الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

لبنان … يا قطعة سما / (١) بيروت.

لبنان … يا قطعة سما

( ١ )    بيـــــــروت




أستيقظ هذا الصباح أغالب آلاما جسدية هنا و هناك ربما تتعلق بمرحلة عمرية ما ! 
أنهض من فراشي  و قد فاجئني الإستيقاظ - ككل يوم - و لم أكن قد حسبت له حسابا ما !!!
أجلس في مكان مفضل من البيت ، أتناول بضع من حبات الكرز ، و أصب لنفسي كوبا من عصير الأناناس ، ثم أضغط أحد الأزرار فينبعث صوت فيروز صداحا و تسري نغماته في الجسد قشعريرة ، و يا لها من قشعريرة فيروزية أو بالأحرى : بيروتية …. مع كل كلمة و نغمة تنبعث من أوتار القيثارة الفيروزية الربانية تصعد روحي و تغادر المكان متلهفة نحو بيروت و شوارعها و ذكريات كل ركن … تلهث الروح و هي تعدو حافية في تلك الشوارع محاولة أن تزور كل شارع مررت به يوما و مر بي من تلك المدينة التي هي بحق كما قالوا عنها و عن لبنان كله   “ قطعة سما “ … من شارع الحمرا إلى الصيداني و جان دارك  إلى الفردان و من  المصيطبة إلى الشياح و من طريق الجديدة إلى كورنيش المزرعة و الفكهاني و مفرق الكولا إلى زاروب أم ذكور … و حتى صابرا … أواه يا صابرا ….


ثلاث سنوات من مطلع الشباب في تلك السبعينيات من ذاك القرن العشرين سكنت فيها بيروت و سكنتني بيروت ،  فكانت قصة حب لا ينتهي ، حتى و إن كان من طرف واحد ، و إن كنت أستبعد ذلك فبيروت لا تعرف سوى الحب و تحب حتى مبغضيها فما بالي بعاشقيها و بينهم أنا ؟! و أنا قد عشت بيروت في تلك السنوات من زمن الحرب العالمية الصغيرة الملقبة - زورا- بالحرب الأهلية اللبنانية و هي تسمية كاذبة خادعة فكيف تكون “ أهلية “ و أهل لبنان لا يعرفون سوى الحب ، و كيف يعرفون سواه ؟ كيف يملك أن يبغض من يملك الكرز و الأرز و صوت فيروز … و الأفق الممتد جبلا و بحرا ؟!!!
هي - بحق - حرب عالمية بين كثير من قوى الشر و مقاوميه في  العالم لم تتسع لها ساحة سوى جبال لبنان و وديانه و التي - في النهاية - إستعصت على الجميع و ظلت واقفة تنبت أشجارها و تطرح كرزها و أرزها و تصدح إلى عنان السماء بصوت فيروز …
                                                      ***

ذلك الفتى الذي كنته يوما كان في بيروت الطالب الجامعي و مشروع الصحفي الناشيء ( الذي لم يتم ) بقسم الإستماع بوكالة الأنباء الفلسطينية ، و المقاوم الفتحاوي و الحالم الناصري ، كان يسير في المظاهرة هاتفا مع الجموع : " الجيش السوري المحبوب ... لازم يطلع عالجنوب " ، و كان يتمترس حاملاً سلاحه مع الرفاق  الفلسطينيين  واللبنانيين على الحواجز عند الفجر يحرس معهم أجمل مدن الأرض …

كانت الحياة في بيروت في تلك الفترة أعجب مما يخطر ببال من لم يعايشها بنفسه ، فالمدينة كانت ترزح تحت عبء الحرب و الإنقسام إلى مدينتين غربية و شرقية ، و مناطق تماس خالية من البشر و تحكمها طلقات القناصة ، في بيروت الشرقية حيث كان يسيطر الإنعزاليون حلفاء الكيان الصهيوني كان القتل على الهوية لأبناء المناطق والطوائف و الإنتماءات السياسية غير المتوافقة مع قوى الإنعزال ، أما في بيروت الغربية حيث أرض المقاومة الفلسطينية و قوي التقدم اللبنانية المتحالفة معها فكان العيش المشترك لكل الطوائف و الإنتماءات الدينية و العرقية و السياسية شريطة وضوح الإنحياز لعروبة لبنان و شرعية إحتضانه للثورة الفلسطينية .

كانت وتيرة الحرب في صعود و هبوط دائم ، و كانت تتخلله الكثير من فترات الهدنة و الهدوء طبقا للحسابات ، و أحيانا الأهواء ، السياسية المختلفة ، فهاهو إسبوع كامل من القصف الصاروخي المتبادل و الإنقطاع الدائم للكهرباء ، لكن الحياة تمضي على نحو لا يستطيعه سوى الشعب اللبناني و من يختلطون به من المقيمين على أرض الأحلام ، أقصد أرض لبنان ! فالقصف لا يحول بيننا و بين أن نتزاور في البيوت و نتبادل “ العزائم “ و السهرات التي لا تخلومن عود يعزف و صوت يصدح بالغناء ! فقط عند العودة إلى البيت يشرح لك مضيفوك خطة المسير إلى “ مفرق الكولا “ مثلا حتى تحتمي بجسم الكوبري الذي هو تحت الإنشاء ( لم تتح ظروف الحرب إستكماله إلا بعد عشرات السنين ) فتشرح لك ربة المنزل أو أحد الأبناء كيفية السير من هنا لأول ناصية على الجانب الأيمن مثلا من الشارع لتتجنب إتجاه القصف ، و بعد ذلك و مع إنحراف الطريق إلى اليسار مثلا عليك أن تعبر إلى الرصيف المقابل لتظل بمنأى عن إتجاه القصف ، و هكذا ، مع الأخذ في الإعتبار أنه إذا تناهى إلى سمعك صوت صفير قصيرهامس فهذا يشير إلى سقوط وشيك لصاروخ على مقربة منك ، عليك عندئذ أن تنبطح أرضا على الفور … و هكذا و الله يسلم ، هكذا فقط ، لكن أن تتوقف الحياة أو نمتنع عن التزاور أو حتى الذهاب مع الصحاب لأكل لحم بعجين أو تناول بعض  الحلويات الشرقية ؟! لا يا أخي ما بيكون هيدا لبنان ! مسألة إلتزام البيوت و النزول إلى الخنادق هذه تسمع عنها في أي بلد في العالم إلا في لبنان ، فالعالم كله يعرف الحياة و الموت ، أما لبنان فلا يعرف إلا الحياة رغم كثرة ماذاقت أرضه من موت و قتل و دمار إلا أن الأمر فيما يبدو لم يأت على “ هوى “ لبنان و شعب لبنان فتجاهل الأمر و مضى في حياته و إن ظل يدفع حصته  الفادحة من الموت و لكن بإمتعاض و تجاهل عجيب !
أما في فترات الهدوء المؤقتة ( في ذلك الزمن من سبعينيات القرن العشرين ) فكنت ترى العجب : مطاعم و دور سينما جديدة تفتح أبوابها ، إعادة رصف لكل حفرة صنعتها شظية في أصغر الشوارع ، الناس جلوس في المقاهي اللامعة في شارع الحمراء - الذي كان وقتها في ريعان شبابه - ، أحدث الموضات تزين فتارين المحال التجارية ، مسرحية جديدة لفيروز على مسرح البيكادللي ، و مسرحيات زياد الرحباني الأولى المتمردة على مسرح آخر متسائلا : بالنسبة لبكرة …شو ؟  مسرحية أخرى ساخرة ساخطة بعنوان صادم “ … أخت هالحالة “ !
                                                          ***


قصص الحب و الأيدي المتشابكة على شاطيء الروشة و مقاهي الحمرا و في الزوايا … المناضلة اللبنانية الصبية الجميلة التي تدرس بالجامعة و تعمل و تشارك بالنشاط السياسي و الإجتماعي بل و العسكري ، فتقود المسيرات و الندوات و تنظم معسكرات الأطفال ، و تزور عائلات المقاتلين و تتدبر مساعدتهم و دعمهم ، وصولا إلى إستقبال الأسلحة الواردة للمقاومة لتجلس إلى “ طشت “ كبير مملوء بالكاز ( الجاز ) و الشباب من حولها يفكون أجزاء البنادق الصينية الجديدة و هي تتولى غسلها لإزالة الشحم عنها و تجفيفها  ليعاود الشباب تركيبها لتصبح جاهزة للإستعمال !… كثير منا وقع في حبها من طرف واحد ، و جميعنا إلتزم الصمت فلم يجرؤ أحد على الإقتراب من محظور البوح حتى لا يفقد رفقتها و أخوتها بل و الإنضواء تحت زعامتها الإختيارية رغم صغر سنها و ظاهر حسنها ! أما هي فكان واضحا للعيان أنها لم تترك هامشا من عواطفها لشأنها الخاص فوهبت من نفسها كلها إلى لبنان و ترابه و فقراءه وأمته العربية …


أما  إبنة الجيران الجميلة التي ظللت مكتفيا بالنظر إليها من بعد عبر البلكون و لا تجرؤ على محاولة لفت نظرها نظرا لظروف الحرب شديدة التوتر ، إذا بها تنتهز فرصة أن يجمعكما منفردين مصعد البناية ، و قبل أن تغادر المصعد في الطابق الذي تقيم فيه تدس في يدك شيئا و تخرج مسرعة خجلى ، تفتح يدك لتنظر فإذا به شريط لأغنية أم كلثوم “ الحب كده “ و مكتوب عليه إهداء رقيق  … لكني في الصباح التالي كنت مغادرا إلى مصر ، أما الشريط فلم يغادر مكتبتي حتى اليوم …

هذا بعض ما مر بخاطري من ذكريات بيروت و زمنها النبيل ، و هو البعض القليل فالسطور مهما إتسعت تضيق بحكايات بيروت و ذكرياتها العطرة 


                                                                                طارق فهمي حسين  

أغُسطُس ٢٠١٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق