المدرسة بل و يزيدها شعره توهجاً و تأججاً لتدوم طويلاً ، و تُنير بعيداً ...
و الحقيقة ان ديوان " الوقت سرقنا " رغم أن عدد قصائده و بالتالي صفحاته مناسب جدا لإصداره كديوان إلا أن محتواه الشعري ينطوي على عدد من الدواوين الشعرية القائمة بذاتها ، و هذا للغزارة و التنوع و تدافع و تدفق المعاني و البواعث التي تحرك الشاعر فهذه قصائد يواصل فيها أمين حداد إستحضار و إستعذاب الذكريات و التي هي – على خصوصيتها أحياناً – جزء عزيز من الذاكرة العامة و الوجدان الجمعي لأغلب المصريين :
...و ام كلثوم اللي ساكنه الراديوهات
قاعده ويا الجدة في الدور الفوقاني
كُل حواديتهم آهات .. تنهيدات
صوتهم الهادي يشقر ع البنات
يا حبيباً زرتُ يوماً
بيته في الملك المُظفر .. ذكريات
( شارع الملك المُظفر بحي الروضة بالقاهرة )
و تلك قصائد في الحب ...
كل اللي قلته لوحدي إسمه عذاب
يعني الكلام في الحب صوت مع صوت
ما بيتكتبش و ما بيبعتش جواب
الحب الاخرس موت في قلب الموت
و هذا شعر فلسفي يتأمل في كنه الأشياء و ينظر إليها من زوايا غير مطروقة :
البحر .. مش مهتم باللي بيجرى
و لسه زرقته مالياه
و بيرمي موجه و هواه
على بنت نايمة بتقرا
أبسط معاني الحياة
و عن " التراب" و عن النجوم ، و حتى عن " الكهربا " ينظم أمين حداد شعراً مُدهشاً فيكشف لنا مثلاً أن :
الكهربا هي دم النور
و أعصاب المباني
و الحق أن تصنيف قصائد ديوان " الوقت سرقنا " على هذا النحو التعسفي الذي حاولته في السطور السابقة يبخس من قدر الديوان و الشاعر إذ أن كل ذلك و سواه الكثير من حب و ذكريات و فلسفة و ثورة مضفر و متداخل في جُل القصائد على نحو يجسد الكثير من دواخل النفس البشرية – المصرية بالأخص - و علاقتها بالأشياء و الأماكن و الكون الواسع حتى أن إحدى قصائد الديوان ( الكورة الأرضية ) تصف أهل الأرض من منظور سُكان كوكب آخر ! في إطار خارجي من الفاتنازيا يحمل في جوهره – في ذات الوقت – واقعية شديدة ساخرة و مريرة تُشرح المجتمع البشري بكل تفاصيله الجميل منها و القبيح .
لكُل ذلك ، و سواه فإن أمين حداد و شعره – في رأيي المتواضع – ينتمي إلى الحاضر و الواقع المُعاش ، و يضرب جذوره عميقاً في التاريخ و النفيس من تُراثنا الوجداني و الحضاري ، و مؤهل بقوة للمُستقبل و لُغته و أدواته ، و الدعوة إلى إستشرافه و بنائه على أسس من الثورة و الجسارة و الدعوة للتغيير :
" بحر الأمل قُدامك .. نُط
قرر تعيش حتى و لو مُت "
أمين حداد شاعر يأتي من قلب ألف عام من عمر القاهرة ليتغنى بالمستقبل حتى أنه ينظم شعراً في " جوجل " ، و ينقل لنا وجهة نظر " سكان الكواكب الأُخرى " في أهل الأرض ، في ذات الوقت الذي يجوب فيه – بنا و معنا – شوارع القاهرة و حواريها و يتنقل بنا في مواصلاتها العامة ، كما يجوب بنا في ذاكرته و ذكرياته الشخصية التي تتماس و تتشابه ، بل و تتطابق أحياناً مع ذكريات غالبية المصريين و ذلك لأنه – و بشدة – واحد من عموم المصريين كما تُفصح أشعاره ، و ليس شاعراً من أصحاب الأبراج العاجية .
أخيراً فإن شعر أمين حداد كما تُخبرنا مسيرته الخصبة و أحدث تجلياتها هذا الديوان ينطوي على الكثير من خصائص شعر والد الشُعراء – بحق – فؤاد حداد ، دون تقليد أو تلمُس خُطى مُفتعل ، و إنما لأنه ينهل من ذات المخزون الحضاري و اللغوي و الوجداني ، من ذلك أن شعر كلاهُما لا يكتمل و لا يُفصح عن كامل إيقاعاته الداخلية إلا بالإلقاء أو الغناء ، لا لنقص يعتريه و إنما لأنه أقرب إلى الكائن الحي لا تكتمل حيويته و يفصح عن شخصيته إلا بالتنفس و الحركة لافتاً لأنه شعر يُكتب ليُلقى و يُغنى و يجوب الشوارع و الحواري التي خرج منها في الأساس كاشفاً و مُذكراً و مُبشراً ، و لم يُكتب ليستقر وادعاً بين صفحات الكُتب و حسب ، و لأن امين حداد – و هذا من طبيعة الأمور – شاعر و إنسان من ذات المعدن النفيس الذي " قُد " منه فؤاد حداد ، فإن هذا الإمتداد المُدهش الحميد يُضيف معنىً جديداً لنبوءة فؤاد حداد الشهيرة " ألفين سنة و يفضل كلامي جميل " فلا ينطبق المعنى على كنوز فؤاد حداد الشعرية فحسب ، و إنما ينسحب اأيضاً على " كلام " خلفاءه و حملة عهده و منهم بل و " حاديهم " بالتأكيد أمين حداد ، فهو بحق يحمل على أكتافه ألف عام من عُمر القاهرة و أهلها و عاميتهم الفصيحة و يُبشر شعراً و نثراً، و على أقل تقدير ، لألف عام قادمة ...
طارق فهمي حسين
أغُسُطُس ٢٠١٧
======================
* البورتريه المُرفق للشاعر أمين حداد رسم الفنان سمير فؤاد - ألوان زيتية 2016
* نُشر هذا المقال بمجلة " الثقافة الجديدة " عدد أغُسطُس ٢٠١٧
* نُشر هذا المقال بمجلة " الثقافة الجديدة " عدد أغُسطُس ٢٠١٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق