الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

الــ " بست هوم "


الـ " بست هوم "
=====

page1image1600page1image2096
هذا البيت شبه المهجور في شارع الصيداني بمنطقة الحمراء في بيروت هو
ما كان يعرف ببناية “ بست هوم... “
في سنوات السبعينيات من القرن الماضي كان أبي هو أول من سكنه من
الكتاب و الأدباء و المثقفين المصريين الذين كانوا ُيلقبون بالطيور المهاجرة ، و
الذين غادروا مصر مابين مختار و ُمضطر  لينأوا بأنفسهم عن البيئة السياسية
و الصحفية الملوثة التي سادت في عهد السادات...
كانت شقتنا الصغيرة التي تحمل رقم ٤٤ في الطابق الرابع من هذه البناية
أشبه ببيت الأُمة حيثُ كانت المحطة الأولى لأغلب من وصلوا إلى بيروت من
المناضلين و المُثقفين المصريين في تلك الفترة سواء قادمين من مصر
لرفضهم التفريط الذي كان يقوده السادات ، أو قادمين من عواصم عربية أخرى
رفضاً لسياسات التجنيد و الإحتواء التي كانت تمارسها عليهم الأنظمة
الحاكمة في تلك الدول !
في شقتنا هذه التي كانت مكونة من غرفة واحدة للنوم و صالة صغيرة و
بلكونة واسعة إستضاف أبي العديد من تلك الطيور النبيلة المهاجرة أياما و
أسابيع قبل أن يتم تدبير أماكن إقامة خاصة بهم ، و أحياناً في ذات البناية :
بست هوم.
فشرُفت شقتنا المتواضعة على سبيل المثال بإستضافة القديس عبد الرحمن

الخميسي ، و الكاتب و باحث التراث شوقي عبد الحكيم ، و المناضل و أحد
قيادات الحركة الطُلاب الشهيرة في عام ١٩٦٨ ماجد إدريس ، و الفنان
المُناضل محمد حمام ، و غيرهم كثيرون ، و بالطبع كانت إستضافة هؤلاء
تحدث تباعاً فلم تكن الشقة لتتسع لأكثر من ضيف واحد بالإضافة لأبي و أنا
كما تشرفت بعض ُشقق هذه البناية أيضاً بإقامة ُكل من الكاتب الأديب
المُناضل براء الخطيب ، و الكاتب سيد خميس و إبن شقيقته الحقوقي
ُحسني أمين ، و غيرهم حتى كانت هذه البناية بحق معقلاً لكوكبة من أنبل
أبناء الحركة الوطنية و التق ُدمية المصرية ، كذلك كانت شقتنا الصغيرة رقم ٤٤
أشبه بمركز ثقافي و ُملتقى سياسي يومي للعشرات من وجوه التيارات
القومية و التقدمية العربية من ُمختلف الأقطار العربية بالإضافة للمصريين ،و
كانت اللقاءات الفكرية و السياسية اليومية تتم بالتناوب بين شقتنا هذه و
بيت المناضل و الكاتب الفلسطيني زياد عبد الفتاح المُدير العام لوكالة الأنباء
الفلسطينية (وفا) و زوجته ماجده التي كانت رغم حداثة سنها أشبه بأُم
المصريين في لبنان و بين شقة الكاتب و المُناضل الأردني النبيل غانم ُزريقات
وزوجته الوديعة إيلين، ُكنا نتجمع شبه يوميا في واحد من هذه البيوت في
نهاية يومنا المليء بالعمل و النضال السياسي و الثقافي و أحياناً العسكري
في تلك الأيام من سنوات الحرب الأهلية في لبنان الأبي لنتجمع حول الطعام
و الثقافة و السياسة أو حول قادم جديد نسمع منه و يسمع منا جانب من
الليل ثُم نتفرق للنوم إستعداداً ليوم جديد من السياسة و الصحافة و القتال
لكن ظلت شقتنا رقم ٤٤ من تلك البناية “ بست هوم “ تتفرد بسحر خاص قد
لا يعرف الكثيرون منا سره الذي كان يتمثل في شبه الإجماع حول شخصية
أبي فهمي حسين التي تجمع و لا تفرق و الذي كان يمتلك قدراً من النُبل 
الحكمة و الود يتسع للجميع ، فقد شهدت هذه الشقة المتواضعة ميلاد
العديد من الحركات و التجمعات المصرية المقاومة للنظام الحاكم المُفرط الذي
كان قائماًً في مصر في تلك الفترة ٠( و أراه لا يزال قائماً بالمُناسبة)....
شهدت هذه الشقة الصغيرة مثلاً ميلاد التج ُمع الوطني للمصريين في الخارج
و الذي كان إمتداداً لحزب التج ُمع الوطني التق ُدمي الوحدوي في مصر ( و
الذي كان شأنه في ذلك الزمن غير شأنه اليوم بالتأكيد ) و الذي إن ُتخب أبي
ُمقرراً له ، كما شهدت مثلاً ميلاد فرع لُبنان من إتحاد الشباب الديموقراطي
المصري على يد الراحل ماجد إدريس ، و الذي تشرفت بانتخابي رئيساًً له
في تلك الفترة...
ضمت سهرات تلك الشقة السياسية و الثقافية كوكبة كبير ة من المُناضلين  و
المُثقفين العرب من أغلب الأقطار ، من ُهم مثلاً كما أسلفت عبد الرحمن
الخميسي و زياد عبد الفتاح و ماجد إدريس و براء الخطيب و فاروق عبد القادر
و أحمد الأزهري ( فاروق القاضي) المُستشار السياسي للقائد ياسر عرفات ،
و أبو الخل و أبو توفيق و سيد خميس و شوقي عبد الحكيم و غانم ُزريقات و
حيدر حيدر و الناشر سليمان ُصبح و الدكتور عبد القادر ال ُقط و الشعراء ُمعين
بسيسو و محمود درويش ، و سمير كرم و زوجته إجلال و الراحل محمد
إسماعيل مدير تحرير وفا و زوجته سهام ، و رحاب المكحل و معن بشور و
بشاره مرهج و طاهر الشيخ ( جمال الدين شولاق) و ساميه صابر ( إيمان
في ذلك الوقت ) و الفنان عدلي فخري و محمد حمام و زوجته راوية
المانسترلي و المُلحن حسن نشأت و الروائي رؤوف مُسعد و السينمائي  فؤاد التُهامي و أسماء لا
حصر لها ربما بين بعضها قدر كبير أو قليل من التباين الإنساني و الفكري لكن
يجمعهم جميعاً في تلك الحقبة خيطُ واحد متين هو ُحب الوطن العربي الكبير
و الإيمان بالمُستقبل و بالقضية الفلسطينية و عدالتها ، و كذا الإستعصاء على الكسر أو التدجين....
كان هذا كما أسلفت في السبعينيات من القرن العشرين....
أما اليوم ، أو تحديداً بالأمس وقفت في شارع الصيداني ببيروت أتطلع إلى “
بست هوم “ و قد آل حاله إلى ما يتبدى في هذه الصور ، فمر أمامي شريط
الذكريات و تتابعت في ذهني الصور و الوجوه التي تفرقت بها ال ُسبل فمنهم

من غادر ُدنيانا،ومنهم من إنسحب إلى داخل ذاته وحياته الخاصة،ومنهم
من مازال يحمل رايات الكفاح و الدفاع عما يؤمن به حتى اليوم سواء في بيروت أو في مكان آخر...
وقفت ُمحدقا ًبالبناية التي غادرتها ُمنذأكثرمن ثلاثة عقود من الزمان أتأمل
حالها و حالي و ُأفكر : هل هي مرآة أرى فيها حالي أم هي - على هذا النحو
الذي آلت إليه - أشبه بنُصب تذكاري أو ضريح لحركة الثورة و القومية و التقدم
العربية ؟ ... أرجو أن أكون ُمُخطئاً  ... لكن على أية حال فها أنا و قد من علي
الله بعد ُكل هذا الزمان أن أعود إلى بيروت - و لو لأيام معدودة و أقف أمام ...
البست هوم ... أو ما تبقى منه!!!


طارق فهمي حسين
  ١٥ إبريل ٢٠١٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق