الجمعة، 1 ديسمبر 2017

كازابلانكا و عبء الرجُل الأبيض.

كازابلانكا و عبء الرجُل الأبيض.
===


لا أدري تحديدا كم هي عدد مرات مشاهدتي على مدار السنين للفيلم الأمريكي الشهير : " كازابلانكا"  ، الفيلم من إنتاج عام 1942 و يعد واحدا من أهم كلاسيكيات السينما العالمية ، و هو من بطولة إثنان من أهم نجوم زمانهما هما همفري بوجارت و السويدية الساحرة إنجريد برجمان ، و لا يوجد من يمكن أن يشاهد هذا الفيلم و لا يستوقفه العنصر المشترك بين كلا النجمين الشهيرين ألا و هو قوة الحضور الطاغي الذي كان يتمتع به كلاهما أمام الكاميرا فضلا عن الأداء الواعي و القدرة على الإنفعال الداخلي بالشخصية .
و بعيدا عن الإستطراد في النقد الفني للفيلم الشهير ، و الذي لا أزعم إمتلاكا لأدواته ، فإنني لدى مشاهدة حديثة منذ أيام لفيلم "كازابلانكا" وجدتني أتأمل في جوانب أخرى للفيلم - و ما وراء الفيلم – أبعد ما تكون عن النواحي الفنية ، و هي جوانب لطالما لفتت نظري بدرجة أو أخرى مع كل مشاهدة للفيلم و لكن ربما هذه المرة ، و في خضم ما نحياه من أجواء لا أحبذ الخوض فيها الآن ، شاهدت الفيلم من زاوية مختلفة تماما ، و إن كانت واضحة طوال الوقت و ربما منذ اليوم الأول لعرض الفيلم قبل أن أولد أنا نفسي بسنوات طويلة !
تدور أحداث الفيلم في عاصمة المغرب االدار البيضاء أو " كازابلانكا " كما يراها الغرب و كما أسماها الأسبان و الفرنسيون من بعدهم !  لكن المدينة العربية هنا لا تذكر على مدار زمن الفيلم بوصفها مغربية أو عربية ، و إنما هي " فرنسا غير المحتلة " تمييزا لها عن فرنسا المحتلة بقوات الرايخ الثالث الألماني ! نعم هكذا ، فالفرنسيون ببساطة كانوا يعتبرون الدول التي تحتلها قواتهم العسكرية جزءا من أراضي فرنسا ، و هي فرضية تواطأ مع فرنسا فيها و أقرها عليها كل الغرب الإستعماري بما في ذلك ألمانيا النازية التي كانت تحتل فرنسا نفسها ضمن معظم أراضي أوروبا ، و بالطبع أقرتها السينما الأمريكية – صانعة الفيلم – كما لو كانت مسألة بديهية !
على مدار زمن الفيلم قد لا نرى مواطنا مغربيا واحدا ( و ما الذي يأتي بالعرب إلى فرنسا غير المحتلة ؟!) اللهم إلا في مشهد وحيد حيث نرى بائع أقمشة مغربي يحاول أن يبيع أنجريد برجمان قطعة من القماش بادئا بسعر 800 فرنك نزولا حتى مائة فرنك فقط في إيماءة إلى مستوى "أخلاقيات" هؤلاء " العرب المغاربة " ، و هناك شخص آخر يظهر في مشهد ما يضع على رأسه ما يشبه الطربوش المغربي و إن كان إسمه ) فراري ) لا يُشير إلى إحتمال كونه مغربيا ، و عموما هو شخص – حسب الفيلم – يبيع تأشيرات السفر في السوق السوداء !
فيما عدا ذلك فإننا طيلة الفيلم نعيش في " فرنسا غير المحتلة" و نعايش مباراة في النبل و التضحية بين إنجريد برجمان من ناحية و بين العاشق الأمريكي و الزوج الفرنسي من ناحية أخرى ، و ثلاثتهم بالطبع ينضوي تحت لواء الوطنية و مقاومة النازية بدرجات متفاوتة ، و ينضم إليهم في نهاية الأحداث في مباراة النبل و الوطنية هذه حتى الضابط الفرنسي الذي يعمل تحت ضغط و أمرة القوات النازية  ( يلعب دوره كلود راينز) ، و لعل من أكثر مشاهد الفيلم " إستفزازا " من وجهة نظري ذلك المشهد الذي يجري في الحانة (أو " مقهى ريك " ) حين يبدأ ضباط النازي في التغني بنشيد " وطني " ما فيستفز ذلك مشاعر رواد الحانة الفرنسيين من الضباط و فتيات الليل فينبرون جميعا  لإنشاد النشيد الوطني لفرنسا و يتبارى الطرفان في رفع أصواتهما على بعضهما البعض - و كؤوس الخمر في أيدي الجميع – حتى تتحقق الغلبة للفرنسيين مما يثير حفيظة القائد الألماني فيأمر القائد الفرنسي بإغلاق الحانة ( الأمريكية ) ....
و رغم أن الفيلم تم تصويره بالطبع في ستوديوهات هوليوود إلا أنني في ذلك المشهد تحديدا اكاد أسمع أرض الدار البيضاء و هي تئن تحت أقدام أحذية جنود الاحتلال الفرنسي الثقيلة ، ناهيك عن أحذية جنود    " إحتلال الاحتلال" الألماني !!!
هكذا أرى اليوم فيلما مثل كازابلانكا، و دون أدنى إنكار لقيمته الفنية و الرومانسية ، لكنه من زاوية أخرى يمثل تجسيدا بسيطا لنظرة المستعمر الغربي للعالم " الآخر " أو لكل ما سوى الرجل الأبيض سواء في مسقط رأسه الأوروبي أو إمتداده و تمدده الأمريكي ، و هي نظرة مستمرة سواء ماقبل " كازابلانكا" او ما بعده و حتى يومنا هذا .
و من المؤسف أن هذه النظرة التي ترى العالم كله فناءا خلفيا للرجل الأبيض و نزواته و أطماعه و إحتياجاته من المواد الخام و منافذ بيع منتجاته – اللازم منها و غير اللازم – و مدفن لنفاياته سواء النووية أو الأخلاقية و خلافه ، و التي تشمل جعل هذا "الفناء الخلفي " أيضا ساحة لصراعات الغرب الاستعماري ، الذي أستقر فيما يبدو على عدم تكرار معاناته على أرضه من ويلات الحربين الأوروبيتين الأولى و الثانية ، و المسمتان – زوراً- بالحرب العالمية سواء الأولى أو الثانية ،  فدخل في إتفاق ضمني غير معلن لقصر صراعاته الدموية على العالم " الخارجي " أو العالم " الآخر" لتبقى عواصم الغرب في أوروبا و أمريكا متلألئة بالأضواء و صداحة بالموسيقى و متشدقة بالحرية و الرخاء و حقوق الإنسان ( الناصع البياض بالتأكيد ) ، و لعل في هذا بعض التفسير للشماتة الدفينة – رغم الإدانة الصادقة - التي قد يشعر بها البعض من سكان " العالم الآخر " حين يطال عمل تخريبي ما قلب أوروبا أو الولايات المتحدة فيخمش وجهها اللامع الملطخ بالمساحيق البراقة ، و حين تنحدر دمعة أو إثنتان من دموع الفزع و الألم على وجنة أو أخرى من تلك الوجنات البيضاء الناعمة ، و هي شماتة قد ننكرها ، لكننا في ذات الوقت قد نتوسم – للأسف - بعض أسبابها !!!
قد يرى البعض أنني مدين بالإعتذار لمحبي الفيلم الشهير – و إن كنت واحدا منهم – عن السطور السابقة و التي قد يرى فيها البعض تحميلا للأمور بأكثر مما تحتمل ،لكني قد أفكر في مثل هذا الإعتذار حين " يفكر"  الرجل الأبيض  في التخلي عن " العبء" الذي حمله لنفسه دون مبرر واضح و دون طلب من أحد تجاه بقية البشرية ، بل لعلي أناشده ( في لحظة سذاجة مفرطة ) أن يترك كلٌ  يتحمل أعباءه ... حينها قد يلزمني الإعتذار  و العودة للإستمتاع بالفيلم من زاوية فنية بحتة !
طارق فهمي حسين
                                                                                                ديسمبر 2015






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق