الخميس، 7 ديسمبر 2017

١- المعهد العالي للإغريق .


١- المعهد العالي للإغريق .
=======

في إحدى المراحل من شبابي ، و قبل أن تجرُفني الحياة و الوظيفة المكتبية بشكل تام ، راودني حلم التمثيل ، فإلتحقت بعد حصولي على بكالوريوس الإقتصاد من جامعة الأسكندرية بقسم الدراسات الحُرة بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة ، و كان حرصي على هذا النوع من الدراسة يهدف إلى " تثبيت العوامل الأُخرى " على حد التعبير العلمي المعملي ، بمعنى أن أوفر لنفسي الأدوات و الظروف الكافية بحيثُ لو أخفقت في مشوار التمثيل يكون سبب الإخفاق هو غياب الموهبة و لا يكون لدي أعذار أُخرى كغياب الدراسة أو التدريب مثلاً ، لكني إكتشفت فيما بعد أسباباً أخرى كثيرة لعدم إستكمال ذلك المشوار الجميل بعيداً عن شُبهة غياب الموهبة ، المُهم أنني إجتزت إمتحان القبول بالمعهد أمام لجنة برئاسة الراحل الكبير عبد الرحيم الزُرقاني و كان بين أعضائها د. حمدي الجابري و د. سناء شافع و آخرين لا أتذكرهم لقصور في الذاكرة رغم عظم شأنهم بالتأكيد حيثُ تقدمت بمشهد من " ثأر الله " لعبد الرحمن الشرقاوي و كان تحديداً مونولوج : " الكلمة " ، و هو ذات المشهد الذي تقدمت به فيما بعد للإلتحاق بفرقة ستوديو ٢٠٠٠ ، و في المعهد تلقيت دروساً و تدريبات في فن التمثيل و البانتوميم و التذوق الموسيقي و النقد المسرحي و الديكور و تاريخ المسرح و درسنا أعمال سوفوكليس و إسخليوس و يوريبيدس و شكسبير و إبسن و علي سالم و صلاح عبد الصبور و غيرهم ، و أسعدني الزمان بحق بأن كُنت تلميذاً للمُثقف الكبير سعد أردش ( قردش ) الذي كان يُحاضرنا في السياسة و الإقتصاد بقدر ما يُحاضرنا في فن التمثيل ، حتى أنه في إحدى المُحاضرات سأل بإهتمام : " حد هنا دارس إقتصاد ؟ " فرفعت يدي مُنفرداً ، فإستكمل كلامه لنهاية المُحاضرة وكأنه يُحاضرني وحدي ! ... و الرائ نبيل الألفي الذي كان يحفظ عدداً لا يُحصى من أهم مونولوجات أشهر النصوص المسرحية العالمية ، و كان يُلقيها بسلاسة و إحساس و طلاقة مُذهلة ، و الجميل : إلهامي حسن أُستاذ تاريخ المسرح ، و د. نبيل حجازي أُستاذ النقد المسرحي البديع و د. سناء شافع و الجميلة الأنيقة د. سميرة مُحسن التي قالت لي وقتها أنها تعتبرني بمثابة "المُعيد" من بين طُلاب الدراسات الحُرة و ذلك تقديراً منها لما لمسته في من تميُز في مادة البانتوميم و التي كانت تُدرسها لنا ببراعة ، و كذا د. نجاة علي أُستاذة فن الإلقاء ، و المُخرج المسرح الراحل د. عوض محمد عوض و العملاق الراحل الموسيقار و الناقد الموسيقي عبد الحميد توفيق زكي أو " بابا عبد الحميد " كما كان الكُل يدعونه و الذي درسنا على يديه مادة " التذوق الموسيقي " .
و الحقيقة أن دراستي لذلك الكم من النصوص المسرحية الإغريقية تحديداً و التراجيدي منها على الأخص فتنني بفكرة " البطل التراجيدي " و سقوطه المدوي الذي هو رُكن أصيل من أركان الدراما التي أسسها الإغريق و توارثها عنهُم كُتاب المسرح على مدار التاريخ ، و للأسف فإن إفتتاني بهذه الفكرة ( البطل التراجيدي ) في تلك المرحلة المفصلية من شبابي كان له أثراً كارثياً على حياتي و تحديد اً على بعض من الأمور الأساسية فيها و ربما لبقية العُمر ، لكن تلك قصةٌ أُخرى ...
في بداية إحدى الدورات الدراسية إنضمت إلينا طالبة جديدة إنضماماً دراماتيكياً إلى حد ما ، إذ جاءت بصحبة إحدى الشخصيات ذات الحيثية بالمعهد محاطة بهالة من الإهتمام ، كانت سيدة شقراء " إلى حد ما " ذات عيون خضراء و أشيعت حولها معلومة أنها حاصلة على دكتوراه في " الكمبيوتر " و أنها تخلت عن تخصصها و عن :" منصبها " حباً في الفن ، و بالفعل حققت هذه السيدة شهرة و إنتشاراً معقولين في الأعمال التلفزيونية تحديداً لفترة ، ثم بدأت تسري في الوسط الفني أقاويل أن مسألة الدكتوراة و التخصص المهجور حباً في الفن هذه مسألة مختلقة من الأساس ، و تحول الأمر في الوسط الفني إلى مادة للتندُر حتى إختفت " الدكتوره " تدريجياً من الوسط و خلت الشاشات من طلة وجهها الجميل !
كان طُلاب المعهد ( الإنتظام ) يدرسون بنظام اليوم الكامل فكانوا يتواجدون بالمعهد مُنذ الصباح الباكر و حتى الثامنة أو التاسعة مساءاً مما كان يُتيح لنا نحن طُلاب الدراسات الحرة الإختلاط بهم في الفترة المسائية و تكوين الصداقات مع بعضهم ، رأيت في تلك الفترة عددا كبيرا من الطُلاب الذين صاروا نجوماً بدرجات متفاوتة في تالي الأيام ، و منهم من كانت نجوميته قد بدأت بالفعل و هو بعد طالب مثل شريف مُنير مثلاً و شلة الشباب المرحين المُحيطين به و بسيارته الجيب الحمراء على ما أذكر ، رأيت للمرة الأولى الطالبة سلوى خطاب تقف في مُنتصف السلم الهابط من الطابق الأعلى فإستقر في يقيني أن هناك نجمة تولد و أن رمزية نزولها السلم إنما هي صورة معكوسة و واقع الأمر أنها و لابُد إلى صعود ، و قد كان ، و إن كان ليس بالقدر الذي توقعته لها و اللائق بجمالها و موهبتها ... ، و رأيت أيمن عزب و فتوح أحمد و ندى بسيوني و مُفيد عاشور و فاطمة الكاشف و أشرف طُلبة و ماهر سليم و نبيلة حسن ذات الصوت البديع و مجدي صُبحي ( مُمثل عبقري لم يُكتشف كما ينبغي ) و هشام عبد الحميد و الذي صار مُعيداً لمادة البانتوميم و كذا أشرف زكي ( و الذي صار بعدها مُعيداً وأخرج مشروع تخرُجي ) و الذي سألني وقتها على إستحياء عن مُرتبي الشهري عن عملي كموظف حيثُ أسر لي بأنه يُفاضل بين الإستمرار في وظيفة المُعيد بالمعهد و مجال الفن عموماً و بين أن يعمل بمؤهله الآخر ( بكالوريوس التجارة ) ، لكنه حسم خياره بالمضي في طريق الفن مُمثلاً و مُخرجاً مسرحياً و أُستاذاً بالمعهد و نقيباً للمُمثلين .
ومن الطلبة أيضاً أحمد صيام الذي قام وقتها ببطولة مسرحية " جُحا باع حُماره " على خشبة مسرح المعهد ( مسرح زكي طُليمات ) في إفتتاح مهرجان المسرح العربي الأول و الذي داوم المعهد بعد ذلك على عقده على مدار عقود ، و للمُفارقة أن ذلك العرض تزامن مع عرض نفس المسرحية في مسرح الإحتراف من بطولة الفنان فاروق نجيب ، و للحق فإن أداء الطالب أحمد صيام كان الأبدع بمسافة مُلفتة .
في ذلك المهرجان الأول قام المعهد بتكريم خريجي الدُفعة الأولى للمعهد ( 1947 ) و حضر بعضهم بالفعل فأطلوا على خشبة المسرح فكانوا كأساطير تمشي على الأرض رغم تواضعهم الشخصي الجم ، إذ كانوا : شُكري سرحان و فريد شوقي و عُمر الحريري و كمال حسين و عبد الله غيث ( حضر عن شقيقه حمدي غيث ) و ترُاوغني الذاكرة إن كانت نعيمة وصفي من الحاضرين أم كانت قد غادرت دُنيانا ؟
إلا أنني أذكر – على الجانب الآخر – أن المعهد كان قد دعا إحدى خريجاته بصفتها نجمة شهيرة لتقديم حفل الإفتتاح ، و هي نجمة مازالت تملأ الساحة ضجيجاً حتى اليوم و إن كان ضجيجاً " سياسياً ( هو هكذا تظن هي ) أكثر منه فنياً ، كما تُفتي في الدين في أوقات فراغها أحياناً ، كان حضورها باهتاً كوجهها المُختفي تحت طبقة لابأس بسُمكها من الأصباغ و قد إصطحبت معها إخيها الصغير الذي يحمل ذات وجهها لكن دونما أصباغ ، و صعدت إلى المنصة و ألقت بكلمة ركيكة عامرة بالأخطاء و مخارج الحروف الشوهاء ، حتى وصلت إلى الإعلان عن إسم عرض الإفتتاح فتعثر الإسم في فمها حتى تحول إلى " جُعا باع عُماره " بدلاً من " جُحا باع حماره " فسرت في القاعة ضحكات مكتومة ... و بالمناسبة فأنا لا أُنكر إطلاقاً أنها مُمثلة جيدة – على نحو ما – لكن الناس فيما يعشقون مشارب أو مذاهب ...
في هذا المهرجان أيضاً تم عرض مسرحية من فصل واحد بعنوان " الزنزانة " و هو نص أراه واحداً من أجمل ماقرأت من النصوص ذات الفصل الواحد و هو فضلاً عن جماله كنص فإنه ينطوي على مساحة واسعة من إمكانيات التمثيل المُتاحة لكُل من يؤدي إحدى الشخصيات الخمس الرئيسية ، و التي هي كُل شخصيات النص تقريباً و هم خمسة من المحكومين بالإعدام في زنزانة واحدة ، و النص كتبه د. نبيل أمين الطبيب البيطري و الطالب وقتها بالمعهد و الذي تكونت بيني و بينه وقتها صداقة جميلة ( رحمه الله ) ، تم عرض الزنزانة في ذلك المهرجان الأول للمسرح العربي بالمعهد و من بطولة طُلاب المعهد : فتوح أحمد و أشرف طُلبة و أشرف زكي و ناصر سيف و طلعت زكريا ، و ظل هذا العرض ، و النص نفسه عالقاً في ذاكرتي و وجداني حتى يومنا هذا ، حتى أنه كان فيما بعد مشروع تخرُجي مع أربعة من الزُملاء كان من بينهم الراحل الجميل غريب محمود و الذي كان وقتها قد بدأ يشق طريقه في المسرح التجاري حيث تزامن مشروع التخرج مع مُشاركته في العرض المسرحي الشهير "علشان خاطر عيونك " مع الراحل العظيم فؤاد المُهندس و شيريهان ، و في إحدى بروفات الزنزانة ( مشروع التخرُج ) التي لم يحضرها غريب حدد المُخرج - المُعيد أشرف زكي موعداً للبروفة القادمة و كلفني بإبلاغ غريب للحضور ، فذهبت إليه في كواليس المسرح لأخطره فخرج لي بملابس العرض – و كنت لم أشاهد العرض بعد – فأضحكني منظره في تلك البدلة الطريفة و الحذاء و البابيون المخططين و إستقر في نفسي أن غريب سيكون له شأن كبير في عالم الكوميديا ، و إنسانياً كان غريب محمود في فترة تزاملنا إنساناً بسيطاً متواضعاً بشوشاً و كان يتعامل معنا بروح الأخ الأكبر إذ كان وسطنا نحن الشباب ، رجلاً متوسط العمر و رب أسرة ، كان يمتلك حساً شعبياً مُحبباً و كان يتمتع بدهاء و طيبة أولاد البلد الحقيقيين ، و من طرائف ما أتذكره عنه أنه في يوم العرض ( إمتحان التخرُج ) فاجأنا بحضوره و قد إصطحب معه مُرافقاً في نفس سنه و حجمه تقريباً ، ثُم مال على أشرف زكي و أسر له ببضع كلمات فعلت الدهشة وجه أشرف زكي ثُم هز رأسه بالموافقة على مضض ، فإذا بالمُرافق المجهول يأخُذ كُرسياً و يدخل خلف الستار المُسدل على الحائط الخلفي للمسرح - و كان مسرحاً صغيراً داخل إحدى قاعات الدرس بالمعهد – مع تنبيهات مُشددة من أشرف زكي بألا يأتي بأي حركة تُشعر لجنة الإمتحان بموجوده ... نعم إنه مُلقن أتى به غريب محمود ليُساعده من خلف الستار !!!
و الطريف أنه بعد أن أنهينا العرض بنجاح ، و كما هو مُتبع بدأت اللجنة في مُناقشتنا واحداً تلو الآخر في النص و في أدوارنا كجُزء من الإمتحان ، و لما طال الأمر أخذ المُلقن يتململ خلف الستار فشعُر أعضاء اللجنة بموجود حركة غريبة فرفع د. سناء شافع صوته مُخاطباً من وراء الستار بالخروج ، فخرج من مكمنه وسط دهشة أعضاء اللجنة الذين بادروه بالسؤال : إنت مين ، فتقدم غريب محمود بشهامة الفُرسان موضحاً أنه " جاي معايا يلقنني " فعاجله سناء شافع : و إنت جاي تمتحن و مش حافظ ؟! فأجاب غريب باسماً : حافظ طبعا يا دكتور بس الأمر ما يخلاش ، فإنفرط وقار أعضاء اللجنة و إنفجروا بالضحك و تجاوزوا عن الواقعة تماماً .
أذكر أيضاً من طرائف هذا العرض / الإمتحان ان أحد الزُملاء كان يعمل طبيباً بشرياً و كان من مستوى إجتماعي مُرتفع ، و كان شخصاً رقيق الحاشية و يتبدى ذلك بوضوح في طريقة كلامه و نبرات صوته ، و كانت الشخصية التي يؤديها في العرض تتطابق مع شخصيته الحقيقية إذ كان يؤدي دور فتى ثري مُدلل إلى حد أنه يشتبك في الشارع مع سائق تاكسي على أولوية المرور بسيارته الفارهة فينزل من السيارة بعنجهية و يسحب مُسدساً من التابلوه و يقتل سائق التاكسي ببساطة ، كان التطابق بين سمات الشخصية المكتوبة و بين زميلنا الطبيب كبيراً إلى حد لا يتطلب منه مجهوداً كبيراً في الأداء و تقمُص الشخصية إذ كان يكفي أن يكون نفسه لا أكثر ، لذا فقد طلب منه أشرف زكي بل شدد عليه أن يتجنب قدر الإمكان التحدث إلى اللجنة بعد العرض ، و إن يقتضب ما إستطاع إذا إضطر للكلام حيث أنه حسب تقدير أشرف كمخرج و معيد بالمعهد أن اللجنة إذا لاحظت هذا التطابق في الأداء بين الشخصية و المُمثل نفسه لربما لن تجيزه كمُمثل ! و بالفعل كلما كان أي من أعضاء اللجنة يتوجه بالسؤال لزميلنا الطبيب كان أحدنا أو المُخرج نفسه يلتقط السؤال و يُبادر بالإجابة ، و نجح الأمر على هذا النحو و نجحنا جميعا و حصلنا على شهادة الدراسات الحُرة للمعهد العالي للفنون المسرحية – قسم التمثيل .
و في يوم ذهابي إلى المعهد لإستلام الشهادة كانت دُفعة جديدة من هواة التمثيل قد بدأت فصلها الدراسي الأول و لفت نظري في البهو الداخلي واحداً من هؤلاء الطلبة الجُدد كان مُصاباً في ساقه و يجلس في وسط البهو و يمد ساقه المُصابة على كُرسي آخر ، كان رجُلاً كبيراً في السن بالنسبة لي وقتها ، طويل القامة و كان يتألم من ساقه و يتبادل التحية مع زملاءه بصوت جهوري ... شاهدته كثيراً فيما بعد في عشرات و ربما مئات الأعمال الفنية ، ثُم كان لي شرف التعامل معه عن قرب فيما بعد في مسرح محمد صبحي ... كان إسمه : يوسف داوود ... ذلك الإنسان و الفنان الرائع رحمه الله .
و للحديث بقية ...

طارق فهمي حسين
٣ أكتوبر ٢٠١٧

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق