صيدلية " ج.شاكر "
الزمان : الثُلاثاء ١٤ إبريل ٢٠١٥
المكان : شارع الحمراء - بيروت - لبنان
======================
أما السؤال : فما مغزى الحرص على إلتقاط صورة أمام صيدلية ، في بلد لا يوجد له مثيلا في جمال الطبيعة و كثرة الأماكن الخلابة التي يحرص أي إنسان على أن تلتقط له الصور فيها ….
الإجابة في القصة التالية ، و التي قفزت من أعماق ذاكرتي حين كنت أسير في الحمراء فإذا بي أجد صيدلية “ ج. شاكر” ماثلة أمامي بدون أي تغيير في الشكل و الواجهة و حتى اللافتة عما تركتها عليه مُنذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان .
في شهر أغسطس من عام ١٩٧٥ ، و بعد إنتهيت من إمتحانات الثانوية العامة سافرنا إلى بيروت لقضاء جانب من أجازة الصيف مع أبي ( كان ذلك قبل إنتقالي فيما بعد للإقامة ببيروت ) و أثناء وجودنا ببيروت وصلتنا الأنباء من القاهرة بظهور نتيجة الثانوية العامة و عدم نجاحي في إجتياز “ مضيق “ الثانوية العامة الشهير في ذلك العام ….
في المساء حضر إلى بيتنا كالمعتاد الشاعر و الكاتب الكبير و السينمائي و الموسيقي و المناضل العملاق عبد الرحمن الخميسي فوجدنا و قد خيم علينا جميعاً الحُزن ، و أنا بالذات يُخالط حُزني خجل شديد من أُمي و أبي ، فإستنكر القديس عبد الرحمن الخميسي هذه الأجواء و أجلسني أمامه و مال بقامته المهيبة إلى الأمام ليواجهني عن قُرب مُحدقاً بعينيه العميقتين الطفوليتين في ذات الوقت في عينيَّ و قال لي : إن ماوتسي تونج زعيم الصين حين جهز جيشاً للمرة الخامسة محاولاً أن يُحرر بلاده من الإستعمار الياباني و هُزم قال : هذا مُجرد فشلي الخامس ! و عاود الكرة مرات و مرات حتى دان له النصر و حرر بلاده التي صارت من أعظم دول العالم بعد ذلك ، ثُم أردف : إذن يا طارق هذا مُجرد فشلك الأول ! فإذا بي أشعُر بالدماء تسري من جديد في عروقي و بشعور بالإصرار و الإعتزاز بالنفس يحل محل شعور الخزي و الخجل الذي كان مُسيطراً علي قبل قليل ، ثُم نهض القديس واقفاً آخذاً بيدي و أعلن : “ ها ننزل أنا و طارق نتمشى شويه في الحمرا ، و لم يعرض على أي من الموجودين النزول معنا …
و بالفعل نزلنا إلى شارع الحمرا و أخذنا نتمشى و نتبادل الحديث - ذلك العملاق الخميسي و أنا - كأي صديقين من ذات الجيل !!! و أخذ القديس يروي لي من حكاياته و طرائفه التي لا تنضب و أنا مع كُل خطوة و كُل كلمة أشعُر بقامتي تزداد طولاً و هامتي تطاول عنان السماء و أنا أسير مع صديقي عبد الرحمن الخميسي !!! و الذي على الرغم من قدم علاقة أسرتي به رفيقاً و صديقاً بل و جار أيضاً في القاهرة ، و برغم أن حظي من الجلوس إليه و الإستماع إلى حديثه كان كبيراً لكنها كانت المرة الأولى التي يختصني منفرداً بحديثه و صحبته … حتى وصلنا في شارع الحمراء إلى هذه الصيدلية التي تظهر في الصورة : صيدلية ج . شاكر ، و لما كان القديس عبد الرحمن الخميسي في تلك المرحلة من العُمر مولعاً بتشخيص الأمراض لنفسه و وصف الدواء بالتبعية ، حتى أنه في إحدى المرات شخص لنفسه نوبة قلبية فضحك أبي و قال له بل عله إنتفاخ بالمعدة إثر وجبة لبنانية دسمة أدى إلى أن ضغط الحجاب الحاجز على صدره فسبب ألماً توهمه الخميسي نوبة قلبية ، و قدم له أبي حبتين من دواء للهضم إسمه “ فستال “ و بالفعل بعد وقت بسيط زال الألم فهلل الخميسي مُشيداً “ بعبقرية أبي الطبية “ و أقسم أن يفتح له عيادة يُمارس فيها “ هواية “ الطب !!!
إستطراداً : لما كان الأمر كذلك بالنسبة للقديس عبد الرحمن الخميسي كما أسلفت : يُشخص لنفسه الأمراض و يصف الدواء ، فما أن وقع بصره على هذه الصيدلية حتى أخذني من يدي و دلفنا إلى داخل الصيدلية حيثُ أخذ “ يتسوق “ تشكيلة متنوعة من الأدوية بإهتمام و إستمتاع بالغين ، و قبل أن يدفع الحساب لنخرج من الصيدلية توقف فجأة و كأنما تذكر شيئاً هاماً و نظر إلى وجهي مُتفحصاً ( و كُنت في سن السادسة عشر ) ثُم إنتقى من فوق أحد الأرفف فُرشاة حلاقة من ماركة أوميجا الفاخرة و أهداها لي فكانت أول عهدي بأدوات حلاقة الذقن !!! و حتى يومنا هذا ، و على مدار أربعة عقود كاملة من الزمان مازلت أستخدم ذات الفُرشاة بعينها و لا أتصور لها بديلاً رغم ما وضع عليها الزمان من بصمات و ما أصاب شُعيراتها من شيخوخة و جفاف ، لكني لا أملك ترف الإستغناء عن هدية صديقي الكبير عبد الرحمن الخميسي الذي لا أنسى يوم كُنت عائداً في أجازة إلى القاهرة وحدي فجلس يُحملني بالرسائل الشفوية و الوصايا العاطفية حتى بكى بالدموع و هو يُعبر عن إفتقاده للعودة إلى مصر قائلاً : أنا عبد الرحمن الخميسي إسمي محفور على كُل حجر في مصر و لا أستطيع أن أعود إلى أحضانها و أن أسير في شوارعها و أجلس في مقاهيها ، لاعناً السادات و زمنه الذي تسبب في هذا الوضع …
اليوم و بعد أربعة عقود كاملة - كما أسلفت - من تلك القصة ، كُنت أسير في شارع الحمراء بصحبة زوجتي و معنا الرفيقة العظيمة رحاب المكحل ، فإذا بي أُفاجأ بصيدلية ج. شاكر قابعة على الرصيف المُقابل كما تركتها مُنذ عقود دون أي تغيير في الواجهة أو اللافتة أو أي شيء رغم ما أصاب شارع الحمراء كله من تغييرات كبيرة ، فهرعت كالطفل عابراً إليها و طلبت من زوجتي أن تلتقط لي صورة أمام الصيدلية العتيدة ، و أنا حين أُمعن النظر في هذه الصورة أرى القديس عبد الرحمن الخميسي واقفاً إلى جواري ، أو - للدقة - أجدني واقفاً في ظله الوارف بقامته العملاقة و هو يحمل في إحدى يديه ذلك الكيس البلاستيكي البسيط الذي لم يكن يفارقه و الذي كان يضع فيه أغراضه البسيطة و منها أدويته التي لم يكتبها له أي طبيب ، و واضعاً يده الأُخرى فوق كتفي مُطمئناً و مُشجعاً و مُحفزاً …..
طارق فهمي حسين
١٥ إبريل ٢٠١٥
جميل
ردحذفمتشكر جدا
ردحذفتحياتي وتقديري
ردحذف