فرقة أتيليه المسرح ، و المسرح كما ينبغي أن يكون .
==========================
هذا العرض المسرحي الرائع الذي قدمته فرقة أتيليه المسرح بكُلية الفنون الجميلة على مدار يومين فقط ( ٢٤ و ٢٥ نوفمبر ٢٠١٧ ) علي مسرح الفلكي التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة ، هو عرضٌ رائع في جميع عناصره من تمثيل و ملابس و مكياج و إضاءة و ديكور و موسيقى و كتابة مسرحية و إخراج بارعين للفنانة الشابة سمر جلال التي نجحت في تحويل ( دون تمصير ) رائعة الكاتب البريطاني رولد دال " تشارلي و مصنع الشيكولاتة" إلى عرض مسرحي مُمتع و بديع .
ذهبت إلى المسرح بتوصية سابقة من الصديقين الشاعر الكبير أمين حداد و أمينة جاهين اللذين سبق لهما حضور الموسم الأول للعرض ، و مدحا فيه كثيراً وقتها ، و هي تزكية لا يُمكن تجاهُلها بالنظر إلى صاحبيها بذائقتهما الفنية شديدة التميُز بطبيعة الأمور ، لكني في ذات الوقت كُنت مُتحيراً كيف سيتجاوز أصحاب العرض المسرحي مأزق النجاح المُبهر للفيلم الأمريكي الذي تناول نفس القصة بكُل إمكانيات السينما الأمريكية المادية و التكنولوجية المُبهرة فضلاً عن نجومية جوني ديب الطاغية ؟! و تصورت أن محاولة تحويلها إلى عرض مسرحي محلي و بإمكانيات مسرح للهواة هي محاولة يشوبها الكثير من السذاجة و حُسن النية اللذان لن يكونا كافيين لتحقيق و لو قدر يسير من النجاح في مواجهة ماكينة السينما الأمريكية الطاحنة ، لكن ظلت تزكية الصديقين الكبيرين للعرض حافزاً قوياً و كافياً للحرص على حضوره .
بصعوبة تمكنت قبل العرض الأول بيومين من حجز تذكرتين لي و لزوجتي في الحفلة الأخيرة من ليلة العرض الثانية و الأخيرة أيضاً .
أول ما فاجأني و أسعدني هو المسرح نفسه : مسرح الفلكي التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة ، و الذي لم أكن قد إرتدته من قبل في حياتي ، على كثرة إرتيادي للمسارح على مدار العُمر ، في بهو المسرح خارج القاعة إستقبلتنا شابة جميلة ذات لكنة أظنها لبنانية لتستوقفنا ببشاشة و لباقة لتلتقط لنا هذه الصورة المُدمجة مع أفيش العرض المسرحي عن طريق جهاز حديث تتوسطه شاشة تعمل باللمس ، و خلال فترة الإنتظار قبل الدخول تابعت الفتاة و معها زميل لها يحرصان على إستقبال جميع الحضور و إلتقاط نفس الصورة لهم سواء كانوا أفراداً أو أُسراً كاملة أياً كان عددها ، و يتم طبع الصورة و إهداءها لأصحابها دون أي مُقابل سوى إبتسامات الدهشة و السعادة التي شملت الجميع و وضعت اللبنة الأولى في بهجة السهرة المُنتظرة .
ما أن دخلنا إلى قاعة المسرح حتى لفت نظري التصميم العبقري للقاعة المكونة من ( ٢٠٠ ) كُرسي ففضلاً عن الكراسي المُريحة جداً ، و المساحات الآدمية التي تفصل بين الصفوف على نحو لم أجده حتى في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية ، فهناك أيضاً تدرج رائع في الإرتفاع على نمط المسارح الرومانية القديمة بما يستحيل معه حجب رؤية المسرح عن أي مُشاهد مهما كان قصير القامة أو كان الجالس أمامه طويل القامة ، فضلاً عن أن صفوف المقاعد تتراص في أقواس تصنع أُلفة و تواصل بين الجالس في أي موقع من القاعة و بين ما يدور على خشبة المسرح ، و الحقيقة أنني لا أمتلك أية معلومات سابقة عن هذ المسرح و عن تاريخ إنشاءه ، و الأهم : المُهندس الذي صممه ، لكني - و قد إرتدت عشرات المسارح الكُبرى و الصُغرى داخل مصر و أحياناً خارجها - أرى أن تصميم هذا المسرح يجب أن يُدرس و يُعمم فيما يتم إنشاءه من مسارح و قاعات عرض ، المسرح فقط يحتاج إلى ترقيم المقاعد و إعتماد نظام حجز الأماكن المُتبع في كُل دور العرض المسرحية و السنيمائية على السواء .
نأتي إلى الأهم و هو العرض نفسه ، و الذي ما أن بدأ حتي أجاب على تساؤلاتي و حيرتي حول مُعضلة مُجاراة الفيلم الأمريكي ، إذ أخذنا أداء المُمثلين و باقي عناصر العرض بعيداً تماماً عن أية مُقارنة أو حتى أية فكرة مُسبقة عن القصة و الأحداث ، رغم إلتزام المُعالجة المسرحية بكافة تفاصيل الفيلم و القصة الأصلية ، لكن الأداء المُمتع و الصادق ، و استمتاع المُمثلين أنفسهم بما يؤدون ، و الذي سرى منهم إلينا نحن الجمهور أخذنا - كما قُلت بعيداً عن أي مُقارنة ، بل أن معرفة أغلب الحضور صغاراً و كباراً بتفاصيل القصة خلق حالة من التشوق لكُل مشهد قادم والترقُب لكيفية تناول العرض و تخطيه لمُعضلات مشاهد الفنتازيا التي لا تُشكل مُعضلة على شاشات السينما ناهيك عن السينما الأمريكية ، لكن الإخراج و الديكور و الإضاءة فضلاً عن أداء المُمثلين تضافروا أيما تضافُر في تقديم مُتعة حقيقية على المستوى البصري و الوجداني في كُل مشهد و كُل تفصيلة .
مع بداية ظهور الشخصية الأساسية في العرض و هي " الطفل " تشارلي ، و التي يؤديها المُمثل الشاب محمود رأفت و هو من خريجي كُلية الفنون الجميلة تساءلت في نفسي : " ألم يكُن من المُمكن للمُخرجة العثور على طفل أو حتى صبي في الإعدادي مثلاً لأداء الدور ؟ لكن الإجابة المُفحمة سرعان ما جاءت عبر الأداء الفاهم و الصادق و الموهوب للمُمثل الشاب الذي نجح في خلال دقائق في أن يجعلنا ننظر إليه فنري أمامنا بالفعل الطفل تشارلي ، و هو الأمر الذي ساهم فيه بقوة ، و بالنسبة لجميع الشخصيات ، تصميم الملابس و المكياج .
تميز مُعظم المُمثلين ، أو أقول جميعهم ، في أداء أدوارهم ، و غلب على الأداء الفهم العميق لطبيعة كُل شخصية ، و هو أمر يُحسب بالتأكيد لمُخرجة العرض دون إنتقاص من فضل المُمثلين أنفُسهم فيه.
المُمثلات الثلاث اللائي أدين دور " الراوية " في مشاهد الربط كُن ذوات حضور شديد و أداء يتماهى مع فانتازيا النص على نحو بديع .المُمثل ( و المُخرج المُنفذ ) فهد إبراهيم أدى دور " ويلي ونكا " ببراعة مايسترو يمتلك أدواته تماماً.
الغناء و الموسيقى في غاية البساطة و الجمال .
الكتابة المسرحية أيضاً كانت من البساطة و البلاغة معاً بحيث نجحت ، و بعبارات واضحة ، في الحفاظ على القيمة الأخلاقية التي وضعها المؤلف في نصه الشهير ، و نقلت الرسالة بأمانة و دون خطابة أو فجاجة إلى جمهور المُشاهدين أطفالاً و كباراً.
و لأني لستُ ناقداً مسرحياً مُتخصصاً فلن أُجازف بالتوسُع و الإسهاب في تقييم العرض ، و سأكتفي بالتأكيد على أنه عرض جدير بأن يُعاد تقديمه لعدد أكبر من ليالي العرض و على نطاق أوسع يُتيح مُشاهدته لأكبر عدد من أطفال مصر ، و للكبار أيضاً ، و كذلك يجب على أكبر عدد من المُهتمين بالمسرح من نُقاد و كُتاب و مُخرجين أن يحرصوا على مُشاهدة هذا العرض الذي يُقدم فيه أتيليه المسرح بكُلية الفنون الجميلة ، و كتيبة شباب الأتيليه ، يُقدمون درساً هاماً في فن المسرح و حُب المسرح .
بعد نهاية العرض و خارج القاعة إختلط المُمثلون و هُم بعد بملابس العرض و ماكياجه بالجمهور في بهو المسرح و أخذوا في توزيع " الشيكولاتة " و إلتقاط الصور التذكارية مع الجمهور أطفالاً و كباراً في لفتة تأكيد على أجواء العرض ، و في إسقاط للحائط الرابع (و إن كان بعد نهاية العرض) مما خلق إمتداداً لجو البهجة التي بدأت قبل العرض مع الصورة التذكارية التي أشرت إليها في بداية حديثي ، و استمرت و ازدهرت على مدار العرض البديع .
أخيراً هي كتيبةٌ من الهواة نجحت في تقديم نموذج جديرٌ بأن يدرسه و يحتذيه المُحترفون في فن المسرح كما ينبغي أن يكون .
طارق فهمي حسين
نوفمبر ٢٠١٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق