لبنان يا قطعة سما ( 2 )
الإتجاه جنوبا
بعد " العودة " المظفرة للشهيدة دلال المغربي و رفاقها البواسل إلى فلسطين عام 1978 فيما عُرف وقتها بـ “ عملية الأوتوبيس” ، و التي كانت في حقيقتها كما وصفها نزار قباني إعلان جمهورية فلسطين و رفع علمها في قلب الوطن السليب … و مع التهديدات الصهيونية بإجتياح الجنوب كان لزاما علينا أن نتجه إلى الجنوب لنرابط و فوهات البنادق جميعها في إتجاه واحد نحو العدو الواحد ، ففي ذلك الزمان كانت البوصلة لاتزال سليمة لم تنكسر بعد …
فكانت الرحلة الواجبة من بيروت إلى صيدا فـ صور ثم إلى تبنين و من تبنين حيث تزودنا بالأسلحة المناسبة إلى كونين حيث تمركزنا … و ما أدراك ما “كونين “حيث القرية الصغيرة التي تتوسطها بحيرة ساحرة تتحلق حولها بيوت الفلاحين اللبنانيين الذين ما أن تدخل إلى بيت واحد منهم و ترى أسرته البسيطة و تقدم لك أقداح الشاي اللامتناهية العدد في نفس ذات الأكواب الصغيرة المخصرة بخطين ذهبيين التي يستخدمها أهلنا على بعد آلاف الأميال في عمق الريف المصري ، حتى تدرك المعنى الحقيقي العميق الخالي من التنظير للقومية العربية و لوحدة الدم و التاريخ و المصير … تستقبلنا الأسرة الريفية البسيطة في بشاشة و تقدير بالغين ، و يتطوع أحد الرفاق اللبنانيين بكذبة - يراها بيضاء - بأن يدعي قرابة مزعومة تجمعني شخصيا بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر ! فإذا بالأسرة كلها تعاملني معاملة الكائن الأسطوري ، و الجيران يتنادون ليكتظ بهم البيت البسيط و هم يتسابقون في الترحيب بي و التحديق في وجهي باحثين عن طيف عبد الناصر فارس أحلام الأمة الراحل …
***
في خنادق الجنوب كنت تقابل " الرجل " الفلسطيني الفدائي الذي لم يتجاوز من العمر أربعة عشر عاماً ! يدخل إلينا الفتى " كفاح " العائد من معركة " مارون الراس” التي كان من أبطالها في ذات الصباح و التي تم خلالها تحرير القرية من أيدي الإنعزاليين صنائع و وكلاء جيش العدو الصهيوني .... كفاح ... هكذا كان إسمه – الحركي غالبا – بنية و وجه طفل متورد الخدين إنفعالا و لا تكاد تتبين طبيعة بنيانه الجسماني من حجم ما يحمل على ظهره من مهمات عسكرية ... في الليل كان كفاح يعاني صعوبة في النوم إذ كانت أول ليلة له بعد معركته الأولى و قتيله الأول من الأعداء ….
كان الأكبر سناً بيننا و أحد أبطال معركة مارون الراس أيضا " الشيخ " هكذا كنا نناديه و لا يعرف أينا له إسماً ، درزي لبناني ربما كان يقترب من سن الخامسة و العشرين فكان أكبرنا سنا ، و مع لحيته الوجيهة و انتماؤه الدرزي كان لقب " الشيخ " هو الأنسب له ، كان الشيخ مقاتلا جسورا متمرسا ، و كان الأكثر إعمالا للقتل في مرتزقة العدو ، و كان أيضا أكثر الموجودين حياءا و خجلا و أخفضهم صوتا !
كان هناك " عابد " الفتى اللبناني الوسيم و الإبن المدلل لوالده كما كان يحكي لنا ، كان عابد يموت رعبا على مقعد طبيب الأسنان فيقول له أباه : ألست فدائيا ؟ كيف تخاف هكذا ؟!!! و كان عابد هذا نفسه مقاتلا صلدا يرى في الدفاع عن تراب الوطن بل و الموت في سبيله مسألة بديهية لا تتطلب شجاعة ما ، على عكس الجلوس على مقعد طبيب الأسنان !!!
في تلك السنوات الرائعة وفي عمق الجنوب اللبناني الساحر كنت تلقى كافة النماذج من الفتية و الشباب الفلسطيني واللبناني من مختلف الإنتماءات العقائدية و السياسية و ربما الطبقية لكن جميع هؤلاء كان يجمعهم خط واحد مشترك قد لا تكاد تراه ، و قد تراه بوضوح منذ الوهلة الأولى ... ألا و هو أرقى درجات النبل الإنساني ، كائنات فوق البشرية ببضع درجات، خاصة عندما يتعلق الأمر بما يعتقدون و يحلمون و بتراب الوطن و تربته الحمراء النفيسة …
في أحد الخنادق تجد رفيقا لبنانيا حالما حين يعرف أنك من مصر و أنك لابد إليها عائد ، يحدثك عن حبيبته المصرية و التي يحلم بالزواج منها يوما ما ، و يدس في يدك – و أنتما في الخندق الجنوبي – ورقة بها إسمها و إسم الكلية التي تدرس بها في جامعة الأسكندرية ، فقط لتحمل إليها – إن أمكن – سلامه …
في الليل كنا نجلس على الأرض محتضنين السلاح و متطلعين إلى قمة جبل الشيخ التي تتبدى على البعد لنا بشموخها المتفرد و تتبدى لنا – على مرمى صاروخ تحول دون إطلاقه حسابات الأنظمة العربية التي لا تنتهي و لا تفضي إلى شيء في ذات الوقت – تتبدى أضواء المستوطنات الصهيونية الناشبة أظفارها في لحم الوطن الفلسطيني ... نجلس و نتسامر و تدور أحاديث السياسة و المقاومة و الشعر و الحب و الأحلام المشتركة للغد ، يمد أحدهم يده و يضغط زرا فينبعث صوت الشيخ إمام قويا شجيا :
تكرم عين الشعب الزين
في عمان و في القطرين
شعب عنيد يقول مايريد
و شو مايقول عالراس و العين
....
أدهشني - ربما لفرط السذاجة – أن أسمع صوت الشيخ إمام عيسى إبن خوش قدم بالغورية في قلب القاهرة يشدو هنا في عمق الجنوب اللبناني ، و أن رفاقي في هذا المكان يعرفونه و يحتفظون بتسجيلاته ، لكني سرعان ما أدركت أنه كان الأحرى بي أن أدهش لو لم أستمع للشيخ إمام في مثل هذه البقعة من وطني العربي ... حين أبديت دهشتي لكون بعض الأغاني أسمعها لأول مرة – و أنا المصري و أبي هو أول من كتب عن الشيخ إمام في الصحافة - أصر صاحب الشريط على أن يهديه لي ... و مازلت أحتفظ به منذ ما يقرب من أربع عقود من الزمان ... حين كنا ندخل لننام كان مكان النوم غرفة واحدة متوسطة الإتساع ، و كنا ننام متجاورين على الأرض نحو أحد عشر " عنصرا " بكامل سلاحنا و ملابسنا و حتى أحذيتنا حتى نكون مستعدين في كل وقت ، إستثناءا من النوم على الأرض ، و على السرير ( أو التخت ) الوحيد الموجود كان ينام - بموافقة من الجميع –الفتى المدلل عابد الذي لا يخشى – بعد الله – سوى طبيب الأسنان !
على مدار الليل كان يقوم بالحراسة فردين بالتناوب لمدة ساعتين كل نوبة ، و في نوبتي كنا ثلاثة من الأصدقاء حيث كان ثالثنا من النوبة السابقة يرفض الدخول للنوم مفضلا صحبتنا أثناء نوبتنا أيضا لما يجمع ثلاثتنا من صداقة من أيام بيروت و ” الكزدرة “ أي التمشية على الروشة و شراء القمصان الرخيصة من الأسواق الشعبية …
في الصباح المبكر و مع بدايات الضوء كنا نبدأ يومنا بطابور تدريبات الصباح تحت قيادة الضابط الفتحاوي محمد علي ، و الذي كان يتميز عنا بفارق ملحوظ في السن - ربما جاوز الثلاثين - فضلا عن زيه العسكري التقليدي كما في الجيوش النظامية ، و صرامة و إنضباط واضحين ، كنا نبدأ بالركض المنتظم عبر طرقات و حقول القرية و حول البحيرة حاملين أسلحتنا هاتفين : فلسطين بلدي ، لبنان بلدي ، ثم ننتقل إلى أسماء كل البلاد العربية حتى نصل - مازحين - إلى الهتاف : كونين بلدي ، تبنين بلدي …. و يكتم بعضنا ضحكاته و نحن نتهامس : “ بلدك منين إنت و هو بس ؟ أنا أول مرة آجي هنا أساسا ! إنتوا عايزين أهل البلد يطردونا ؟! فتتعالي الضحكات حتى يقطعها صوت الضابط محمد علي الصارم و تعليماته بالإنتقال إلي مرحلة أخرى من التدريب الصباحي ….
حين صعدنا إلى مارون الراس لنحل محل المقاتلين المنتصرين في معركة تحرير هذه القرية الحدودية ، لينزلوا هم محلنا في كونين بصفتها موقعا خلفيا إلى حد ما لينعموا ببعض الراحة بعد معركتهم الشرسة المظفرة ، حين وصلنا إلى مارون الراس وجدتها أشبه ما تكون بشرفة مطلة من علٍ على الوطن السليب في فلسطين ، فهي كما يفصح إسمها على ما يبدو أقصى نقطة في الحدود اللبنانية تلامس تراب فلسطين و تشكل أمثل نقطة أو معبر للعودة المنشودة يوما …
***
حين عدت إلى بيروت و وصلت إلى البيت كانت نظرتي الأولى لوجهي في المرآة بعد أيام عديدة لم يتح لي فيها رؤية إنعكاس وجهي في أي سطح لامع حتى ناهيك عن مرآة ! ففاجئني شعري الأشعث و ذقني النامية و حتى لون بشرتي الذي تغير !!! لكن هذا الوجه الذي طالعته في المرآة مستغربا كان يحمل تعبيرا لم آلفه من قبل من الفخر و الزهو و الصلابة المكتسبة من رحلة الجنوب المجيدة …
بعد بضعة أيام و أنا أصعد سلم البناية التي بها مقر وكالة الأنباء الفلسطينة حيث أعمل بقسم الإستماع ، أصعد السلم حليق الوجه منمق الشعر تفوح مني رائحة عطر فاخر و يملؤني زهوان ، زهو الصبا و العنفوان و زهو العائد من الجنوب منذ بضعة أيام ، فيصدم وجهي و يحيل زهوي خجلا و إحساس بالضآلة ملصق كبير الحجم معلق على الحوائط تتصدره صورة كبيرة باسمة للضابط محمد علي و مطبوع تحتها بخط كبير عبارة : محمد علي - شهيد الثورة الفلسطينية .
طارق فهمي حسين
أغُسطُس ٢٠١٥
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق