6- قاعة منف
أيامٌ ما أجملها قضيتها في مسرح السامر بل عالم السامر الساحر ، و لا أنسى قاعة منف و التي تتبع السامر و تقع في الشارع الخلفي له حيثُ كُنا ننتقل أحياناً لنُجري البروفات هُناك حين تكون خشبة السامر مُنشغلة بنشاط آخر ، و أتذكر واقعة طريفة جرت في تلك القاعة حين كُنا نُجري إحدى بروفات القراءة ( الترابيزة ) فإذا بأحد الراقصين يدخُل طائراً من شباك القاعة علي طريقة “ بروس لي “ و يشرع في الإعتداء بالضرب على أحد الشباب المُشاركين في البروفة و قبل أن تعم الفوضى في المكان إنتفض " الريس " واقفاً و أشار إلى المُعتدي مُصدراً أمراً من كلمة واحدة : إضربوه ، فإندفع عدد من الشباب مُلبين النداء و إنهالوا ضرباً و ركلا على الراقص الطائر تعيس الحظ حتى أصدر الريس أمره بالتوقف ثم أعلن قراره بإستبعاد الرقص أساساً من العرض ، لكن بعد ذلك أتى إليه الفنان نبيل مبروك و مجموعة من الراقصين مُدينين تصرف زميلهم و الذي أتى هو الآخر مُعتذراً و نادماً و موضحاً أنه لم يكُن يدري أن بروفة تدور في القاعة و أن الريس بنفسه كان موجوداً و شرع في شرح أسباب الخلاف لكن الريس إستوقفه و إكتفى بإعتذاره ، و في الواقع فإن العرض كان إستعراضياً إلى حد كبير و لا يُمكن تصوره بدون مجموعة الراقصين المُدهشين الذين شاركوا فيه وكان بعضهم من أعضاء الفرقة القومية للفنون الشعبية و أبرزهم كان الراقص الشهير عزت أبو سنة و زوجته نهلة ، و مع ذلك فلم يشك أحدنا للحظة في جدية عبد الرحمن الشافعي في قرار إستبعاد عنصر الرقص من العرض لمعرفتنا جميعاً بتركيبته المبدئية و وضوح الأولويات لديه ، و رأسه الشرقاوي العنيد ، لولا ما لمسه من صدق إعتذار المُعتدي و إدانة زملائه لما فعل .
في تلك القاعة الصغيرة " منف " أيضاً شاهدت و سمعت لأول مرة ذلك الموهوب الكبير المُلحن و المُطرب وجيه عزيز ، و إذا أسعفتني الذاكرة فقد كان ذلك نحو عام 1987 تقريباً و ذلك من خلال عرض مسرحي أقيم في قاعة منف في ذكرى والد الشُعراء فؤاد حداد بعنوان : " كروان الفن " ، كان العرض تجميعاً لبعض من أشعار فؤاد حداد و من أداء مجموعة من شباب المُمثلين أذكر منهم فاطمة الكاشف و مُنير مكرم و ماهر سليم الذي كان هو مُخرج العرض أيضاً ، و معهم كان وجيه عزيز شاباً حالماً ، سارح في الملكوت - على حد وصف فؤاد حداد نفسه - يجلس في قلب العرض مُحتضناً عوده مُنفصلاً به عن العالم شادياً بألحانه و بأشعار فؤاد حداد التي قُدت من كنوز تُراب هذا الوطن ، فكان هذا أول ما إكتشفت من تلك الخبيئة الفنية المُسماة وجيه عزيز فحضرت العرض بعدد ليالي تقديمه ، و إصطحبت معي كُل يوم من أراه جديراً بالإطلاع على هذا الكنز من أصدقائي ، كما وضعت في جيب قميصي جهاز تسجيل صغير ( ميني كاسيت ) سجلت عليه العرض كاملاً و مازلت أحتفظ بالتسجيل حتى يومنا هذا رغم عدم وضوحه ، و مُنذ ليلة العرض الأولى و مُصافحة صوت و نغمات وجيه عزيز لأُذني صرت أتتبعه و أقتفي خُطاه حيثما يبلغني أنه حل فمن أشرطة الكاسيت – على ندرة ما أصدر من ألبومات – إلى ساقية الصاوي ثُم إلى فضاء الإنترنت ، أما أشعار فؤاد حداد و التي كانت قوام العرض فقد كان ذلك العرض المسرحي الجميل بمثابة بطاقة تعريف ثانية لي بعالم فؤاد حداد حيثُ كانت بطاقة التعريف الأولى دائماً هي أبي الذي كان من مُريدي فؤاد حداد و الذي كان يترصد حلقات المسحراتي ، و كذا حلقات " من نور الخيال و صُنع الأجيال في تاريخ القاهرة " في الإذاعة و كان يُسجلها جميعاً ، و كُنت وقتها أُفسر ذلك بحُب أبي لفن الشيخ سيد مكاوي و أيضاً لصداقتهما الجميلة ، حتى كان عرض كروان الفن و صوت و موسيقى وجيه عزيز فدأت أتنبه للعامل المُشترك في الحالتين ، و ياله من عامل أو عالم ... و من مُفارقات القدر – الجميلة بالتأكيد – أن تمضي عقود حتى أجدني أستظل بشجرة فؤاد حداد الشعرية و الإنسانية الوارفة وأتنشق عبير ثمارها المتنوعة سواء من خلال أعماله الكاملة التي إقتنيتها مؤخراً و أنهل منها قليلاً كُل يوم ، أو من خلال أشعار و قصص و موسيقى و أفلام أبناء و أحفاد فؤاد حداد أو من خلال تواصل إنساني و صداقة جديدة قديمة – على حد تعبير الرائع أمين حداد - مع أولئك الأبناء و النُسباء و الأحفاد ، لكن هذه أيضاً قصة أُخرى .
و للحديث بقية ...
============
طارق فهمي حسين
٢٠ أكتوبر ٢٠١٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق